القراء من الصحابة بدمشق
وأثرهم في التعليم
تمهيد
بعد فتح بلاد الشام في عهد عمر بن الخطاب - وكان فتح دمشق بقيادة أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، ومعهما كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تلقوا عنه القرآن، واستقر كثير من الأجناد فيها وازداد عددهم- تنبه أمير دمشق يزيد بن أبي سفيان إلى حاجة أهل الشام إلى من يعلمهم ويقرئهم القرآن.
فأرسل يزيد إلى عمر بن الخطاب يطلب منه أن يرسل إلى دمشق بعض الصحابة من حفظة القرآن فوجه عمر ثلاثة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلاد الشام قاموا بتعليم الناس القرآن في حمص ودمشق وفلسطين.
قال محمد بن كعب القرظي:
جمع القرآن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وأبو أيوب، وأبو الدرداء، فلما كان زمن عمر بن الخطاب كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إن أهل الشام قد كثروا وربلوا وملؤوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فدعا عمر أولئك الخمسة فقال لهم: إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فأعينوني رحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم فاستهموا. أو أن أنتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنستهم، هذا شيخ كبير، لأبي أيوب، وأما هذا فسقيم، لأبي بن كعب، فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء. فقال عمر: ابدؤوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة منهم من يَلْقَن، فإذا رأيتم ذلك فوجهوا إليه طائفة من الناس، فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين، فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين. فأما معاذ فمات عام طاعون عمواس، وأما عبادة فصار بعد إلى فلسطين فمات بها، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات.
- ودخل أبو الدرداء دمشق وجلس في مسجدها في الجانب الشرقي منه، في محراب الصحابة حيث كان الصحابة يعلمون الناس.
قال سويد بن عبد العزيز:
كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا صلى الغداة في جامع دمشق، اجتمع الناس للقراءة عليه فكان يجعلهم عشرة عشرة، ويجعل على كل عشرة عريفاً، ويقف هو في المحراب، يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك، وكان ابن عامر عريفاً على عشرة. فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر.
ويبدو أن حلقات تعليم القرآن ازدادت واتسعت اتساعاً كبيراً، فقد روى مسلم بن مشكم قال: قال لي أبو الدرداء: اعدد من يقرأ عندي القرآن، فعددتهم ألفاً وست مئة ونيفاً، وكان لكل عشرة منهم مقرئ، أبو الدرداء يكون عليهم قائماً وإذا أحكم الرجل منهم، تحول إلى أبي الدرداء رضي الله عنه، وكان أبو الدرداء يبتدئ في كل غداة، إذا انفتل من الصلاة، فيقرأ جزءاً من القرآن، وأصحابه محدقون به، يستمعون ألفاظه، فإذا فرغ من قراءته، جلس كل رجل منهم في موضعه، وأخذ على العشرة الذين أضيفوا إليه.
ونبغ على أبي الدرداء من طلابه كثيرون من أشهرهم: عبد الله بن عامر اليحصبي، وزوجه أم الدرداء الصغرى، وخليد بن سعد، وراشد بن سعد، وخالد بن معدان.
كان أبو الدرداء وهو عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي حكيم الأمة، وأحد الذين جمعوا القرآن حفظاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، ولي قضاء دمشق زمن عثمان وهو أول قاض وليها، وكان من العلماء الحكماء. توفي سنة اثنتين وثلاثين للهجرة، ولم يخلف بعده بالشام مثله.
وبذلك يظهر لنا أن حلقته في تعليم القرآن نبغ فيها أهم قراء أهل الشام وتخرج منها أحد القراء السبعة وهو عبد الله بن عامر اليحصبي الدمشقي.
- ومن أشهر قراء الصحابة بدمشق وكان له فضل التعليم فيها فضالة بن عبيد الأنصاري الدمشقي، وهو من كبار الصحابة، شهد أحداً وما بعدها، وشهد فتح الشام ومصر، وسكن الشام.
ويذكر ابن عساكر أنه لما حضرت أبا الدرداء الوفاة، قال معاوية: من ترى لهذا الأمر؟ يعني قضاء دمشق، قال: فضالة بن عبيد، فلما مات أبو الدرداء أرسل إلى فضالة فولاه. ثم إنّ معاوية ولاه على الغزو، واستخلفه على دمشق لما غاب عنها.
وذكر ابن النديم وابن الجزري أنه وردت عنه الرواية في حروف القرآن وإلى أن عبد الله بن عامر اليحصبي سمع منه القرآن وأخذ عنه. توفي فضالة سنة ثلاث وخمسين للهجرة وحمل معاوية سريره.
- واثلة بن الأسقع الكناني الليثي الدمشقي، وهو من الصحابة الذين شهدوا تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهل الصفة شهد فتح دمشق وسكنها إلى أن توفي سنة خمس وثمانين للهجرة.
قال ابن الجزري: أخذ القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه يحيى بن الحارث الذماري في قول الجماعة، وأخذ عنه إبراهيم بن أبي عبلة.
وكان آخر من مات من الصحابة بدمشق.
القراء من التابعين بدمشق وأثرهم
أخذ التابعون القراءة عن الصحابة، وكانوا على طبقات، أخذت الطبقة الأولى عن الصحابة، وأخذت كل طبقة من الطبقات التالية عن الطبقة التي سبقتها.
فمن مشاهير التابعين الذين سكنوا دمشق، وكان لهم أثرهم في القراءة والتعليم:
- أبو مسلم عبد الله بن ثوب الخولاني المتوفى سنة 62 هـ، قال فيه ابن عساكر: قارئ دمشق، وقال الإمام البخاري: كان قارئ أهل الشام وكان يقرأ ويعلم ويقصّ، وقال ابن عساكر: كان يتكلف حضور صلاة الجماعة من داريا إلى المسجد الجامع بدمشق التماس الفضيلة، وبين داريا والمسجد أربعة أميال.
- أبو إدريس عايذ الله بن عبد الله الخولاني المتوفى سنة 80 هـ، قال فيه ابن عساكر: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء. وقال النعيمي: كان من عباد أهل الشام وقرائهم. وروى ابن عساكر عن مكحول الدمشقي قال: كانت حلقة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدرسون جميعاً، فإذا بلغوا سجدة بعثوا إلى أبي إدريس الخولاني، فيقرأها ثم يسجد فيسجد أهل المدارس.
وروى ابن عساكر أيضاً عن يزيد بن عبيدة أنه رأى أبا إدريس الخولاني في زمان عبد الملك بن مروان، وأن حلق المسجد بدمشق يقرؤون القرآن، يدرسون جميعاً، وأبو إدريس جالس إلى بعض العمد، فكلما مرت حلقة بآية سجدة بعثوا إليه يقرأها، وأنصتوا له وسجد بهم، وسجدوا جميعاً بسجوده، وربما سجد بهم ثنتي عشرة سجدة، حتى إذا فرغوا من قراءتهم قام أبو إدريس فقصّ.
- أم الدرداء هجيمة بنت حيي الأوصابية، وتعرف بأم الدرداء الصغرى زوج أبي الدرداء صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوفاة بعد سنة 80 هـ.
كانت يتيمة في حجر أبي الدرداء تصلي في صفوف الرجال، وتجلس في حلق القرآن تتعلم القرآن حتى قال أبو الدرداء يوماً: الحقي بصفوف النساء. أخذت القراءة عن زوجها أبي الدرداء، وأخذ القراءة عنها إبراهيم بن أبي عبلة، وعطية بن قيس ويونس بن هبيرة.
- مسلم بن مِشكم الخزاعي الدمشقي، كاتب أبي الدرداء، قرأ على أبي الدرداء ثم قرأ بعده على عامر بن عبد الله المعروف بابن عبد قيس.
- خليد بن سعد السلاماني القضاعي مولى أبي الدرداء. كان قارئاً حسن الصوت وكانوا يجتمعون في بيت أم الدرداء، فتأمره أم الدرداء يقرأ عليهم، وقال ابن عساكر: كان قارئاً وكان يصعق إذا سمع آية شديدة.
- أبو عمران سليمان بن عبد الله الأنصاري الفلسطيني مولى أبي الدرداء أو أم الدرداء. كان قارئاً، روى ابن عساكر قال: قال سليمان: كنت أقود بأم الدرداء من دمشق إلى بيت المقدس، فكانت تقول لي: يا سليمان أسمع الجبال ما وعدها الله، فأرفع صوتي بهذه الآيات {ويوم نسير الجبال} {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً} [طه 20/105].
- قبيصة بن ذؤيب الخزاعي المتوفى سنة 86 هـ، سكن دمشق، وكان معلم كتاب. قال البخاري: كان قارئاً.
-
المغيرة بن أبي شهاب المخزومي الدمشقي المتوفى سنة إحدى وتسعين. قال الإمام الذهبي: وأحسبه كان يقرئ بدمشق في دولة معاوية، ولا يكاد يُعرف إلا من قراءة ابن عامر عليه. قال الإمام ابن الجزري: أخذ القراءة عرضاً عن عثمان بن عفان، وأخذ القراءة عنه عرضاً عبد الله بن عامر، وروي أن عثمان أرسله مع المصحف الشامي ليعلم الناس القرآن.
……
……
……
أسلوب الصحابة والتابعين
في تعليم القرآن الكريم
من خلال دراسة النصوص السابقة في تراجم الصحابة والتابعين الدمشقيين حفاظ القرآن الكريم نجد ما يلي:
* إن الفضل الأول في تعليم القرآن للدمشقيين يعود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه باستجابته لطلب يزيد بن أبي سفيان والي دمشق في إرسال عدد من الصحابة إلى حمص ودمشق وفلسطين لتعليم الناس وتفقيههم، فبعث أبا الدرداء وعبادة بن الصامت ومعاذ بن جبل.
* ثم بعث عثمان بن عفان رضي الله عنه المصحف الشامي ومعه المغيرة بن أبي شهاب ليعلم الناس القراءة فيه.
* يعد أبو الدرداء شيخ المقرئين والمعلمين بدمشق، وحلقته كانت في مسجد دمشق أكبر الحلقات.
* شارك عدد من الصحابة أبا الدرداء في تعليم القرآن ودراسته منهم فضالة بن عبيد وواثلة بن الأسقع.
* نبغ عدد من القراء في حلقة أبي الدرداء منهم عبد الله بن عامر أحد القراء السبعة.
* ضمت حلقة أبي الدرداء عدداً كبيراً من الحفاظ والقراء حتى بلغ عددهم ست مئة وألف قارئ، بينما زاد عددهم في حلقة تلميذه عبد الله بن عامر إلى 400 عريف أي 4000 قارئ أو يزيد.
* اتبع القراء طريقة خاصة في التعليم، فكانوا يقسمون تلاميذهم عشرات يجعلون على كل عشرة عريفاً. وكان الشيخ يقرأ لهم عدداً من الآيات أو سورة ثم يعيدون ما سمعوا ويحفظون عنه فإذا أخطأ أحدهم سأل عريفه، فإذا أخطأ العريف سأل الشيخ. وبعد انتهاء التلميذ من حفظه يمتحنه العريف فإن وجد فيه أهليته قدمه إلى الشيخ ليجيزه. وكان بعض التلاميذ يتابع القراءة والإعادة مرات على الشيخ ليصير شيخاً مثله فيما بعد.
* كان لبعض القراء المشهورين أكثر من شيخ، وكان بعضهم يكتفي بشيخ واحد يوقن أن قراءته أفصح وأصح فيلزم روايته ويتمسك بها وهؤلاء هم الكثرة. أما القلة منهم فكانوا يخالفون قراءة شيوخهم، وكانت لهم رواية خاصة، مثل إبراهيم بن أبي عبلة، ويحيى بن الحارث الذماري.
* ظهر في دمشق أحد القراء السبعة الذين أجمعت الأمة على قراءتهم.
* وجد عدد من القراءات رواها القراء عن شيوخهم، وبعض القراء كانت لهم اختيارات ربما كانت مفردة أو شاذة، مثل اختيارات إبراهيم بن أبي عبلة.
* تولى كثير من القراء الإمامة بمسجد دمشق، والقضاء فيها مثل أبي الدرداء وفضالة بن عبيد، وأبي إدريس الخولاني، وعبد الله بن عامر وغيرهم.
* اهتم كثير من الخلفاء والأمراء بحفظ كتاب الله تعالى وشجعوا عليه، وكان منهم من يحفظه مثل عمر بن عبد العزيز الذي كان يعطي كل من ينقطع للحفظ مئة دينار كل عام من بيت المال.
* أقبلت بعض النساء على حفظ القرآن وتحفيظه، كأم الدرداء الصغرى التي تلقت القرآن عن زوجها، وعلمته كثيراً من التابعين.
* نجد في هذه الفترة بدايات التأليف في القراءات فيحيى الذماري يؤلف كتابين في القراءات: (هجاء المصاحف) و (عدد آي القرآن).
* كان لكثير من القراء اختصاصات أخرى كالحديث والفقه واللغة وغيرها.
* كان مسجد دمشق هو دار القرآن الأولى فيها ومنه تخرج القراء والحفاظ. وكانت الحلقات تعقد فيه أولاً عند محراب الصحابة في الجانب الشرقي من المسجد، ثم لما اتسعت الحلقات تحولوا إلى سواري المسجد.
* انتشر نوع من طرق تعليم القرآن، وهو ما يعرف بالسُّبع أيام عبد الملك ابن مروان، وهو قراءة الجماعة سبعاً من القرآن بالتكرار وراء قارئ في مجلس واحد بعد صلاة الصبح، ثم أطلق السبع على الموضع الذي يقرأ فيه.
تنبع أهمية هذا الكتاب من كونه يخدم القرآن الكريم وتاريخه بدمشق إحدى عواصم الحضارة الإسلامية الراسخة، خاصة وأنه موضوع تفتقر إليه المكتبة الإسلامية، ويقدم الكتاب صورة واضحة للمكانة العلمية بدمشق التي تولي القراءات القرآنية أهمية متميزة تدل على الروح العلمية المبدعة.
إن هذا الكتاب فيه أمانة النقل وفيه صدق القول، وفيه تقدير العلماء واحترام القراء، في فكر عميق وذهن ثاقب وتمسك بما كان عليه السلف، بالإضافة إلى التعرف على الأسلوب المتبع في التلقي والعطاء لعلم القراءات.
صورة واضحة للمكانة العلمية بدمشق التي تولي القراءات القرآنية أهمية متميزة تدل على الروح العلمية المبدعة.