الخطبة وصورها
إنّ الغرض من الزواج العشرة الدائمة بين الزوجين للتوالد، والتعاون على شؤون الحياة، وحاجات الإنسان كان لا بد لمن أرادا التزوج أنْ يكون كل منهما على بينة من أمر الآخر قبل الارتباط بعقدة الزواج، حتى لا يكون الاقتران على عمى، ولهذا شرع الله أحكام الخطبة.
صور الخِطبة:
أولاً- عرضُ المرأة نفسَها على الرجل الصالح ليتزوجها:
قال أنس: ((جَاءَت امْرَأَةٌ إلى رَسُولِ اللَّه (ص) تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَها، قَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَكَ بِي حَاجَةٌ؟ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَها! وَاسَوْأَتَاه وَاسَوْأَتَاه، قَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ رَغِبَتْ في النَّبِيِّ (ص)؛ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَها)).
ثانياً- عَرْضُ الرجل نفسه على المرأة ليتزوجها:
طلب جرير البَجَلي عمر أن يخطب له امرأة من دوس، ثم طلبه مروان بن الحكم بذلك لنفسه، ثم ابنه عبد الله كذلك، فدخل عليها عمر، فأخبرها بهم الأول: فالأول: ثم خطبها لنفسه، فقالت أهازئ أم جادّ؟ فقال: بل جادّ، فنكحته، وولدت له ولدَين.
ثالثاً- عرض الرجل ابنته على أهل الصلاح:
إنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه (ص)، فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ: ((أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ في أَمْرِي، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، ثُمَّ لَقِيَنِي، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ يَومِي هذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئاً، وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّه (ص) فَأَنْكَحْتُها إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئاً، قَالَ عُمَرُ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّه (ص) وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّه (ص) لقَبِلْتُهَا)).
رابعاً- أن يبعث شخصاً يخطبُ له:
لَمَّا هَلَكَتْ خَدِيجَةُ، جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تتَزَوَّجُ؟ قَالَ: مَنْ؟ قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْراً؛ وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّباً؛ قَالَ: فَمَنْ البِكْرُ؟ قَالَتْ: ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّه عزَّ وجلَّ إِلَيْكَ، عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: وَمَنِ الثَّيِّبُ قَالَتْ: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ عَلَى مَا تَقُولُ، قَالَ: فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِما عَلَيَّ))
رؤية المخطوبة
مما يُرطب الحياة الزوجية، ويجعلها محفوفة بالسعادة محوطة بالهناء، أنْ ينظر الرجل إلى المرأة قبل الخطبة ليعرف جمالها الذي يدعوه إلى الإقدام على الزواج بها، أو قبحها الذي يصرفه عنها إلى غيرها.
قال جابر: خطبت جارية، فكنت أتخبأ لها؛ حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها.
وقد خطب عمر بن الخطاب إلى علي ابنته، فقال: ما بك إلا منعها، قال: سوف أرسلها، فإن رضيت فهي امرأتك، وقد أنكحتك، فزيّنها، وأرسل بها إليه، فقال: قد رضيت، فأخذ بسَاقها، فقالت: والله لولا أنك أمير المؤمنين لَصَكَكْتُ عينك.
المذاهب:
الحنفية: النظر إلى المخطوبة قبل النكاح سُنّة، وهي داعية للألفة.
المالكية: أجاز مالك النظر إلى الوجه والكفين فقط.
الشافعية: إذا رغب في نكاحها، استحب أن ينظر إليها لئلا يندم، ويجوز تكرير هذا النظر، ليتبين هيئتها، وسواء كان النظر بإذنها أم بغير إذنها، فإنْ لم يتيسر النظر، بعث امرأة تتأملها وتصفها له، والمرأة أيضاً تنظر إلى الرجل، إذا أرادت أنْ تتزوجه فإنّه يعجبها منه ما يعجبه منها.
الحنابلة: لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها.
وفي فتح الباري: قال الجمهور: لا بأس أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة، ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها. وقال الأوزاعي: يجتهد وينظر إلى ما يريد منها إلا العورة. وقال ابن حزم: ينظر إلى ما أقبل وما أدبر منها. وقال الجمهور أيضاً: يجوز أنْ ينظر إليها إذا أراد ذلك بغير إذنها، وعن مالك رواية يشترط إذنها.
الدليل: إنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّه (ص) فَقَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللَّه جِئْتُ لِأَهَبَ لَكَ نَفْسِي، فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّه (ص) فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ)).
وفي مسألة النظر إلى المخطوبة عدالة ظاهرة، إذ إنّ الشرع الحنيف لم يلزم خاطباً أن يتزوج امرأة لم يرها، كما لم يترك الحبل على الغارب للخاطب أن يصحبها ويخلو بها، ثم بعد ذلك لا يتزوجها، وهذا أمر منتشر في زماننا هذا، فليتقِّ اللهَ الآباءُ في بناتهم.
الحياة السعيدة هي الحياة القائمة على المحافظة على الحقوق والواجبات، وأي خلل بالقيام بهذه الحقوق والواجبات قد يوصل إلى الطلاق.
والذين يظنون أن الإسلام أباح الطلاق مطلقاً بلا ضوابط، وفتح للناس الأبواب على مصاريعها في أن يتزوجوا متى يرغبون، ويطلقوا وقتما يشاؤون، فقد اخطؤوا خطأ فادحاً، ولم يفهموا حكمة الباري عز وجل.
هذا الكتاب يتناول مسألتي الزواج والطلاق عند الصحابة، ويبين اختلافهم فيهما اختلاف رحمة، لا اختلاف تفرقة وانقسام. وهو موضوع جدير بالاهتمام؛ قام به الباحث على الوجه الأمثل.