قبل أن تقرأ هذه الرواية
كثيراً ما يسألني الناس بعد قراءتهم لبعض قصصي ورواياتي، أهي حقيقية، أو هي من وحي الخيال! وكثيراً ما أندهش من سر اهتمامهم بهذا الأمر، إذ ما أهمية أن تكون الرواية حقيقية، أو وهمية!
لا شك أن العمل الأدبي فيه جزء من الواقع، بيد أنه لا يستغني عن الخيال في الوقت ذاته، خصوصاً في تفصيلاته، بل إنني أرى أنه لابد من الخيال.. خيالٍ يبتعد بنا قليلاً عن واقعنا، إذ يفترض بالأدب أن يرفه عنا، ويسلينا، ويحلق بنا في عالم جميل نتمنى أن نجده حقيقة في واقعنا.. أدب يملأ نفوسنا بالأمل ويشحنها بالتفاؤل، وإن كان ذلك لا يعني أن يتجاهل سلبيات الواقع فلا يناقشها بتاتاً، ولا يقدم لها حلولاً، لكنه بمجمله أدبٌ نبيلٌ ذو أهداف سامية، وقد أعجبني ما كتبته بهذا الصدد الروائية الإنجليزية فلورنس براكلي في مقدمة روايتها الرائعة (المسبحة) حيث قالت: «إن هدفي هو: ألا أكتب قدر سطرٍ يمكن أن يدخل شائبة من الخطيئة أو ظلاً من ظلال الخجل إلى أي بيت!.. وألا أرسم أبداً شخصية تنزع إلى الانحدار بالمثل العليا للقراء الذين ارتبطوا عن طريق قلمي ارتباطاً وثيقاً برجل أو امرأة من مخلوقات قصصي.. إن في العالم قدراً وافراً من الخطايا، بحيث لا يحتاج الأمر إلى أن يستخدم المؤلفون قوة خيالهم كي يضيفوا خطايا أخرى وهمية إلى ما في جعبة البشرية منها!.. فأينما أدرت بصرك على ظهر هذا الكون تجد زرافات من الأشخاص الأشرار، والوضيعين، والخبثاء، يدبون على أرضنا.. فلماذا يضيف المؤلفون مزيداً إلى عدد هؤلاء الأشرار، ويخاطرون بتقديمهم إلى بيوت هانئة وادعة، لا تحتمل وجودهم في الحياة الواقعية دقيقة واحدة!؟».
وقديماً قال عالم وكاتب فرنسي عظيم: "إن المسوغ الوحيد للقصص الخيالية، هو أن تكون أبهى جمالاً من الواقع!" "انتهى".
سبق مولد هذه الرواية قصة قصيرة كتبتها منذ سنوات طويلة، أو لنقل إنَّ تلك القصة القصيرة التي كتبتها وأنا في الرابعة عشرة من عمري كانت النواة لهذه الرواية التي بين يديك اليوم، فحين قرأت إعلاناً في مجلة هنا لندن (النسخة العربية) عن مسابقة للقصة القصيرة، أسرعت إلى المشاركة فيها بقصتي تلك وأسميتها (متى يأتي الشتاء)، ومع أنني تلقيت خطاب شكر من إدارة المجلة على مشاركتي، إلا أن قصتي لم تفز بأي من جوائز المسابقة الثلاث، وقد أدركت السبب حين تم نشر القصص الفائزة لاحقاً، فالفارق في المستوى الأدبي واللغوي جلي بين قصتي البسيطة في أسلوبها وموضوعها وبين القصص الفائزة. بعد ذلك نسيت الأمر برمته، ولم أحتفظ حتى بنسخة من قصتي تلك، بل إنني في غمرة مشاغل الحياة؛ من دراسة وزواج وأبناء، نسيت حلمي بتحقيق الأمنية التي كنت أرددها دوماً على مسامع زميلاتي في المدرسة بأن أكون روائية حين أكبر، ولا أدري كيف تذكرت حلمي فجأة بعد إنجابي لطفلي الخامس، ومن حينها شرعت في تأليف القصص والروايات. لكنني لم أتذكر قصتي الأولى بتاتاً، حتى كان يوم زارني فيه في مقر إدارة الشؤون النسائية بلجنة التعريف بالإسلام في صيف عام 2005م، الأستاذ الفاضل عبد القدوس أبو صالح رئيس رابطة الأدب الإسلامي، وحدثني أثناء الزيارة عن رواية بعنوان (البحث عن الجذور) للكاتبة مؤمنة أبو صالح، ووعد بأن يرسل إلي نسخة منها فور عودته إلى مقر إقامته في الرياض، وإخاله نسي وعده لي لكثرة مشاغله، إلا أنني من جانبي لم أنتظر، وبادرت بالسؤال والبحث عنها حتى أعارتني إياها إحدى الأخوات الفاضلات، ولما قرأتها تذكرت على الفور تلك المحاولة القصصية الأولى لي منذ سنوات، فقد لاحظت تشابهاً بين بطلَي القصتين؛ فكلاهما نصفه عربي ونصفه الآخر أجنبي.
أخذت أسترجع أحداث قصتي القديمة في ذهني، وأضيف إليها وأحذف منها ما يتناسب مع معطيات الواقع الحالي، وما نلته من خبرات اجتماعية وأدبية على مر الأعوام الماضية، وقد أتاحت لي السنوات التي عشتها في أمريكة سماع كثير من قصص الدعوة الإسلامية ومعايشتها، التي قام بها بعض المسلمين، بين أفراد من المجتمع الأمريكي، والبعض المؤثر جداً من تلك القصص يجعل من الصعب على من عايشها أو سمعها أن ينساها على مر الأعوام.
بعد عدة أشهر اختمرت الرواية بكاملها في ذهني، فشرعت في كتابتها، بالتاريخ المذيل أدناه، إلا أن مشاغلي العديدة حالت دون إتمامي لها قبل نهاية عام 2009م، وها هي ذي الآن عزيزي القارئ بين يديك.
أم المثنى
13 جمادى الآخرة 1426
19/7/2005