تـمـهـيـد الثقافة العربية الحديثة هي الثقافة التي نشأت بعد احتكاك العالم الإسلامي بالغرب وتأثرت به أشد التأثر، إلى حد اختلاط المنظورات الثقافية والأصول المعرفية. هذه هي الحقيقة الأولى وربما الأهم لفهم التحولات التي طرأت على الثقافة العربية في القرنين الأخيرين. إن هذه الحالة من الاختلاط لم تقتصر على الثقافة العربية الإسلامية، بل هي ظاهرة كونية نجدها في كل الثقافات المعاصرة للشعوب المختلفة، وهي تعود إلى طبيعة الحضارة الغربية الحديثة وبنيتها الفكرية التي ترى العالم من منظور واحد هو ما صار يُعرف باسم المركزية الغربية، وهي لا تكتفي بهذه الرؤية منظوراً تفسيرياً بل تعمل على تغيير العالم بما يتناسب ويعزز هذه الرؤية ضمن استراتيجية تحولات فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية كونية، تعززها قدرة هائلة على الإنتاج المادي والصناعي والإنتاج الثقافي والإعلامي؛ مع عدم التردد في اللجوء إلى القوة العسكرية إذا لزم الأمر. لقد عمدت الحضارة الغربية إلى فرض رؤيتها للعالم ونظامها الشامل على كل الحضارات والشعوب، وقد تباينت ردود أفعال ممثلي هذه الشعوب والثقافات المختلفة على (هجوم الحضارة الغربية الشامل) الذي لا يزال مستمراً إلى يومنا هذا. لكن هذه الهجمة الغربية تحولت إلى معركة شمولية مفتوحة على المجالات كافة، وهي تزداد عنفاً وضراوة يوماً فيوماً. وتعود ضراوة هذه المعركة بين الغرب والعالم الإسلامي إلى حجم الهوة بين هذين العالمين ومستوى التباين والتناقض بين رؤيتهما المتباينتين للكون والوجود الإنساني. وسوف نتطرق إلى هذه القضية بالتفصيل في فصول هذا الكتاب. تعود نشأة الثقافة العربية المعاصرة إلى القرن التاسع عشر،وعلى الرغم من صعوبة تحديد خط زمني فاصل ودقيق بين مرحلتين، خاصة على المستوى الثقافي، فإننا يمكن أن نعتبر - كما يذهب جميع المؤرخين - أن الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت هي الحد الفاصل بين مرحلتين تاريخيتين وثقافيتين تم إطلاق اسم عصر النهضة على شطرهما التالي للحملة الفرنسية. فالثقافة العربية الحديثة هي ثقافة "عصر النهضة"، وما تلاها وما نتج عنها من تيارات فكرية وتلونات إيديولوجية ومنظومات قيمية وسلوكيات اجتماعية، نتجت عن هذا الاحتكاك الكبير بين ثقافتين فاعلتين وعالمين كبيرين هما العالم الإسلامي والغرب. قد يسأل سائل: لماذا اخترنا أن يكون موضوع دراستنا هو الثقافة العربية، وليس الثقافة الإسلامية؟ الحقيقة أن الثقافة العربية هي في جوهرها وحقيقتها ثقافة إسلامية، لم تكن يوماً غير ذلك، ولا يبدو أن محاولات الاستقلال بالثقافة العربية عن أصولها الإسلامية تحقق نجاحات كبيرة. لكننا عندما نقول الثقافة العربية الحديثة، فإننا نعني بالدرجة الأولى امتداداً جغرافياً أو سوراً لغوياً يحدد مساحة البحث، لأننا لا نستطيع أن نقول بأننا عمدنا إلى رصد الحَراك الثقافي في الدائرة الإسلامية عموماً،و إن كنا على يقين من أن ما جرى في المنطقة العربية سيجري نظيره في باقي المجتمعات الإسلامية. من ناحية أخرى لا يسعنا أن ننفي كثيراً من حالات التداخل بين المحيطين العربي والإسلامي عبر بعض الرموز المهمة التي كان لها أثر في كلتا الدائرتين، كمثل جمال الدين الأفغاني، وأبي الأعلى المودودي الباكستاني، والشيخ مصطفى صبري التركي، وغيرهم ممن نذكرهم في سياق الدراسة لأثرهم المباشر في الثقافة العربية الحديثة. السبب الآخر الذي دعانا إلى الحديث عن "الثقافة العربية الحديثة" هو أن هذه الثقافة تتصف بتنوع مصادرها الفكرية، فهي في المحصلة نتاج حالة عنيفة من تصارع الأفكار ذات الأصول المختلفة، التي أنتجت توجهات ثقافية وفكرية متباينة. وهناك في هذه التباينات بعض التوجهات التي لا يمكن نسبتها إلى الإسلام، بل وهي لم تكن تخفي عداءها للدين عموماً، مع ذلك فقد دخلت هذه الأفكار في إطار الثقافة العربية الحديثة، وساهمت في توجيه التحولات الاجتماعية والفكرية في المنطقة العربية. لذلك، فنحن سنتحدث عن الثقافة العربية، ونحيل بذلك إلى واقع تاريخي وثقافي له سماته ومميزاته المختلفة في القرنين الأخيرين، أما عندما سنتحدث عن الثقافة العربية الإسلامية فإننا بذلك نحيل إلى هوية هذه الثقافة وآليات تشكلها التاريخي والمعرفي. إن دراسة الفكر العربي الحديث سوف تضعنا أمام نتاج عشرات من الكتّاب والمؤلفين الذين ساهموا في صنعه، وإنه من غير الممكن أن نتوقف أمامهم جميعاً، كمساهمات فكرية فردية، وليس هذا بمطلوبنا أصلاً. إن ما نسعى إليه هو بلورة أطر وتصنيفات فكرية للتيارات الأساسية في الساحة الثقافية العربية، بمقاربات جديدة مختلفة عن تلك التي تم تعزيزها في الدراسات العربية الحديثة، بما يتيح لنا أن نؤسس لرؤية مختلفة عن واقع هذه الثقافة وإشكالاتها. ليس مطلوبنا في هذه الدراسة أن نتوقف بتسلسل زمني متتابع خلف المدارس والتيارات الفكرية المختلفة التي برزت في الساحة الثقافية، كما أن التوقف أمام كاتب بعينه، هو من نوع المثال والنموذج المعبر عن توجه ما، ينضوي في إطاره عدد آخر من الكتّاب والمساهمات الفكرية والثقافية، ولن يكون من المتعذر على القارئ المتابع للشأن الثقافي أن يحدد مكان أيّ من المساهمات الفكرية لأي كاتب في إطار التصنيف المقترح. إن مفهوم الثقافة مفهوم شامل وواسع وليس مقتصراً على النصوص المكتوبة والمطبوعة، ولن يكون بمقدورنا في هذا البحث أن نلم بأطرافه من الجهات جميعها، فلماذا لم نختر الحديث عن الفكر العربي مثلاً دون الثقافة العربية؟ هناك كثير من الأسباب التي دفعتنا نحو هذا الاختيار، ولعل من أهمها أن الفكر العربي الحديث كان، إلى حد كبير، يؤسس لثقافة جديدة مختلفة نوعياً عما كان سائداً. من ناحية أخرى فإن الفكر العربي الحديث هو الذي أدخل مفهوم الثقافة حيز التداول، كما أن هذا الفكر هو الذي أوجد شريحة اجتماعية جديدة هي شريحة المثقفين، شريحة تحمل خصائص فكرية وسمات نفسية جديدة أدت دوراً مهماً، وما زالت، في تحديد مكونات المرحلة التاريخية. إن اختيارنا للثقافة، مفهوماً شاملاً يدور البحث في إطاره، يدفعنا إلى تقديم بعض التوضيحات للمصطلحات التي سيتم تداولها كثيراً في مباحث هذا الكتاب، ذلك لأن هذه المصطلحات وعلى الرغم من كثرة تداولها، ما زالت تحمل كثيراً من الغموض وعدم التحديد. إن مصطلح الثقافة - وهو مصطلح مفتاحي بالنسبة إلى بحثنا- وما يرتبط به من مفاهيم، كثيراً ما يحمل تلونات دلالية مختلفة في سياقات السرد المختلفة، فالمصطلح جديد نسبياً، وللترجمات دور في تحديد معناه، كما أن للمدارس الفكرية المختلفة دوراً أيضاً في توسيع الدائرة الدلالية لهذا المصطلح.
الثقافة العربية الحديثة هي الثقافة التي نشأت بعد احنكاك العالم الإسلامي بالغرب، وتأثرت به أشد التأثر، إلى حد اختلاط المنظورات الثقافية بالأصول العرفية. إن طبيعة الحضارة الغربية الحديثة وبنيتها الفكرية ترى العالم من منظور واحد يُعرف بـ (( المركزية الغربية ))، وقد عمدت الحضارة الغربية إلى فرض رؤيتها على العالم. وتعود ضراوة المعركة بين الغرب والعالم الإسلامي إلى الهوة الكبيرة بين مستويي رؤيتهما المتباينة للكون والوجود الإنساني. وتعود نشأة الثقافة العربية المعاصرة إلى القرن التاسع عشر، إبان الحملة الفرنسية على مصر حين تمت تسمية الفترة اللاحقة للحملة بعصر النهضة العربية وما تلاها من تيارات فكرية وإيديولوجية ومنظومات اجتماعية نتجت عن هذا الاحتكاك الكبير بين الثقافتين. بحث المؤلف في الكتاب عن معنى الثقافة والمثقف في المصطلح العربي وعن الثقافة الاجتماعية والثقافة العالمية، ودرس (( التنظير الثقافوي )) عند مالك بن نبي، ومحمود شاكر ومصطفى جبري وغيرهم. كما بيّن مفهوم الزمان في بيئة الثقافة العربية الإسلامية، ومعنى التقدم والتقدمية، والنتائج المترتبة على الرؤية التقديمة في الثقافة العربية. ثم عرض مفهوم عصر الانحطاط في التاريخ ومفهوم النهضة، من منطلقات سياسية وفلسفية وأدبية. واستعرض التيارات الأساسية في الثقافة العربية الحديثة، من الفكر النهضوي العربي، والفكر التأصليي، إلى الفكر السلفي. وبيّن أخيراً كيفية الخروج من أزمة الثقافة العربية الحديثة، عندما حلل معنى الأزمة أبعادها، وقارن بين مفهوم النهضة والحداثة، واستعرض ماهية أزمة المثقف العربي، وسبب انقسام النخب العربية على نفسها، والآثار الجانبية الناتجة عن أزمة الثقافة.