تخطي إلى المحتوى

نظرية المعرفة في القرآن الكريم

20% خصم 20% خصم
السعر الأصلي $13.00
السعر الأصلي $13.00 - السعر الأصلي $13.00
السعر الأصلي $13.00
السعر الحالي $10.40
$10.40 - $10.40
السعر الحالي $10.40

يبين نظرية المعرفة ، وطبيعتها في القرآن الكريم، وتطميناتها اللغوية والتربوية، ومصادرها وطرائقها وحدودها، بأسلوب البحث المنهجي القائم على التتبع والأدلة.

المؤلف
التصنيف الموضوعي
472 الصفحات
24×17 القياس
2002 سنة الطبع
9781575479422 ISBN
0.59 kg الوزن



الفصل الثاني

ميدان المعرفة: الغيب والشهادة

تَمهيْد:

يبدو أنَّ من المناسب - قبل الدخول المباشر في الموضوع - الإشارة إلى أن تقسيم ميدان المعرفة في القرآن إلى ميدانين هما: الغيب والشهادة، أمر ينسجم وثنائية الوجود أساساً، تلك التي تقوم على مسلَّمة مفادها أن الله تعالى يمثل الطرف الأول في هذا الوجود، في حين تمثل عناصر هذا الكون طرفه الثاني.

وبتعبير أوضح فإن الله سبحانه مصدر عالم الغيب، ولذلك فإن موضوعـات الغيب كالملائكة والجن والجنة والنار وسواها تنضوي تحت عالم الغيب، ولكن معلوماتنا عنها مستقاة من عالِم (بكسر اللام) الغيب، وهو الله تعالى. الأمر الذي يجعلنا نعتقد أن الله - سبحانه - هو أول معنى متبادر من عالَم الغيب، وماعداه فرع عن إيماننا به -جل وعلا-.

وعليه فإن معرفتنا التربوية مستقاة من عالِم الغيب فيما يتصل بالموضوعات الغيبية التي يشملها محتوى المنهاج.

ويلفت نظر المتفحص للقرآن الكريم أن الله تعالى حين يتحدث عن الكون بوصفه عوالم متعددة كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [الفاتحة:1/2]، حتى لا نكاد نعثر على ذكر للعالَم بصيغة المفرد، مما يؤكد أن ثمة عوالم كثيرة من حيث العدد، بيد أنها من حيث النوع عالمان:

عالم غيب وعالم شهادة، والله هو عالِم الغيب والشهادة: {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ} [الرعد: 13/9].

ومما يلاحظ أن القرآن الكريم ابتدأ في جميع آيات الغيب والشهادة بذكر الغيب قبل الشهادة دون العكس، مع أن علم الغيبيات أشرف من علم الشهادات، والتمدح به أعظم، وعلم البيان يقتضي تأخير الأمدح في سياق المدح. وجواباً على ذلك يمكن أن يقال:

إن المشاهدات له سبحانه أكثر من المغيبات عنّا، والعلم يشرف بكثرة متعلقاته، فكان تأخير الشهادة أولى. أو أن الأمور المغيبة لا تتناهى سعة ومدى، في حين أن الأمور المشاهدة يسيرة محدودة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً } [الإسراء: 17/85].

العلاقة بين الغيب والشهادة

إن ذكر أحد ميداني المعرفة يستلزم حضوراً للآخر في الذهن بالنسبة إلى المسلم المستهدي بالوحي في تعامله مع نظرية المعرفة بكل مفرداتها. ومما يؤكد هذا المعنى ويجسد أبعاده أنه على الرغم من الأهمية التي يحتلها ميدان الغيب، والمزايا التي تجعل المرء يحس بأنه يعيش في كنف الرحمن، ويتذوق حلاوة الإيمان في قلبه، إلا أنه يصاحَب بشعور من الحرمان الخفي والسلبية في كونها تجربة وجدانية فردية.

ولذلك فإنه إذا كان الإيمان بالغيب يعطي قوة التماسك، فإن آيات عالم الشهادة تزوّد الإنسان بنوع آخر من قوة التماسك المتجلية في ميدانين فرعيين هما الآفاق والأنفس، فيتحول الإيمان إلى صيغة إيجابية عملية، فيتغيّر الواقع، وتتم السيطرة على آيات الله في الآفاق والأنفس. ذلك أن مرحلة الإيمان بعالم الشهادة تمثل مرحلة وعي لفهم ما أمر الله به، وأن ذلك مقتضى العقل والفطرة وعين الصواب. وحين يحدث ذلك الوعي فإن التوازن يتحقق للإنسان على مختلف المستويات، ويتحقق - من ثمَّ - منهج القرآن في أمره الناس بالنظر في سِيَر الأمم، والأحداث في الأرض، كيما يروا عالم الشهادة من خلال إيمانهم بحقيقة ما جاء في عالم الغيب.

ثم إنه يلاحظ أن القوانين التي تحكم عالم الشهادة في ميداني الآفاق والأنفس - وهي القوانين التي يسميها القرآن (سنن) - قائمة هي الأخرى في عالم الغيب مما يجعل العقل المتبصر يدرك أن آيات الله التي ظاهرها علم الغيب كإنزال الملائكة للتأييد والنصر يخضع لقانون الأسباب أو السنن الواضحة ذلك أن اتخاذ الرب إلهاً والاستقامة منهجاً من وراء قانون الأسباب أو السنن.

وهنا فإن هدف المنهج يتمثل في إيجاد المتعلّم المستوعب لقوانين الشهادة المستمدة من عالم الغيب ليتحقق الارتباط الإيجابي بين الغيب والشهادة. ولن يتم ذلك إلا بتخصيص قدر مناسب من مفردات المحتوى لتناول تلك القوانين، مع الربط بينها وبين عالم الغيب (ميدانها الأصلي).

وبالتأمل في آي القرآن الكريم نجد أنه قد يتناول عالمي الغيب والشهادة كإشارة - والله أعلم - إلى ظاهرة التكامل بينهما. ومن ذلك أن يسوق بعض الآيات المتعلقة ببعض ظواهر الطبيعة في ميدان الآفاق من عالم الشهادة مربوطة ببعض أصناف المخلوقات في عالم الغيب كعملية تسبيح الرعد والملائكة:

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ} [الرعد: 13/12-13].

ويربط العرش - وهو من جنس الغيب - ببعض ظواهر الطبيعة أيضاً:

{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمَّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 13/2].

ويستدل على البعث بمقدمات مظاهر الإحياء للنبات في ميدان الآفاق من عالم الشهادة:

{...وَتَرَى الأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْها الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور} [الحج: 22/5-7].

وجميع أجزاء الوجود غيباً كان أم شهادة ينتظم في سلك الاستسلام لله تعالى:

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصالِ}

[الرعد: 13/15]

{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 17/44].

وأقسم الله تعالى على صدق الوحي بعالمي الغيب والشهادة مطلقاً:

{فَلا أُقْسِمُ بِمـا تُبْصِرُونَ، وَما لا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 69/38-40]

ولعلّ من أبرز مظاهر هذا التكامل بين عالم الغيب وعالم الشهادة أن أهم معطيات عالم الغيب وجود الله سبحانه وتعالى الواحد الأحد، خالق الدنيا والآخرة، وخالق الإنسان وواهبه الإرادة، وحريّة القرار، ومسؤولية الاستخلاف في عالم الشهادة، بما أوتي من معرفة وعقل.

إن مهمة الوحي في عالم الشهادة تتمثل في إمداد الإنسان بالعلم المتصل بعالم الغيب ليربط بينه وبين هذا الإنسان في عالم الشهادة، فينشأ تكامل الوحي مع العقل والكون، ويتمكن الإنسان من تحقيق غاية وجوده في عالم الشهادة. ولن يسترد العقل المسلم عافيته إلا أن يستعيد رؤيته الإسلامية الكاملة المبنية على التوحيد والوحدانية، ليتوحّد عالم الغيب مع عالم الشهادة، والوحي مع العقل والكون.

وفي ضوء ما تقدم يمكن القول بأن ظاهرة التكامل بين عالمي الغيب والشهادة تبـرز في مظهرين:

الأول: وجود أدلة عالم الغيب في عالم الشهادة.

الثاني: بروز المخلوقات من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ثم تنتقل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب بانتظام واضطراد. ومن الأمثلة على ذلك ظواهر الولادة والموت في عالم الإنسان.

وصفوة القول: إن مفهوم الغيب والشهادة في الإسلام ((هو المفهوم الذي يحدّد معنى الحياة والوجود، وغاية الحياة والوجود، وعلاقة ذلك بما وراء الحياة، وما وراء الوجود. مفهوم الغيب والشهادة هو الإطار الأشـمل الذي يحدّد معنى العقل الإنساني، ودوره في الحياة الإنسانية وحدود هذا الدور ومجالاته)).

والتضمين التـربوي الخاص بميدان الغيب والشهادة يتجسد في ارتكاز فلسفة التـربية الإسلامية على اعتبار العلاقة بين ميداني المعرفة (الغيب والشهادة) علاقة عضوية تكاملية. بل إن الأمر يمتد في اتجاه تربوي أبعد لـيجدِّد العلاقة بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية من خلال ما يلي:

1- ارتباط العلم بالعمل، بحيث يصبح العلم وسيلة، والعمل غاية -ويصبح من ثم- العلم بالدين أو بعلوم الإنسان يحقق هدفاً غائياً سامياً وهو عبودية الإنسان للـه تعالى.

2- الـتفريق المعرفي -وليس الوجودي- بين أمور العبادة وأمور السيادة والخلافة التجريبية. وبتعبيـر أكثر دقة: التمييز الموضوعي بين عالمي الغيب والشهادة.

3- إن هدف الخلافة عند الإنسان كحقيقة وجود، وارتباطها بعلم الأسـماء قد أدى إلى رفع النزاع بين الإيمان بالغيبيات والعلوم الدينية (الإنسانية) من زاوية أن تحقيق هدف الخلافة لا يتحقق إلا بعلوم الغيب وعلوم الدين.

4- هناك تلازم بين حقيقة الخلافة لتحقيق العبودية، والعلم لتحقيق السيادة، بما يعني أن الدين والعلم مقوّمان ضروريان لتحقيق هدف الإنسان الوجودي، مما يمنع أي تعارض بينهما.

الميدان الأول: الغـيـب

التعريف: سبقت الإشارة إلى أن عالم الغيب يمثل ما وراء الـمحسوس إجمالاً، ولكن سعـى بعض الباحثين لمحاولة وضع تعريفات جامعة ومنها:

- عالم الغيب: ((عالم ذو طبيعة عقلية معنوية متعالية عن المادة، ولذلك فإنه ليس بعالم قابل للشهود الإنساني، بل يدرك الإنسان ثبوته وآثاره فحسب كالوجود الإلهي، ووجود الملائكة والجن، والجنة والنار، وغيرها من الموجودات الغيبية، واللـه تعالى وحده الذي يحيط علمه بعالمي الغيب والشهادة جميعاً)).

- عالم الغيب: ((عالم يخص به علم اللـه وحده، يوحي ما يشاء من أمره على من يشاء من عباده، ويرسلهم بالرسالات إلى الأمم هداية وتبصيراً لمعنى وجودهم، وغاية هذا الوجود، وعلاقته ومآله)).

- عالم الغيب: ((كل أمر غائب عن مجال إدراكنا الحسي حسب العادة)).

ونجد أن صاحب هذا التعريف الأخيـر يعود ليقرر أن مناط عالم الغيب قائم على عدم قدرتنا على مشاهدة ما غاب عن حواسنا، وعليه فإن أموراً كانت غيباً يوماً ما، ثم غدت مشاهدة لا تعدّ من عالم الغيب، بل من عالم الشهادة.

ومثال ذلك أمر الجنّ، إذ لو تمكن البحث العلمي عن طريق التجربة والاختبار، واستخدام بعض القوى الكونية - أن يتصل بالجنّ مثلاً اتصالاً عادياً لأصبح أمر الجن ضمن عالم الشهادة، والتـي كانت فيما سبق في إطار عالم الغيب الذي سبيله الوحيد الوحي. وكذلك الحال في مثل قدرة الأبحاث الجنينية التنبؤ بما في بطن الحامل من جنس المولود، فإن هذا لم يعد غيباً، بل غدا جزءاً من عالم الشهادة. وثـمة باحثون يجعلون مناط عالم الغيب قائماً على أساس انتماء كل كائن غيـر محسوس إلـيه، بحيث إن كل ما يدرك الإحساس يعدّ مادياً. والمادي هو كل ما يتكون من العناصر المادية التـي استقرأها العلماء ورصدوها في الطبيعة والفضاء. ولذلك فإن عالم الغيب أو عوالم الغيب هي:

السماوات الست التي تعلو السماء الدنيا، والأرضون الست، حيث تكون كل أرض وسـماء عالماً مستقلاً له مخلوقاته، وناموسه،وطبيعته، وقوانينه.

والأمر الجدير بالتأكيد عليه في قضية عالم الغيب في المفهوم الإسلامي عدم إفادته لمعنى الإيمان من غيـر دليل، كما هو حاصل في مفهوم الميتافيزيقا الغربية، إذ إن طبيعة العلاقة العضوية بين عالمي الغيب والشهادة قد أبانت حقيقة أن وجود أدلة عالم الغيب متضمنة في عالم الشهادة.

في ضوء تلك التعريفات بوسعنا أن نقول: إن عالم الغيب هو جميع مالا قدرة للإنسان على الإحاطة بتفصيلاته، عن طريق الحواس، على نحو قاطع.

خصائص الغيب

لعلّ أهم خصيصة يمتاز بها عالم الغيب في القرآن الكريم أن علمه ملك لله وحده، وقد دلّت النصوص القرآنية على ذلك في غير ما آية من كتاب الله العزيز، ومنها:

{عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير} [الأنعام: 6/73].

ومن صفات عاِلم الغيب استغراق علمه للجزئيات والكليات معاً:

{عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 34/3].

ويستفاد من ذلك أن الفلسفة التربوية الإسلامية في محور النظرة إلى علاقة الإنسان بالإله تتميز عن الفكر التربوي الغربي ذي الأصول اليونانية الإغريقية، التي يستند فيها تنـزيه الإله إلى نفي انشغاله بالجزئيات، باعتبار ذلك نقصاً في كماله، الأمر الذي شل فاعلية الذات الإلهية في حياة البشر، وهو ما يناقض التصور القرآني تماماً.

ونفى أي علم للغيب لأحد من المخلوقات، مثبتاً ذلك لله - تعالى - وحده:

{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ } [النمل: 27/65].

{وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ} [الأنعام: 6/59].

وإذا كان هناك ثمة استثناء في موضوع الغيب فهو خاص بإطلاع من شاء الله من رسله عليه:

{وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ}

[آل عمران: 3/179].

{عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 72/26-27].

وهنا فإن التربية الإسلامية تعتمد الإله وحده عالِماً بميدان الغيب، ومحيطاً بجميع أسراره وتفصيلاته. والاستثناء المحدود خاص بمن يرتضيه الله من رسله. وبعد خاتم الأنبياء والرسل محمد -صلى الله عليه وسلم- فلا مجال لادعاء أو تزوّد بمعرفة غيبية على أي وجه.

الأخبار الغيبية

ومما يندرج في إطار عالم الغيب في القرآن أخبار السابقين اليقينية، كما هي الإشارة إلى ذلك في هذه الآية عن نوح - عليه السلام -:

{تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 11/49].

وعن يوسف - عليه السلام-:

{ذَلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}

[يوسف: 12/102].

والمحتوى الدراسي معني باعتماد أخبار القرآن وقصصه، وجعلها في أعلى مراتب الصحة رواية ودراية، وأساليب المنهج معنية بدورها في جعل أسلوب القصة أحد الأساليب المرعية عند تقديمها للمحتوى.

هل يُجَزَّأ الغيب؟

يذهب بعض الباحثين إلى تجزئة الغيب بوضعه في قسمين:

أحدهما: قسم قابل لأن يكون من عالم الشهادة إذا تهيأت للمخلوقات شروط مشاهدته.

الآخر: قسم غير قابل لأن يكون من عالم الشهادة لأنه مما استأثر الله -تعالى - بعلمه لنفسه.

ولعلّ دافع صاحب هذا التقسيم هو مفهومه لمعنى الغيب -وقد مرّ معنا - ثم تصوره لإمكان أن تكون هناك أشياء من عالم الغيب بالنسبة إلى الإنسان، لكنها قد تكون من عالم الشهادة بالنسبة إلى الجن أو الملائكة أو مخلوقات أخرى. بيد أن ثمة ملحوظتين على هذا التقسيم:

الأولى: سبق أن تم تبني تعريف الغيب بما غاب عن الحواس على نحو قاطع، خروجاً من الوقوع في أمور ظنية تحسب من الغيب، وما هي من الغيب عند التحقيق في أمرها.

الثانية: إن الباحث صاحب هذا التقسيم يُدخِل مخلوقات غير الإنسان في مسألة المعرفة مع أن مدار بحثنا هنا هو المعرفة لدى الإنسان، لما يمتاز به عن سائر الكائنات، وعليه فإن هذا التقسيم غير ذي موضوع بالنسبة إلى هذه الدراسة على الأقل. ويبقى التأكيد على وحدة عالم الغيب وكليته، وعدم تجزئته على تلك الصورة، فالغيب وإن تعددت أنواعه، و تشعبت مظاهره، فإن هذا التنوع وذلك التشعب يدور في إطار المفهوم الكلّي للغيب، ليس أكثر.

تتسم المعرفة القرآنية بالشمول والتكامل والخلود والإطلاقية، على نحو يدفع الباحث للعمل على استنطاق نصوص الوحي الإلهي لاستخراج نظرية معرفية في التربية الإسلامية، تلبي حاجة هذه التربية، وتسهم في بلورة نظريتها المعاصرة.

بدأ الكتاب بمدخل إلى نظرية المعرفة، ثم عرّج على طبيعتها في القرآن الكريم وتضميناتها اللغوية والتربوية، ومصادرها وطرائقها وحدودها، بأسلوب البحث المنهجي القائم على التتبع والأدلة.

ليتوصل في النهاية إلى نظرية متكاملة للمعرفة التربوية يجدر الوقوف عندها وتأملها.

يتناول هذا الكتاب نظرية المعرفة في القرآن الكريم، وطبيعتها، وتضميناتها اللغوية والتربوية، ومصادرها وطرائقها وحدودها، بأسلوب البحث المنهجي القائم على التتبع والأدلة. ويتوصل في النهاية إلى نظرية متكاملة للمعرفة التربوية الإسلامية يجدر الوقوف عندها وتأملها، وفي تتسم بالشمول والتكامل والخلود والإطلاقية، وتستنطق نصوص الوحي الإلهي، وتسهم في بلورة نظريتها المعاصرة.

ويسعى الكتاب نحو تطبيق الإطار المعرفي النظري واستنتاج التضمينات التربوية التي تطور واقع عتاصر النظام التربوي.

ويكشف عن نظرية المعرفة بصورة عامة، وتطورها والتعريف بمفرداتها المتعلقة بموضوع الكتاب، وعن طبيعة المعرفة في القرآن الكؤيم وما تتضمنه من جوانب تربوية، ومصادرها وطرائقها، وإمكان الحصول عليها.

ويحتوي على مدخل إلى نظرية المعرفة وتطورها ونشأتها، ولغتها وتصنيفاتها وسماتها وأهميتها وعلاقتها بالتربية، ويحدد تعريفات النظرية، ونظرية التربية، ونظرية التربية الإسلامية، ونظرية المعرفة، ويعرف النظرية في القرآن، ويناقش آراء المتحفظين ويعرف المعرفة والعلم والفرق بينهما، والتربية.

ويدرس أخلاق المعرفة ووحدتها وميدانها الغيب والشهادة والعلاقة بينهما في الآفاق والأنفس.

ويناقش تصور بعض الباحثين لمصادر المعرفة وطرائقها، ويصنف تلك المصادر والطرائق، فيدرس المصادر الأساسية الحس والعقل والوحي، والمصادر التبعية الحدس والإلهام والرؤيا الصادقة.

ويبين إمكان الحصول على الحقيقة المعرفية بعد بحثه في المعرفة بين الشك واليقين، وحدودها في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية.