ألقى نظرة حوله باحثاً عن جنوده، لقد أخذوا السيارة إلى ضفة النبع لتبديل مائها الحار... سار إليهم.
على رأس النبع فتاةٌ بيدها جرّة، تنتظر الجنود ليفرغوا مِن ملء الماء...
ما هذا؟!.. ما هذا المظهر الأخّاذ... يرمق ابتسامتها الخفيَّة بطرف عينه. أما الشعور الساخر الذي وقع في صدره، شعور أميرانهار مغمى عليه بمجرد رؤية محبوبته، وفتاة مضفورة الشعر أضحت ملقاة في فراشها بعد فقدان أميرها... كما في القصص والحكايات...
اِنصدام صاعق متبادل... لكن... ليس هناك مغمىً عليه ولا صاحٍ مِن غيبوبته... والفتاة على ما هي عليه لم يُصبها شيء... ذات شخصية رائعة، ووجه رُسمت عليه ابتسامة لطيفة... حاول مبادلتها الابتسامة واقترب منها.
فاحت رائحة خليط رائحة القرنفل ، والقِرفة والزعفران، تطايرت هذه الرائحة لتصفع وجهه فيحظى بطعم هذا الخليط...
وجّه سؤالاً انبثقَ مِن شفتيه دون استئذان:
- لقد أبَطأ عليك الجنود!.. هل آمرهم بإفراغ النبع؟
تخرج تلك الكلمات كنُظم موسيقا في غاية الرّقة:
- لا داعي يا سيدي... سأنتظر.
- هل أنتِ مِن هنا؟
- نعم...
- هل رأيتِ مدينة إسطنبول؟
- لم أذهب أبداً؟ ولم أحظى بِمَن يصحبني إلى هناك؟
- ما اسمك؟
- خديجة...
أحس كأنّ قدميه انفصلتا عن التراب، ولم يعد يشعر بحواسه الخمس بالعالم المادي.. رأى نفسه في مرآة طويلة، وكأنما كان يطارد أحداً فيها.. ولكن هل هذا ممكن؟ هل الممكن السير في المرآة؟ وهل المسافات هي نفسها؟ أجل.. إنسان على الأريكة.. إنسان كإنسان، إنسان ذو شارب أبيض مقصوص ولحية طويلة... لا يدرك ناجي شيئاً آخر منه.. كبر الشخص في المكان الذي يجلس فيه، ولامس رأسه السقف ليجد ناجي نفسه في أحضانه يعلو ويرتفع إلى السماء.
سماوات كشلال الأنوار، سماوات سبع متداخلة كعجلات سبع. تدور على عكس دوران بعضها بعضاً.. تعزف أكثر الألحان شجواً، تحلّ أسرار الأموات، وتنسجها نتيجة معادلات الغموض.. ما من متكلم هناك، وإنما الموجود معانٍ تجري كشلال موسيقي.