تمهيد
يحتل سؤال الهوية اليوم مكانة الصدارة في الحراك السياسي الاجتماعي الثقافي الذي يعيشه العالم المعاصر، ويكتسب هذا السؤال حساسية خاصة في الثقافة العربية الإسلامية نتيجة للخصوصيات التاريخية والحضارية، وتبعاً لمترتبات السياسة الدولية والمتغيرات العالمية.
ومع أن هذا السؤال ذو طبيعة نظرية مجردة، إلا أن إفرازاته تبدو واضحة في متناقضات العصر السياسية والفكرية، وفي تباين الأنماط الثقافية والسلوكية للناس داخل البيئة الثقافية الواحدة.
فعلى المستوى السياسي تطالعنا وسائل الإعلام بكم هائل من الأخبار والتحليلات التي تتحدث عن العولمة، والصراع الحضاري، ومحاولات أمركة العالم، وإلغاء التمايز والخصوصية الحضارية والتاريخية للمجتمعات المختلفة، كما يحتدم النقاش اليوم حول ما يسمى بظاهرة (الإرهاب)، ومحاولات بعض المفكرين والسياسيين في الغرب نسبة هذا (الإرهاب) إلى الدين الإسلامي وتعاليمه، وما يترتب على ذلك من دعوات إلى تجفيف منابع الإرهاب وذلك من خلال تغيير المناهج الدراسية العامة وتعديل التعليم الديني، بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلى الدعوة إلى تغييب بعض الآيات من القرآن الكريم التي يرى البعض أنها تحرض على العنف، بل إلغائها.
من جهة أخرى نرى الصراع يحتدم في مجتمعنا حول طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي، فهناك من يدعو إلى تطبيق الديمقراطية البرلمانية لأنها هي النظام الذي يحقق العدالة والحريات، وهناك من يدعو إلى نظام الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة، وهناك من يدافع عن الدولة القطرية، وآخرون ينادون بالدولة القومية، كذلك يحتدم الصراع حول مفاهيم مركزية عديدة، منها - مثلاً - موضوع حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعلاقات الأسرية والقيم الاجتماعية وغيرها.
الحقيقة أن هذه القضايا جميعها وكثير غيرها، له ارتباط مباشر، قريب أو بعيد بموضوع الهوية، ذلك أن الهوية هي مجموعة الخصوصيات التي تميز مجتمعاً ما أو ثقافة ما وتجعل هذا المجتمع يتقبل بعض المفاهيم والقيم ويرفض بعضها الآخر، إنها مرجعية للتعريف، وجواب لسؤال في غاية الأهمية حول تعريف الذات وتحديدها. لذلك فإن مفهوم الهوية يشكل مفهوماً مركزياً نستطيع أن نطل من خلاله على ساحة المتغيرات الفكرية والسياسية والاجتماعية برؤية شمولية متكاملة.
إن إشكالية الهوية، كقضية اجتماعية ثقافية، هي إشكالية حديثة التبلور في الفكر الإسلامي والفكر العالمي على السواء، فقد كان سؤال الهوية في الفكر الإسلامي سؤالاً فلسفياً ينتمي إلى المنطق والميتافيزيقا دون السياسة أو الشأن العام. إن المتغيرات الدولية في العقود الأخيرة، السياسية منها والحضارية، التي تسوق الشعوب والحضارات نحو نموذج واحد يلغي الفروق ويتجاوزها قد دفعت بالسؤال عن الذات وأشكال التميز عن الآخر إلى أقصى مدى ممكن. لذلك فإن طرح هذه الإشكالية النظرية للبحث والتداول في الفكر الإسلامي الحديث يعود إلى العقدين الأخيرين تحديداً، حيث بدأنا نطالع مجموعة من الكتب والدراسات التي تعالج إشكالية الهوية في الفكر العربي المعاصر، لكن ذلك لا يعني أن هذه الإشكالية هي وليدة العقدين الأخيرين فقط، بل هي تعود في جذورها إلى لحظة تشكل الفكر العربي المعاصر، ذلك أن هذا الفكر، بحكم ظروف نشأته التاريخية، قد ولد مرهوناً بسؤال يرتبط بإدراك الذات وإدراك الآخر وعلاقة الذات بالآخر، وهذا ما يجعل من سؤال الهوية سؤالاً مركزياً يقدم منظوراً واسعاً لرؤية الفكر العربي الحديث وعبر مراحل تطوره المختلفة واتجاهاته المتباينة التي تتباين من حيث الجوهر في موقفها من الهوية وتجليات هذا الموقف في إدراكها لذاتها وللعالم من حولها.
الصيغة الأخرى لسؤال الهوية في الفكر العربي المعاصر نجده مطروحاً لدى المفكرين القوميين الذين انشغلوا في محاولاتهم لتحديد مضمون الهوية القومية العربية لتكون بديلاً للهوية الإسلامية، أولاً: لتبرير دعواتهم إلى الانفصال عن الدولة العثمانية وترك فكرة الدولة القائمة على أساس ديني وإنشائها على أساس قومي، كما نجد ذلك واضحاً لدى ساطع الحصري، وثانياً: للدفاع عن هذه الهوية القومية ضد التيارات الإيديولوجية المنافسة التي عايشت الفكر القومي في القرن العشرين،كما نجد ذلك عند ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي، لكننا لن نتوقف أمام مفهوم الهوية القومية إلا بالقدر الذي تفرضه الدراسة، لأنها ليست مجال بحثنا هذا.
كذلك لن نتوقف أمام مفهوم الهوية بالمعنى الفلسفي أو المنطقي البحت، أو بالمعنى النفسي المرتبط بمراحل نمو الفرد وتكون الهوية الفردية أو الاجتماعية، لأن البحث معنيّ بمفهوم الهوية في سياقات الحركة الثقافية العربية الإسلامية الحديثة والمعاصرة.
لقد عمدنا في هذه الدراسة إلى تقديم تعريف نظري لمفهوم الهوية وما يتعلق به من مفاهيم نظرية أخرى كالرؤية الحضارية والدعوات التغريبية وخطاب الهوية الخالصة وغيرها من متعلقات البحث النظرية في سياق الفصل الأول الذي أسميناه " في سؤال الهوية ومتعلقاته النظرية".
أما الفصل الثاني فسوف نطل من خلاله على السياق التاريخي لنشأة هذا السؤال في الفكر الإسلامي الحديث، وتطوره عبر مراحل الفكر العربي وتياراته خلال القرنين الأخيرين وقد أسميناه: "سؤال الهوية بين قرنين".
أما الفصل الثالث فإننا نتعرض فيه إلى سؤال الهوية في ظل العولمة وما يمليه هذا الواقع من تحديات وما يقدمه من فرص، وقد أسميناه: "الهوية الحضارية الإسلامية بين العالمية والعولمة".
ونود الإشارة إلى أننا سعينا إلى أن نقدم رؤية إسلامية لموضوع الهوية، بمعنى أننا ننطلق من المحددات العامة للثقافة الإسلامية التي تشكل بالنسبة إلينا هوية فكرية، في حين أننا نوظف منهجيات معرفية مختلفة لتقديم الموضوع من جوانبه المتعددة، وسعينا بشكل خاص إلى تقديم الموضوع من خلال رؤية حضارية تشكل باعتقادنا السياق الأمثل والأشمل لمعالجة هذا الموضوع.
إشكالية الهوية في الفكر الإسلامي الحديث
من أنا؟
هل أنا عربي أولاً؟ مسيحي أو مسلم؟ هل أنا مسلم أولاً كردي أو عربي أو أمازيغي؟
تتالى الانقسامات والانتماءات إلى أديان وقوميات وطوائف وعشائر ومناطق وأسر.
يبقى سؤال الهوية يحتل مكان الصدارة في الثقافة العربية الإسلامية بل أصبح ذا حساسية خاصة، نتيجة الأوضاع التاريخية والحضارية والمتغيرات الدولية التي تعيشها المنطقة والعالم.
تطالعنا وسائل الإعلام يومياً بكم هائل من الأخبار والتحليلات التي تدافع عن الدولة القُطرية أو القومية ، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، ومن طرف آخر نجد من يرى في العولمة قدراً محتوماً لابد من الانصياع له، وإلغاء التمايز والخصوصية الحضارية والتاريخية والاندماج في مجتمع عالمي موحد. لكل هذه القضايا ارتباطات مهمة ووثيقة مع إشكالية " الهوية" التي لم تكن تُطرح قبل عقود قليلة، فموضوعها حديث في الفكر العربي الإسلامي المعاصر. لهذا صار السؤال مركزياً وأساسياً حول الهوية، في محاولةٍ لفهم الذات والآخر.
يُقدم الكتاب رؤية جديدة حضارية تشكل السـياق الأمثل والأشمل في معالجة هذا الموضوع " إشكالية الهوية".
إشكالية الهوية في الفكر الإسلامي الحديث
مستخلص
إن سؤال الهوية في الثقافة الإسلامية المعاصرة ليس سؤالاً عارضاً ولا هامشياً، بل هو يحتل مركز الدائرة في الفعل الثقافي، ومنه تتفرع الإشكاليات والأسئلة النظرية الأخرى كافة، فعلى مدار ما يقرب من قرنين من الزمان كان سؤال الهوية والموقف منه هو المقرر لمصير التيارات الفكرية والمشاريع الحضارية التي طرحت في الساحة العربية والإسلامية، ومن ثمَّ فإن تجاهله أو محاولات تغييبه كانت وراء خيبات الأمل الكثيرة والعديدة التي عاشها الواقع العربي.
لقد عمدنا في هذه الدراسة إلى تقديم تعريف نظري لمفهوم الهوية، وما يتعلق به من مفاهيم نظرية أخرى؛ كالرؤية الحضارية والدعوات التغريبية وخطاب الهوية الخالصة وغيرها من متعلقات البحث النظرية، في سياق الفصل الأول الذي أسميناه "في سؤال الهوية ومتعلقاته النظرية".
أما الفصل الثاني فسوف نطل من خلاله على السياق التاريخي لنشأة هذا السؤال في الفكر الإسلامي الحديث، وتطوره عبر مراحل الفكر العربي وتياراته خلال القرنين الأخيرين، ولقد أسمينا هذا الفصل: "سؤال الهوية بين قرنين".
أما الفصل الثالث فإننا نتعرض فيه لسؤال الهوية في ظل العولمة، وما يمليه هذا الواقع من تحديات وما يقدمه من فرص، وقد أسميناه: "الهوية الحضارية الإسلامية بين العالمية والعولمة".
ونود الإشارة إلى أننا سعينا إلى تقديم رؤية إسلامية لموضوع الهوية؛ بمعنى أننا ننطلق من المحددات العامة للثقافة الإسلامية التي تشكل بالنسبة إلينا هوية فكرية، في حين أننا نوظف منهجيات معرفية مختلفة لتقديم الموضوع من جوانبه المتعددة، وبشكل خاص سعينا إلى تقديم الموضوع من خلال رؤية حضارية تشكل، باعتقادنا، السياق الأمثل والأشمل لمعالجة هذا الموضوع.