كلمة للناشر كل الذين أدركوا أواسط القرن الماضي، وعاشوا ثقافاته الاجتماعية؛ في الشرق أو في الغرب، يعرفون تماماً متى انتشر وباء الاستهلاك في العالم، ومن أين بدأ، كما كانوا على وعيٍ كامل بالمخاطر التي يحملها في طياته، والأهداف التي يروم بلوغها.. وكل الذين تعمقوا في دراسة التاريخ الحضاري الإنساني، وبحثوا عن عوامل قيام الحضارات ومعاول هدمها؛ يعرفون أن الدورة التاريخية لكل حضارة تبدأ بجيل الواجبات الذي لا يعرف غير البذل والإنتاج والعطاء، والتعفف وشظف العيش، وشدّ الأحزمة على البطون، وإنكار الذات من أجل توفير حياة أفضل للأجيال القادمة، ثم لا تلبث أن تنتهي على يد جيلٍ يستهلك بنهم ما وفره الآباء وادخروه، منصرفاً إلى اللذة والمتعة ورغد العيش بوصف ذلك كله حقوقاً للإنسان ينبغي أن يتمتع بها. وبين ثقافة الواجب الذي هو عطاء محض، والحق الذي هو أخذ محض؛ تستمر الحضارة لدى الأمة الناهضة بقدر ما تستطيع الموازنة بين هاتين الثقافتين؛ تسمو حيناً كلما رجحت لديها كفة الواجب (العطاء)، وتهبط أحياناً كلما طغت ثقافة الحق (الاستهلاك)، إلى أن تتلاشى وتنهار.. ثم لا تلبث أن تتقدم أمة أكثر شباباً وحيوية في العمل، وأكثر قدرة على أداء الواجب، لتنهض بأعبائها من جديد، فتظل راية الحضارة الإنسانية مرفوعة، وتكون دُولَة بين الأمم.. ذلك هو قانون التاريخ الإنساني على مرِّ العصور؛ عبَّر عنه الوحي الإلهي أبلغ تعبير: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *} [الإسراء: 17/16] ، ومن يعرف منطق القرآن يدرك على الفور أن الإرادة هنا هي إرادة أهل القرية، وأن فسق المترفين فيها - بإرادتهم واختيارهم - هو سبب الدمار والانهيار، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 8/53] ، وأن للتغيير سنناً لا تتخلف {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً *} [الفتح: 48/23] . وبموجب هذا القانون تمَّ تداول الحضارة الإنسانية لتنتقل رايتها من الصين فالهند فمصر الفرعونية وبلاد الرافدين فبلاد الشام (الفينيقيين والكنعانيين) فالرومان فالعرب المسلمين حتى آلت إلى الغربيين من دون أي محاباة، ولا نظرٍ إلى لون أو جنس أو لسان أو دين.. هل سيستمر هذا القانون مطبقاً في عصر العولمة؟! ألم يصبح العالم في عصر ثورة الاتصالات قرية صغيرة ذات آمال مشتركة ومصير مشترك؟! أنا على يقين من أن قوانين التاريخ وسنن الله في التغيير ثابتة لا تخطئ ولا تتبدل، ولا علاقة لها بضآلة القرى أو اتساعها، ولا بتقاربها أو تباعدها.. فالجنس البشري - منذ هبوطه إلى الأرض، وتصدّيه لحمل أمانة الاستخلاف فيها، وتعهده بالتخلص من تهمتي الفساد وسفك الدماء اللتين توقَّعتهما منه الملائكة، بسبب حرية الاختيار الممنوحة له - ما زال يكدح - مستفيداً من تجاربه وأخطائه - لبلوغ الهدف وأداء الأمانة؛ فحصاد تجاربه الحضارية، ومعلوماته المتراكمة - مهما تباعدت أو تقاربت أزمنتها وأمكنتها، ومهما تنوعت واختلفت ألوانها وألسنتها - ملكٌ له، شائع بين شعوبه وقبائله، فهو منذ البداية عالم واحد؛ أتصور الأرض التي هبط إليها سفينة امتطاها وراح يمخر بها - بأجياله المتعاقبة وأجناسه المختلفة - عباب الزمن؛ وعلى ظهرها تتداول الأجيال والأمم المهمات والأماكن؛ فأمة تأخذ مكانها في دفة القيادة إلى أن تفتر همتُها وتضعف فعاليتُها فتهبط إلى مخزن الوقود، وأخرى يمضها التخلف ويلهب طاقاتها التحدي فتتقدم بسرعة لتملأ الفراغ، وثالثة تصعد إلى أعلى السفينة تنعم بحرارة الشمس، وأخرى تخلد إلى السكينة في الطوابق الدنيا تغط في نوم عميق.. الكل ينوس صعوداً وهبوطاً وتقدماً وتأخراً داخل السفينة العملاقة، لكن السفينة تظل ماضية إلى هدفها لا تني، قد تتوقف هنيهة للتزود بوقود يعينها على اجتياز المنعطفات التاريخية الحادة في رحلتها الطويلة المضنية، وربما شكلت هذه المنعطفات فرصة لتبديل المواقع، وإقصاء المتعبين من أعباء الحضارة في إجازة خارج التاريخ، وتسليم الراية لمن هو الأجدر بحملها. كأني بالسفينة الإنسانية الآن تقف عند منعطف هو الأكبر والأخطر في رحلتها.. فبعد اجتيازها عصور الصيد والرعي والزراعة إلى عصر الصناعة تستعد الآن لاجتياز هذا العصر الأخير إلى عصر المعرفة، وهو - لعمري - الأشد انعطافاً والأكثر اختلافاً بين كل المرافئ؛ من حيث منطلقاته، وأبعاده، ومراميه، ووسائله. وإنها - كما تبدو لي - اللحظة الحاسمة من لحظات التبادل والتداول الحضاري التي يحكمها قانون الله {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 47/38] . وكأني بالمؤلفة السيدة سحر سهيل المهايني؛ تصوِّر لنا بريشة فنان بارعة لحظة التبادل والتداول، بكل ما فيها من فسق الفريق المنسحب من غرفة القيادة، والقتامة التي تلفه من كل جانب، ومن انبثاق ضوءٍ يلوح في الأفق يبشر بفجر يوم جديد، ينتظر من يستضيء به ويسير على هداه، وتتلفت حولها فلا ترى غير عباد الرحمن {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا *} [الفرقان: 25/67] . وعباد الرحمن هؤلاء لا ينتمون إلى جنس أو لَوْن أو لسان، كل انتمائهم إلى الرحمن، والمنهج الذي رسمه لسعادة الإنسان. هؤلاء وحدهم القادرون على الإفلات من تيار الاستهلاك الهابط بقوةٍ إلى قاع المنحدَر، إذا وعوْا خطورته والمآل الذي يراد لهم أن يصيروا إليه من انجرافهم فيه.. هؤلاء هم الأقدر على الإفلات منه؛ لأنهم أُقحموا فيه من خارجه، لتزويده بمزيد من الطاقة، من أجل رفع قدرات المنتِج الواقف على قمة المنحدَر، ثم لإغراقهم بمزيد من الفاقة، يرتشف رحيقهم حتى الثمالة، قبل أن ينطرحوا جميعاً - منتجين ومستهلكين - في القاع، {فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 10/88] . هم الأقدر على إنقاذ البشرية من وباء الاستهلاك المدمر الذي حاق بهم؛ لأن جرثومة الوباء وافدة إليهم من الخارج - من جهة - ولأن لديهم، من ثقافتهم وقيمهم المستقرة في أعماقهم، اللقاح الكفي القادر على مكافحة هذا الوباء واجتثاث جرثومته - من جهة أخرى. إنهم الأجدر بملء الفراغ الحضاري الراهن، والأقدر على قيادة السفينة، لو أفاقوا من سباتهم، وتخلصوا من أدرانهم، واستأنفوا دورهم {خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 3/110] . والعشق فياض وأمة أحمد يتأهب التاريخ لاستقبالها لا أكتم قارئي أني - وأنا أقرأ ما كتبته سحر المهايني في حمى الاستهلاك - ألفيتني منساقاً إلى متابعته فقرة فقرة، لم أستطع - لضيق وقتي - أن أقفز فوق واحدة منه. وما أكثر ما وجدتني تعتريني كل الانفعالات التي تعتري الإنسان وهو مندمج في المشهد، كما لو كان في فيلم سينمائي مؤثر كلحن السعادة، فتارة يفرح وتارة يحزن، وتارة يضحك لدرجة الإغراق، وأخرى يترقرق في عينيه الدمع حتى لا يستطيع أن يكفكفه، وتراه أحياناً مكفهر الوجه قد أظلمت الدنيا من حوله، وهو يتخيل فداحة الكارثة وهول المصير، وفي أحيان أخر تراه متهللاً باشّاً يتفاءل بغد مشرق. أصدقكم القول أني قد واجهت كل هذه الانفعالات، وأنا أشاهد هذا الفيلم - عفواً أعني وأنا أقرأ هذا الكتاب - الذي عرضت فيه المؤلفة التجارب الغنية المتنوعة؛ الذاتية منها، وتجارب الآخرين، داخل مجتمعها الذي يضيق حتى يعرض أدق الخصوصيات، ثم يتسع رويداً رويداً حتى يشمل ما يمكن أن تلتقطه عين الزائر لمجتمع غريب، مما يغيب عن أعين مواطنيه المندمجين فيه. وكثيراً ما وجدتني - وأنا الذي أعشق الحوار مع الآخر - قد انطلت علي الخدعة الفنية التي اصطنعتها المؤلفة في اجتماعاتها ومناقشاتها مع المؤلف الأمريكي، على شاكلة ما يفعله الممثلون والفنانون في أفلام السينما وبرامج الحاسوب يختزلون المسافات، ويجمعون الناس بعضهم إلى بعض، ولم يسبق لهم أن اجتمعوا مكاناً ولا في الزمان أحياناً. ألم أقل لكم إن سحر المهايني كتبت كتابها هذا الذي أقدمه لكم، كما لو كانت ترسم لوحاتٍ بريشة فنان؟! وأودُّ أخيراً أن أعترف لقارئي - الذي تعوَّد مني الحذر فيما أقدمه له على مائدة الفكر، وأن أنبهه إلى ما يمكن أن يصادفه من مطبات ونتوءات، ليرى فيها رأيه ويكوِّن عنها قناعاته من دون انسياق مع المؤلف أو انبهار به - أعترف له أني قد فاتني الحذر هذه المرة فيما أقدم له، فوقعت - قارئاً - فيما كنت أحذِّر منه قارئي، فلعلي أستدرك هنا ما فاتني - في غمرة إعجابي بالكتاب - من هفوات أو مطبات، متمنياً عليه أن يزودني بها؛ ناشراً ينشد الإسهام في إثارة حراك ثقافي يعيد أمته إلى نطاق الفاعلية. الناشـر
حمى الاستهلاك مستخلص كتاب يتحدث عن مكونات ومؤثرات ثقافة استهلاكية وبائية، صدّرتها أمريكة للعالم؛ وسيلتها الاختراق الثقافي وتعميم القيم والمفاهيم التي تخدم مصلحة السوق والاقتصاد العالمي، عبر التوظيف "المنظم" لتكنولوجيا الاتصال ووسائل الإعلام الحديثة. الكتاب ثلاثة محاور؛ الأول يبحث في "العوارض المرضية"، ويكشف الواقع والمنعكسات الخطيرة المترتبة على تبني نمط المعيشة الاستهلاكي؛ والذي أعلن عن نفسه بأشكال عدة: طفح الديون والإفلاسات، تضخم الأطماع والاستغراق بالذات، انهيار القيم وغياب المعنى والهدف، تفكك الروابط الأسرية والاجتماعية، تسويق الأطفال، شيوع الأمراض النفسية والعضوية، انعدام الإحساس بالاكتفاء والرضا، وتنامي الفروقات الطبقية واتساع خندق الفقر، استنـزاف الموارد الطبيعية واختلال التوازن البيئي، تشويه معالم الطبيعة والطبيعة الإنسانية. ويعرض القسم الثاني أسباب "حمى الاستهلاك" بدءاً بتعقب أول ظهور للمرض، ومروراً بكيفية تطوره عبر التاريخ، وانتهاءً بالتقنيات الحديثة في وسائل الإنتاج والاتصال التي ساهمت في سرعة انتشاره واستفحاله. ويتناول القسم الثالث طرق العلاج وسبل الوقاية والاستشفاء من مرض الاغترار بزيف المادة؛ يبدأ ذلك بإثارة وعي الإنسان بذاته؛ وقيمته الإنسانية، ثم تحفيز الإرادة الجماعيّة للتحول عن الأفكار المنمطة على إدمان الأشياء، وهذا عبر نشر الأفكار الصحية بين الناس ضمن مجموعات نقاش وورشات عمل تعمل بإطار من ((نحن))، ثم إعداد المصل الواقي من فيروس المرض نفسه لبناء المناعة، وانتهاء باكتشاف "الدواء الأمثل" الشافي من العوارض المرضية التي سبق ذكرها. اعتمدت المؤلفة لتوصيف أفكارها وإثراء أجواء النقاش على ترجمتها لكتاب أمريكي بعنوان "الأفلونزا" الذي يتحدث عن مخاطر ثقافة فرط الاستهلاك، وتحاورت مع أفكار مؤلفه البناءة بهدف إيجاد مناخ من التلاقح الفكري المولد لفكر أكثر نضجاً وصحة وانفتاحاً.