المُنتهى.. عين المُبتدأ.
أكتبُ عادة مقدّمات كتبي بعد أن أفرغ من العمل على نصوصها.. وعنوان القصيدة نستوحيه وقد اكتملت..
وبحسب العبارة الشعبيّة..«لمّا يولد نسميه»..
لذلك فتقديم هذا الكتاب هو آخر ما كتبتُه منه..
وكما يقول مولانا جلال الدين الرومي:
"المُنتهى هو عين المُبتدأ"..
*******
لماذا ريشة؟.. ولماذا شغف؟.
أمّا لماذا ريشة.. فلأنّ الكتابة الوجدانيّة هي رسم بالكلمات..
ولماذا نكتب؟.. تساؤل طالما راودني.. عمّا يدفعني إلى الكتابة.. بل يأمرني بها.. حتى صارتْ إحدى رئتيّ..
الروائي الأميركي بول أوستر في كتابه «مذكرات الشتاء» يقول:
«كتبتُ لأنّني أردتُ أن أتنفّس، وأن أرى الأمور بشكل مـختلف وأن أستعيد نشاطي واستجمع أفكاراً جديدة».
والكتابة برأي الكاتب الأميركي ريد سميث: «أمر سهل، افتح شريانك.. واترك الدم يسيل».
نيل غايمان يعتقد أنّ الكتابة هي «أن تضع كلمة تلو الأُخرى، بتلك السهولة وتلك الصعوبة».
لكن ما وجدتُه لسانَ حالي، هو رأي الكاتبة المتمرّدة أناييس نين: «نكتب كي نتذوّق الحياة مرّتين. كتبتُ لأنني احتجتُ أن أخلق عالماً خاصّاً بي، كمناخ، كوطن، كطقس أستطيع التنفّس فيه، أستطيع أن أحكمه، أن أُعيد خلق نفسي حين تدمّرني تجربة الحياة. هذا -باعتقادي- هو السبب خلف كلّ أعمال الفن.»
كتبتُ -أولاً كي أراني.. لأنني أؤمن: «اكتبْ كي أراك».. و"من عرف نفسه فقد عرف ربّه".. والكتابة.. حقّاً.. شحذت بصيرتي.. فقطّرتُ روحي في حروف.. وكتبتُ في مقدّمة كتابي «وهج روح»: « انطلقتُ فرساً جامحاً أصهل بحريّة، تنحسر غربتي يوماً بعد يوم، أتنفّس من مسام كلمات تتناغم كافّة حواسي في صياغتها، تتجمّع حروفها ندىً يبثّ الاخضرار في آفاق طالما أرهبتْني وحشتها وغموضها، فأحتويها كلّها بين ذراعيّ»..
-ثانياً.. وجدت الكتابة بلسماً.. الكتابة حقّاً أنقذتني..
فحين مرض كلانا.. أنا والوطن..
وحين اغترب كلانا.. أنا والوطن..
وحين قطّبتْ الدنيا حاجبيها.. بقي كل شيء جميلاً.. وألوفاً في عالم الكتابة.. كأنّه اعتذار الحياة أو لِنقل إنصافها..
وأدركتُ أنّي بقيتُ على قيد الحياة.. لأنني بقيتُ على قيد الكتابة..
«أكتُبُ » - كما يقول نزار قبّاني- « فأستردُّ الزمن المفقود»..
*******
أمّا لماذا «الشغف».. فماذا غيره يمكن أن يخلق الإبداع؟..
والشغف(Passion) -في اللغة- هو مرتبة عالية من مراتب الشعور بالحب نحو أيّ شيء، شَغَفَ الْحُبُّ قَلْبَهُ: أَصَابَ شَغَافَ قَلْبِهِ والشَّغَافُ: غِلاف القلب أَو سويداؤُه..
وشَغَفَ اليَبِيسُ: نَبَتَ فيهِ الأَخْضَرُ.. أي أنّ في الشغف حياة..
أن ندعَ قلبنا حراً ونتبعه، نقول له كما قال محمود درويش لقلبه:
تمرَّدْ ما استطعتَ عليَّ، واركُضْ
فليس وراءنا إلاَّ الوراءُ!
فالشغف يُشعل جمرة الإبداع، يثور بنا.. يستنبطنا.. يُلهمنا ويُلهبنا، يأخذنا هناك.. حيث التجلّي. نرتقي إلى النشوة.. فتتبدّل المعايير.. وتتوهّج الأشياء..
تطرّفٌ جميل.. توحّد الرغبة بالموهبة.. في سعيهما إلى الإتقان..
لذا تطلّ أرواحنا من تفاصيل ما نخلقه بشغف.. فيشبهنا..
و«ما كتبتُ ولكنّ الشغف كتب»:
ذات ألق
غافلتُ شعاعاً ساهياً..
تشبّثتُ به..
يطوي المسافات والزمن..
جبتُ في ضوء ظلّه
أكواناً وألواناً..
فانتشيتُ..
انتشيتُ حتّى.. كتبتْ.
*******
يقول الرومي: "كلّ انسان خُلق لعمل معيّن..
ستجد الشغف بذلك العمل في كلّ قلب لكن.. منْ يرى..".
وشغف الكتابة يتكاثف حروفاً ومعاني.. ليخلق الأدب.. المكان الوحيد في العالم الذي يتلاقى الغرباء فيه ببساطة ودون حرج.. بل وربما خارج الزمن..فقد يكون اللقاء بين كاتب وقارئ لا ينتميان إلى العصر نفسه، وهكذا فالكاتب سفير عصره في العصور اللاحقة..
البقاء إذاً للفكر.. كاتب حروف «أوغاريت» المغمور كان أهمّ من كلّ ملوكها.. ومفتاح خلود المملكة واللغة المكتوبة..
والأدب أرفع من أعلى مكانة.. لو أدرك المتنبّي أنّه سيخلّد بشعره سيف الدولة وكافوراً.. لما قضى عمره بين بلاطين ينشد حكم إمارة زائلة!!..
*******
هذا الكتاب هو تدوين لمشاعر وأفكار وأحداث عبرتها أو عبرتني.. نثرتها في خمسة فصول..
ولأن الفنّ وحدة لا تتجزأ.. واللوحة أو الصورة.. اللحن أو الكلمة.. كلّها تختصر عوالم حين تُجيد.. اخترتُ بوّابات الفصول لوحات لرسّامين سوريين معروفين ممن يعاصروننا كالفنّان أحمد معلّا وسارة شمّا، أو من روّاد رحلوا كالفنان نصير شورى أو فاتح المدرّس أو أدهم اسماعيل.. ألا يخاطب الفن الجميل الصادق أعلى درجات الإحساس؟..
واختيار لوحات فنانين سوريين في زمن الحرب.. تأكيد على أنّ السوريين أصحاب إرث حضاريّ عظيم.. لم يكونوا يوماً دُعاة حرب بل دُعاة خلق.. دُعاة حياة.. رغم أزمان الموت..
لستُ ناقداً فنيّاً.. لكنّي وقعت في غرام إحدى لوحات الفنّان عبد القادر النائب.. واخترتها لغلاف هذا الكتاب.. ربّما لأنني شعرتها تشعّ بحبّ الحياة في ابتسامة صبيّة.. وفي خصلات شعرها التي تحمل أطياف قوس قزح.. لوحة تبثّ الفرح.. كما تمنّيتُ دائماً أن أكون..
*******
وبما أنّ الأقوال التي تلخّص الحكمة وتجارب الحياة لا تلتصق بزمان أو مكان، فقد أدرجتُ قبل كلّ فصل وكل ّنص ما يُشير إلى المغزى من أقوال مولانا جلال الدين الرومي صاحب كتاب «المثنوي»..
وقد اخترتُ الرومي -أو ربّما اختارني- لأسباب عدّة،.
منها أنّ الشغف الذي قصدتُه هو قلب حكمة هذا العالم المتصوّف المؤمن بتعاليم الإسلام السمحة، وفق أفق متّسع مرن متسامح مع كلّ المعتقدات والأفكار، داعياً إلى الخير والأمل وإدراك الأمور بالمحبّة، والترفّع عن الصغائر..
ولأنّه وجد في الإصغاء إلى الموسيقا الروحيّة (السماع) والشعر دروباً إلى معرفة الخالق، فإلى «مولانا» تُنسب الطقوس التي ما زال دراويش الطريقة المولويّة يرقصون بها رقصة السماح الدائريّة. كرحلة روحيّة تصاعديّة للوصول إلى الكمال، حيثُ يفنى المُريد ثمّ يعود إلى الواقع ممتلئاً بالمحبّة الخالصة الشاملة.
ولأن الرومي نطق حقّاً، فزوّار قبره في قونية يزدادون كلّ يوم.. وما زالتْ أشعاره بعد ثمانية قرون من رحيله تبثُّ الحب الذي دعا إليه طريقاً إلى الله..
"فلندرْ حول قلوبنا.. فإنّ في كلّ قلب كوناً مخفياً!" أليست هذه هي اللغة التي نحتاجها اليوم في زمن شُوّهت فيه صورة الإسلام وسُيّس وتستّر خلفه التطرّف وتصاعد العنف وأفرغتْ التكنولوجيا البشر من إنسانيّتهم.. فتنافروا وتمترسوا دون تفكير وراء انتماءات صغيرة متناحرة؟..
"واعلم أنّ الباب هو قلبك ? سواه.. لماذا تبقى في السجن عندما يكون الباب مفتوحاً على مصراعيه؟".
*******
تقول إليزابيت جلبرت في كتابها «الأكل، الصلاة، الحب»:«إنّ كلّ من يمرّ في حياتك مُرسل لمهمّة ما.. ليكشف لك طبقة أُخرى من ذاتك».. واحد ليعلّمنا كيف نحب، وآخر ليعلّمنا كيف نغفر، وغيره لنعرف مدى قوّتنا.. وهكذا.. ففي فصل «وجوه» إضاءات سريعة على جوانب من شخصيّات عرفتُها.. تركتْ أثرها في تكويني.. لأنّ "الذي زرعته في روح كلّ شخص، سينبت".. وكلّها معاً الحقيقة.. "وكأنّما كانت الحقيقة مرآة في يد الله.. وحين سقطتْ، تهشّمتْ، فكان أن أخذ كلّ واحد قطعة من الهشيم.. ونظر فيها قائلاً: هذه هي الحقيقة ولا سواها!"(الرومي).
*******
كيف يُقاس العمر بوحدات الزمن وهي غير متجانسة ولا متساوية؟..
هناك لحظات لا تمرّ..
ترسو في مجرى الزمن..
نعيشها كلّما تفقّدناها.. بل «تعيشنا»..
لحظات لا تهرم..
تبقى بزاخر مكنونها
تتوهّج أبداً في مكانها..
بينما تخبو نيازكنا
مهما طالتْ مساراتها..
لذا -في فصل عوالم- دوّنتُ بعض لحظات تجلّ دون تشذيب لئلا تفقد صدقها.. ولأنّ «التأمّل في الحياة يزيد أوجاع الحياة».. كما يقول إيليّا أبو ماضي..
ففي تلك اللحظات.. نتلبّد بالحزن.. ونغصّ دون أن نهطل.. لحظات لا تخضع لمعايير الزمن..
فيها تسيل الروح دمعاً خفيّاً.. وتحبل الهنيهة بألف عام..
ولكن"لاتجزع من جرحك.. وإلّا فكيف للنور أن يـتـسلّل إلى باطنك؟" (الرومي)
*******
السفر معلّم كبير.. وأصعب الأسفار وأمتعها وأبعدها هو رحلتنا داخلنا.. والشيخ الأكبر ابن عربي يقول: «إنّما هذه الأسفار كلها قناطر وجسور نعبر عليها إلى ذواتنا وأنفسنا». وفصل «حقائب سفر» هو صور من قصص عشتُها أثناء أسفاري وما أكثرها.. «لعلّ الأشياء البسيطة.. هي أكثر الأشياء تميّزاً، ولكن.. ليست كلّ عين ترى".(الرومي)
وأوّل الأسفار وآخرها.. هو حيثُ المبتدأ والمنتهى.. «أوغاريت»..فقد.. جئتُ يوماً من هناك.. وإلى هناك..حيث تُعانق جذور أشجار الزيتون بقايا من كنتْ.. وتُردد الجبال صدى أصوات من سأكون..
إلى خلجة بين حنايا تلك الأرض.. إلى هناك... يوماً.. سأعود..
*******
أمّا فصل قارئة الفنجان فهو بحث دفعتني إليه تجربتي الشخصيّة مع ناديا.. الطبيبة البلغاريّة التي أقامتْ لديّ إحدى عشرة سنة، اكتشفتُ خلالها أنّ في بيتي.. عرّافة.. ودفعتني قصصها الغريبة أن أقرأ حول علم ما وراء الطبيعة (الباراسايكولوجي)، لأعرف أكثر عن القدرات الكامنة للإنسان.. والرومي يقول «لقد خلق الله لك جناحين.. فـلماذا تفضّل أن تمضى في الحياة حبواً.؟".
*******
«مدهشة قدرة الكتب على مخاطبة قلوب الناس وعقولها في شكل مباشر، ولذلك علينا منحها أفضل ما لدينا» (بول أوستر).
ولأنّ المعرفة مسؤوليّة.. والقلم مسؤوليّة.. وضعتُ في ختام الكتاب فصل «ياقة خريف»..
فصل ربّما تفوق فائدته متعته.. هو خلاصة ما قرأته عن المخاطر المُحدقة ببيئتنا.. نحن سكّان الأرض..
وجدتُه واجباً أن أشارككم هذه المعلومات.. خاصّة و«قد بدأ الوقت ينفد من أيديكم» كما حذّر بانكيمون الأمين العام للامم المتحدة في افتتاح مؤتمر المناخ في كوبنهاجن عام 2009م.
ومولانا يقول: «تلك الأرض الكريمة تأخذ الفضلات.. فتزهر جما?ً وحياة.. حاول أن تتعلم من الأرض.»
*******
يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي:
«كلّ نهاية لا يصحبها حال البداية لا يُعوَّل عليه»..
ولأن عدم الرضى في نهاية أيّ عمل شرارة تُشعل آتون عمل قادم.. لذا أختم هنا ولديّ شعور أني لم أكتب ما عليّ أن أكتبه.. أو بالأحرى أن «يكتبني»..كأنني لم أكتب أبداً.. أو كأنّي لستُ من كتب..
في داخلي آتون أفكار ومشاعر.. لكن استلال ما يُرضي الروح التوّاقة منها صعب..
و«الكاتب الذي لا يكتب - والقول لفرانز كافكا - وحش يغازل الجنون»... صوت بوكوفسكي العميق لا يكلّ ينخر رأسي:
« إذا لم تخرج منفجرةً منك،
من قلبك ومن عقلك..
ومن فمك ومن أحشائك
فلا تكتبها.
إلّا إن كانت تخرج من روحك كالصاروخ،
إلّا إن كان سكونك سيقودك إلى الجنون،
أو للانتحار أو القتل
لا تكتبها،
إلّا إذا كانت الشمس داخلك
تحرق أحشاءك،
لا تكتبها.
لا توجد طريقة أُخرى.. ولم توجد قطْ.»
إذاً.. ها أنا أُنهي كي أبدأ مجدّداً..
بلى يا مولانا..
«حيثما يكون المُنتهى هو عين المبتدأ»..
كتاب ريشة شغف .. تدوين لمشاعر وأفكار وأحداث مرت بها الكاتبة وعاشت مع دقائقها وقلقها .. وشغف الكتابة يتكاثف حروفا ومعاني ..ليخلق الأدب..المكان الوحيد في العالم الذي يتلاقى الغرباء فيه ببساطة ودون حرج.. وربما خارج الزمن ..فقد يكون اللقاء بين كاتب وقارئ لاينتميان الى العصر نفسه.. فالشغف يُشعل جمرة الابداع، يثور بنا.. يأخذنا هناك.. حيث التجلي.. نرتقي إلى النشوة.. فتتبدل المعايير.. وتتوهج الأشياء.. تطرفٌ جميل ..توحّد الرغبة بالموهبة.. في سعيها الى الاتقان .. لذا تطل أرواحنا من تفاصيل ما نخلقه بشغف.. فيشبهنا.
ريشة شغف ..كتاب جدير بان يكون صديقنا..
وأسارع إليه .. ثياب غارقة بالألوان ووجه متعب ..
ولكنه يتألق رضا بولادة لوحة جديدة..
ويشرق الطفل من كل خلجاته
وهو يشرح منتشياً بما يشبه الشعر .. عوالمها وطبقاتها ..
لم أقو - رغم مرور السنين - على تفسير حالة الافتتان
التي تملكني في محرابه حين يرسم ...
أستمتع بمراقبته مستغرقاً .. مأخوذاً ...
أرقب يديه المعروقتين .. وعينيه التائهتين فيما وراء المدى ..
أتابع حركات أصابعه الرشيقة .. تراقص ريشة منتشية ..
تغمر المساحات البيضاء بالألوان الشفافة لصفائه الداخلي،
تكسو قسمات وجهه موجات مختلفة لأحاسيس يعيشها ...
وبين تقطيبة الحاجبين ..
وطيف ابتسامة الرضا على الشفتين ..
تعبر الحيرة والشك .. والحزن .. البهجة والغضب ..
الحنان والشوق
حالات تتقمصه كلها .. إلى أن تولد اللوحة من معاناة الروح ...