من مقدمة كتاب
مفاتيح تفسير نصوص الوحي
بين المنهج الإسلامي والمناهج المعاصرة
لقد مرت على الأمة في تاريخها الطويل مصائب ومحن، نقرأ عنها في كتب التاريخ، فلا نشك أنها كانت في أعلى درجات البلاء.
استبيحت عاصمة الخلافة ومدنها الكبيرة, وحُصِد العلماء حصداً على يد المغول, وأُغرِقت مكتباتها في دجلة حتى اسودَّ ماؤه, بل إن المؤرخين يقولون إن ذلك أبطأ مسار التطور العالمي ردحاً من الزمن, وأخذ الصليبيون بيت المقدس, وجعلوا الأقصى زريبة لخنازيرهم, وسقطت الأندلس, ثم طهرت تطهيراً عنصرياً لم يعرف التاريخ مثيلاً له، واستؤصل الإسلام منها استئصالاً متوحشاً, ثم سقطت الخلافة, ثم سقطت فلسطين ثم، ثم، ثم...
أحداث جسام لا شك, ولو أن هذه الأحداث وقعت لأمة لم تتعلق بالوحي - كما تعلقت الأمة الإسلامية - لبادت واندثرت, كما اندثرت أمم غيرها بأحداث دون ذلك بكثير.
لكن الأمة برغم كل تلك الأحداث,لم تكن تعاني من خطر ضياع الهوية, تعاقب عليها حكام فجرة؟ نعم. دَبَّ الضعف في أوصالها؟ نعم. انتشر العبث واللهو في أفرادها؟ نعم. دبَّ فيها داء الأمم قبلها: حب الدنيا وكراهية الموت؟ نعم.
لكنها لم تكن في يوم من الأيام - حاكماً ومحكومين - تشك في أن الطريق ثمة, ولم تشك أن الهوية هي الهوية, ولذلك كانت بعد كل مصيبة تنزل بها, تداوي جراحها وتعيد الانعطاف إلى طريقها الواضح الذي تنكَّبته, فلا يلبث أن يتحرك الناس كلهم - حكاماً ومحكومين - في ذلك الطريق, لتنهض الأمة من كبوتها من جديد بشكل عجيب وملهم.
إذن لقد كانت الهوية محل اتفاق, والمرجعية ليست محل نقاش, وهذا كان هو عامل الأمان الذي تسلحت به الأمة عبر تاريخها, وهو العامل الحاسم الذي حافظ على وجودها كأمة, ولو بشكل معنوي وفكري وثقافي.
وحتى مع واقع التجزئة والضعف الذي كان ينتابها بين الحين والآخر - كما هي سنن الله في الأمم - ولكن لم يكن ليغيب عن عقلها الجمعي أنها جسد واحد, وأمة واحدة, عما قليل ستقف وستنهض, ليكون ذلك أعظم مخزون استراتيجي تمتلكه الأمة في نفوس الجمهور من أبنائها.
ولكن....
لم يعد حال الأمة اليوم كحالها في الماضي, لقد تخلخلت عند أبنائها أكبر عناصر قوتها, أي: التفاف جمهورها وسوادها الأعظم حول الهوية الإسلامية الجامعة.
ولم يعد من النادر أن تسمع من هنا وهناك ذاك السؤال المؤلم: (من نحن ؟) و(من أي الطرق يجب أن نسير؟).
لم يكن هذا أمراً جديداً تماماً, فأزمة الهوية بدأت تظهر على السطح منذ القرن التاسع عشر تقريبا, أي مع دخول البعثات التبشيرية - ومن ثم الحملات الاستعمارية - إلى بلادنا, ولكنها كانت أزمة مقتصرة على النخبة المتغربة, ولكنها لم تعد كذلك منذ أن بدأت ثورة الاتصالات, لأن ثورة الاتصالات خلخلت خطوط الدفاع التي لم تزل الأمة تتمترس خلفها حتى في أصعب مراحلها, واخترقت أكثر خصوصياتها الثقافية, وما كان بالأمس كتاباً أو مجلة تقرؤها النخب, صار اليوم منشورات مدونات, تسري في الناس سريان النار في الهشيم, بلا نقد وبلا تحليل وبلا عمق ولا دليل ولا برهان.. ولا حواجز أيضاً تمنعها من العبور والانتشار.
وأما المتلقي فهو غالباً إنسان مسلم، مقهور، فقير، شبه أمي, لا يعرف من دينه إلا طقوساً وشكليات أكثرها لا تسمن ولا تغني من جوع, ولك أن تتخيل حجم الخداع الذي يمكن أن يتعرض له إنسان مجهز بآليات دفاعية تساوي الصفر تقريباً.
بل أقول إن أزمة الهوية ما عادت قاصرة على طبقات العامة من المسلمين, بل ضربت - لأسباب موضوعية إضافية - طبقة طلبة العلم الشرعي أيضاً, وهم الذين يعول عليهم -كما هو متوقع - في إرشاد الناس ودلالتهم على الحق وانتشالهم من متاهات الضياع, فكثير من هؤلاء تفرقت عليهم السبل أيضاً, وعصفت بهم رياح الثقافة المعولمة, واختلت في عقولهم الموازين وتبعثرت الأصول, هذا إن وجد عندهم - ويا للأسف - موازين وأصول.
وكم أشعر بالتمزق والعجز, وأنا أتعرض لأسئلة من شباب مسلم, حول إشكالات تثيرها تلك المواقع والصفحات والمنتديات والمحطات, فأجدني عاجزاً عن الشرح, إذ كيف أشرح قضية من أعمق القضايا الشرعية والفكرية والفلسفية, بعدة أسطر هي أكثر ما تسمح به ثقافة العصر ووسائل الاتصال الشائعة حالياً.
إنه من المعروف أنك تستطيع هدم قصر بقنبلة تضعها في قواعده, ولكنك ستحتاج سنوات بعد ذلك لتعيد بناء أو ترميم ما تهدم.
ومما زاد تعقيد الأمر أننا ونحن نعيش في عصر الثورات, فقد صار من السهل أن يثور المرء على كل شيء, لأن المزاج العام صار مزاجاً ثورياً, لا يثور على وضع سياسي معين فقط, بل يثور على نفسه وعلى تاريخه وعلى معتقداته وعلى رموزه وعلمائه, وليس هذا أمراً خاطئاً دائماً, بل ربما كان هذا النوع من الثورات الفكرية سبباً في نهضة قريبة وإعادة نظر في كثير من أخطاء تكيفنا معها، حتى صارت اعتقاداً راسخاً، ولكنها في حقيقتها كانت سبباً من أسباب أزماتنا.
لكل تلك الأسباب...
كان لابد من إعادة توجيه النظر إلى أصول التدين الإسلامي, والقواعد الكبرى المكونة لمنهجه العلمي, بإعادة كتابتها وتقريبها للناس, لأنني لا أعلم دواء لهذه الفوضى الفكرية العارمة خيراً من التداوي بالعلم, ولا أعلم لقاحاً نحصن به أبناءنا من الأدواء الغازية خيراً من التعلم.
كتاب رصين يحاول المؤلف من خلال صفحاته بيان موقف المسلم من نصوص الوحي؛ حدود الثابت والمتغير فيها ودرجة التغيير.. وذلك بإعادة كتابتها وتقريبها للقراء. ويتطرق الى الهوية الإسلامية قديماً، وواقع الأمة وحالها اليوم لإزاء تلك الهوية، وما يطرأ على فكر المسلم المتلقي من مواقع الاتصالات.
هذا الكتاب محاولة لبيان موقف المسلم من نصوص الوحي؛ حدود الثابت والمتغير فيها ودرجة التغيير .. وذلك بإعادة كتابتها وتقريبها للقراء.
الكتاب؛ بعد المقدمة التي تتحدّث عن الهوية الإسلامية قديماً، وواقع الأمة وحالها اليوم إزاء تلك الهوية، وما يطرأ على فكر المسلم المتلقي من مواقع الاتصالات؛ ينقسم إلى أربعة فصول:
يقع الفصل الأول "أصول الفقه وتعريفه وأهميته وأقسامه الكبرى" في بحثين؛ الأول أهمية دراسة علم أصول الفقه، والثاني أقسامُه الكبرى.
وجعل المؤلف الفصل الثاني "أهم قواعد التعامل مع نصوص الوحي واستنباط الأحكام منها" في ثمانية مباحث؛ دارت حول تقسيم نصوص الوحي إلى قطعية وظنية، وتقسيم دلالاتها إلى أصلية وتابعة لها، وتقسيمها باعتبار الاستعمال في المعنى، وتقسيمها كذلك من حيث شمولُـها، ومن حيث درجةُ وضوحها، وتقسيمُها باعتبار دلالتها على الخبر أو الإنشاء .. وأخيراً تأويلها نصوص الوحي وشروطه.
كما انقسم الفصل الثالث "تفسير نصوص الوحي بالمناهج المعاصرة: المنشأ والمآل" إلى أربعة مباحث تحدث فيها المؤلف عن تاريخ تزوير الوحي، وعن الخلفية التاريخية لمناهج القراءة المعاصرة، وأثر روح الحداثة وما بعد الحداثة في مناهج قراءة النصوص .. وعن الباطنية الجديدة.
وفي الفصل الرابع "الضوابط العامة لفهم نصوص الوحي" ذكر خمسة ضوابط لذلك؛ وهي أن الإنكار المسبق يحجب عن الفهم، وأن نعرف من المتكلم! وضرورةُ أن يبقى فهمُ النص مشدوداً إلى مركزه، مع الاعتماد على محكمات الوحي، وأخيراً ألا تفسَّرَ النصوصُ بعيداً عن قوانين اللغة.