مقدمة كتاب الهوية الحضارية ما إن بدأت عيناي تدركان ما حولهما من وقائع وتتفتّحان على الدنيا؛ حتى ألـمَّت بأمتنا النكبة الكبرى، نكبة فلسطين التي اغتصبتها الصهيونية العالمية، وشردت أهلها بالتعاون مع القوى الاستعمارية الغربية، وفي مقدمتها بريطانية التي حملت بإسرائيل ووضعتها، وأمريكا التي ربَّتها ورعتها. مضىسبعونعاماً،والأمتانالعربيةوالإسلاميةتزدادانضعفاًوتمزقاًوغرقاًفيدماءبعضهمبعضاً. ومنذ ذلك الحين وأنا أسأل نفسي: كيف حدث ذلك؟ علماً بأننا نحن أهل القرى والمدن الفلسطينية لم ننهزم عسكرياً، بل كنا نصد هجمات العصابات الصهيونية الإرهابية بنجاح، بالرغم من ضعف إمكاناتنا وقلة عتادنا بالمقارنة مع العدو. وما زلت أتساءل: كيف استطاعت الحركة الصهيونية ــ التي لو ضمَّت في صفوفها يهود العالم كلهم؛ لما بلغ تعدادهم تعداد سكان أي قطر كبير من الأقطار العربية، أو من الأقطار الإسلامية ــ أن تهزم هذا الكم الهائل من البشر؛ الذين يتمتعون بوحدة الفكر ووحدة العقيدة، وفي إطار وطنهم تقع الممرات البحرية والبرية التي تربط قارات العالم بعضها ببعض، وفيه ثروات ضخمة ظاهرة ومخزونة في باطن الأرض. بقيت أطرح على نفسي أسئلة كهذه ولا أجد جواباً. ثمفتحتُعينيَّعلىمانشأفيالوطنالعربيمنأحزابوهيئات؛تدعوكلهاإلىتحريرالوطنوالحقوقالمغتصبة،وإفشالالمشروعالصهيونيالاستعماريالاستيطاني،وساورنيالأملفياقترابالفرج،ونجاحالأمةفيامتلاكزمامأمورها،واستردادهيبتهاوحقوقهاالمغتصبة. فدرستأدبياتالأحزابمنأقصىاليمينإلىأقصىاليسار،علنيأجدفيمناهجهاوبرامجهاوأفكارهامايجيبعلىتساؤلاتي،فلمأجدشيئاًسوىشعاراتونظرياتجميلةًوجذابة،ولكنهالمتشخصعلةالأمةولمتبينسببتراجعها،لذلككانالواقعدائماًمخالفاًوغيرمتطابقمعمايطرحمننظرياتوبرامج. حتى الثورة الفلسطينية التي تقودها منظمة التحرير الفلسطينية، الحاضنة لفصائل المقاومة الفلسطينية كلها، أخفقت حتى الآن في توحيد الفصائل بالرغم من وحدة الهدف عند الجميع، وأخفقت كذلك بالاحتفاظ بالهدف الاستراتيجي الذي أنشئت من أجل تحقيقه، بل أدى الخلاف لديها إلى انقسام ما كان يحتمل أن يكون دولة فلسطينية، إلى كيانين قبل أن تقوم الدولة. ثم درست التاريخ، فاكتشفت أنه أتى علينا حين من الدهر نجحنا في تشكيل هوية حضارية؛ بفضل تفاعل النظرية الكونية الدينية التي تقول بها الأديان كلها، وخصوصاً السماوية، ولكن بما أن القرآن الكريم وحده هو الذي وضع نظاماً حياتياً شاملاً ومتكاملاً، فإني سوف أطلق على هذه النظرية من الآن فصاعداً، مصطلح (النظرية الكونية الإسلامية) التي تفسر وجود الكون، وينبثق عن هذا التفسير نظام حياتي شامل متكامل ــ وليس فقط مجرد شعائر دينية وعبادات ــ مع العروبة (ثقافة ولغة، وليس عرقاً). لقد أسهمت هذه الهوية الحضارية العربية في بناء حضارة إنسانية واسعة، وفي تطوير العلوم وغيرها من مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، واتسعت رقعتها إلى أقاصي الأرض في زمن قياسي.. ولكن هذه الهوية أُصيبت بمرض خطير؛ يعرف في علم النفس بــ (انفصام الشخصية)، وفي علم الاجتماع بــ (انفصام الهوية الحضارية)، أي إن الهوية الحضارية العربية، قد تحللت إلى عنصريها المكوّنين لها، وهما النظرية الكونية الإسلامية وما انبثق عنها من نظام حياتي (وليس الدين والعبادات فقط) والعروبة (ثقافة ولغة، وليست عرقاً). وأصبح هذان المكوّنان عدوين لدودين.. هذه هي العلة التي أدت إلى تخلف هذه الهوية وضعفها. لم تستطع الأحزاب والهيئات والفصائل كلها تشخيص العلة، لذلك كل ما وصفته من علاجات وأدوية لم تنفع، فازدادت الحالة المرضية سوءاً، وانشغل أبناؤها بالحرب الدائرة بين المكوّنين عن الهدف الأساسي، ومنبع العلل كلها، وهو العدوان الصهيوني على أرضنا وشعبنا وهويتنا الحضارية، الأمر الذي أنهك أبناءها ومزَّق أرضها.وهذا يفسر انتصار الهوية الحضارية اليهودية(الصهيونية)؛ التي تشكلت من تفاعل النظرية الكونية اليهودية مع العبرية (ثقافة ولغة، وليست عرقاً)، على الهوية الحضارية العربية. فالعلة الأساسية إذن هي (انفصام الهوية الحضارية)، والعلاج هو إعادة بناء هذه الهوية، فمثلها كمثل الماء، الذي يتكون من عنصري الأكسجين والهيدروجين بصيغة (H2O)، فإذا ما حلّلنا الماء إلى مكوّنيه، فإننا نحصل على أكسجين وعلى هيدروجين، ولكننا نفقد الماء، فتجف حلوقنا ونموت عطشاً، وتجف أرضنا وتتشقّق. ولكي تستعيد هذه الهوية الحياة؛ لا بد من إحداث تفاعل بالطرق الصحيحة (لأن الخطأ ربما يؤدي إلى انفجار) بين المكوّنين، وإن أخفق أبناء هذه الهوية، في إحداث التفاعل ــ بصورة مناسبة وصحيحة ــ بين مكوني الهوية الحضارية العربية، فلسوف تظل الدوائر تدور على رؤوس أبنائها؛ حتى تبيد وتختفي الهوية الحضارية العربية بمكوّنيها من الوجود. وهذا ما دفعني إلى تأليف هذا الكتاب؛ تحت عنوان: (الهوية الحضارية العربية) راجياً من الله تعالى؛ أن يوفقني في التشخيص والعلاج، وبيان ذلك بوضوح. إبراهيم يحيى شهابي
يذهب الباحث في كتابه هذا الى أن تحلل الهوية الحضارية العربية الى عنصريها المكّونان لها، وهما النظرية الإسلامية وما انبثق عنها من نظام حياتي (وليس الدين والعبادات فقط)، والعروبة (ثقافة ولغة، وليست عرقا). بحيث اصبح هذان المكّونان عدوين لدودين يحاول كل منهما القضاء على الآخر، ومحوه من الوجود..وهي العلة التي أدت الى تخلف هذه الهوية وضعفها. ولايتوقف الباحث المعروف د. إبراهيم يحيى الشهابي عند إبراز وتحليل أسباب (انفصام الهوية الحضارية العربية)، بل يحاول التركيز على طرح البديل والعلاج لإعادة بناء هذه الهوية.
لماذا تردت الأوضاع العربية؟! لماذا أخفق العرب والمسلمون في التفاعل مع الأحداث ؟! ما جذور المشكلة؟ وكيف أجهضت جهود النهضة التي بدأها الأفغاني ومحمد عبده أواسط القرن التاسع عشر؟! ما دور توصيات كامبل بنرمان 1908؟! ما أثر دعوات المغرضين إلى العامية؟! ماذا فعل الحاجز البشري المغروس في المنطقة، والمعادي لشعوبها؟! كيف أخفقت الأحزاب والحركات السياسية، في مقابل المشروع الصهيوني؟! كل ذلك يعالجه الكتاب ويسلط عليه الأضواء، فيتناوله بأسلوب واضح شفاف، ثم يقدم أفكاراً عملية لمعالجة فقدان الهوية العربية، وتردي شعوبها؛ مشيراً إلى تجارب الأمم الحية التي استطاعت أن تتجاوز تخلفها، وتنطلق لتستأنف حضارة جديدة.. ويبني عليها الخطوات التي يجب على العرب اتباعها للخروج من نفق التخلف، وقبضة الخطط الاستعمارية والصهيونية؛ التي طال أمد الركون إليها!! إنه مشروع للنهوض، يخطط لمستقبل عربي وإسلامي فاعل!!
هذا الكتاب يبحث في طبيعة الهوية العربية، وما أصابها من علل أدت إلى إخفاق أبنائها في التفاعل مع الأحداث بصورة صحيحة، حتى آلت حالها إلى ضعف.. قسم المؤلف كتابه إلى خمسة فصول، بعد المقدمة التي ألقى فيها الضوء على أصل المشكلة لديه. ففي الفصل الأول " الهوية الحضارية" تحدث عن نظريات تشكل الأمم، وناقش النظريات القومية، وعرّف الهوية الحضارية ومكوناتها. وتحدث في الفصل الثاني " الهوية الحضارية العربية ومكوناتها" عن مكونين اثنين: الأول النظرية الكونية الإسلامية، والثاني العروبة ثقافة ولغة. وأطال في الفصل الثالث " المعالم الرئيسية للنظام الحياتي الإسلامي" فبحث في موضوعين: الأول عن نوعَي الحياة؛ فيما وراء الطبيعة وعلى الأرض. والثاني عن العلاقات بين البشر بموجب النظام الحياتي الإسلامي، وهذا قائم على التعددية، والتفاعل الحضاري، والاقتصاد المتنوع، والعدل، والعلم، والتربية. وقدّم في الفصل الرابع" ما آلت إليه الهوية الحضارية العربية" عنوانات عديدة؛ وهي على التتابع: توصيات كامبل بنرمان، إحلال اللغات العامية محل العربية الفصحى، حاجز بشري معادٍ لشعوب المنطقة، إخفاق الأحزاب والحركات مقابل المشـــــــــروع الصهيوني، الوضع الراهــــــن للحضارة العربية. وختم بالفصل الخامس كتابـــــــــه بعنوان "العلاج" فأشار إلى تجارب الشعوب الحية في النهوض من كبواتها.. ومن ثم الخطوات التي يجب على العرب اتباعها للنهوض. الكتاب يقدم أشياء مطروحة من قبل، لكنه يعالجها معالجة جديدة بأسلوب واضح يخطط لمستقبلها.