قد لا يكون محمد إقبال أول مسلم يطل على النافذة الألمانية فيرى الصورة المعنوية المدهشة الفوّارة الموّارة التي تسحر الألباب، وقد لا يكون أول من يستنشق عبير الفكر والشعر والقوة والعنفوان منها! لكنه كان بحق أول مسلم يقف هذا الموقف من دون أن يشعر بالامّحاق أو التضاؤل.
ولعل هذا ما ميّز إقبال وجعله علامة فارقة في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث باعتراف الغرب قبل الشرق، بل باعتراف الألمان أنفسهم الذين رأوا محمد إقبال يطرح نفسه نداً لأكبر رموز الألمان على الإطلاق: غوته ونيتشه! فلم ينكروا عليه هذه النِّديِّة، ولم يبخسوه شاعريته التي توازي في خلقها وإبداعها وآفاقها شاعرية غوته، ولم يغمطوه عنفوانه الفكري وتقحمه الجريء الذي يشبه في مضائه وانطلاقه ما كان عليه نيتشه مَضاءً وانطلاقاً.
ولن نستغرب عندها أن نقرأ هذا الإطراء الذي يدبّجه شاعر ألمانيا وروائيها هرمان هسه في حق محمد إقبال إذ يقول: "ينتمي السير محمد إقبال إلى ثلاثة أحياز روحية، وهذه الأحياز الروحية الثلاثة هي منابع آثاره العظيمة، وهي: حيّز القارة الهندية، وحيّز العالم الإسلامي، وحيّز الفكر الغربي.
مسلمٌ كشميري الأصل، مثقف بالقرآن، وبالفيدانتا، وبالتصوف الفارسي – العربي، وفي نفس الوقت متأثر بالفلسفة الغربية وقضاياها. عارف ببرجسون ونيتشه. يقودنا في ممرات لولبية، ترتفع شيئاً فشيئاً داخل مناطق عالمه الخاص.
لم يعد متصوفاً، ولكنه أخذ العهد على جلال الدين الرومي، ولم يعد من أتباع هيجل، أو برجسون، ولكنه ظل فيلسوفاً متأملاً.
إنّ قوة إقبال تنبع من مجال آخر، من الدين والإيمان، فهو تقي صالح، قد نذر نفسه لله، ولكن إيمانه ليس إيمان الأطفال، وإنما إيمان رجل متحمس مجاهد، وجهاده ليس جهاداً من أجل الله فحسب، وإنما من أجل العالم أيضاً، فإن عقيدة إقبال موجّهة للجميع، وأمنية أحلامه هي إنسانية متحدة تحت راية الله، وفي خدمته.
لن يجد المسافرون روحياً إلى الشرق في ثقافة إقبال الواسعة، وفي حبه الفيّاض للتأمل، أهم وأعظم جوانب عقله الجبار، وإنما في قوة حبه، وفي قدرته على التشكيل، سيعجبون به من أجل تلك الشعلة الفيّاضة في قلبه، ومن أجل عالمه الشاعري، وسيحبون أعماله باعتبارها الديوان الشرقي الغربي" (انظر: مجلة "فكر وفن" الألمانية التي تصدر باللغة العربية، عدد 32، سنة 1979، ص 1).
كانت ندية محمد إقبال ندية المطمئن الواثق، لذا كانت طافحة بالأريحية والإنصاف، فوصف غوته بأنه أكبر شاعر في العالم الغربي، كما كان جلال الدين الرومي أكبر شاعر في العالم الإسلامي، وقال في ذلك:
شاعر الألمان في روض إرم ....... فاز بالصحبة من شيخ العجم
شاعر يشبه ذا العالي الجناب ......... ما نبياً هو، لكن ذو كتاب
وكتب محمد إقبال ديوانه: (بيام مشرق)، أي: (رسالة الشرق) سنة 1923 باعتباره رداً على ديوان جوته الذي كتبه سنة 1819 وعنونه بـ (الديوان الغربي الشرقي)، وبحسب المستشرق ألبرت تايلا فإن هذا الديوان كان الصوت الأول في الشرق الذي استجاب لأغاني غوته، وقد عرف الدارسون الألمان هذا الديوان بفضل المستشرق البريطاني نيكلسون الذي كتب عنه مقالاً عام 1925. (انظر: مجلة "فكر وفن" عدد 32، ص 64).
وفي هذا الديوان نفسه يذكر محمد إقبال نيتشه في قصيدة عنوانها (شوبنهور ونيتشه)، يشيد فيها بقوة الإرادة وببطولتها عند نيتشه التي تتقبل الحياة كما هي، وتحاول السيطرة عليها، خلافاً لشوبنهور.
أما في ديوان (جاويد نامة) أي: (رسالة الخلود)، وهو من أواخر دواوينه، و يشبه إلى حد كبير (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، فإن شاعرنا يقوم برحلةٍ بين الكواكب والمجرات بصحبة مولانا جلال الدين الرومي، ويلتقي فيها في كل كوكب من الكواكب وفلك من الأفلاك بالحكماء والشعراء والمتصوفة والفلاسفة والملوك، فيحاورهم ويحاورونه، ويحاجّهم ويحاجّونه، وهناك يلتقي بنيتشه ، لكنه يضعه خارج حدود الكواكب والأفلاك ودون جنة الفردوس، في رمز إلى نجاح نيتشه في إدراك الجانب الإلهي في النفس الإنسانية مما جعله يندفع خارجاً عن إسار عالم الأفلاك متجهاً نحو العالم الروحاني، لكنه ما لبث أن تردد في الطريق وأخفق في قطع مراحله التالية فبقيت روحه معلقة على هذا النحو، وفي هذا المقطع يقيم إقبال مقارنة تنضح بالدلالة بين نيتشة والحلاج، إذ يعتبر أن مقولة نيتشة حول (السوبرمان) أو (الإنسان الأعلى) هي العبارة المعاصرة لقول الحلاج القديم: (أنا الحق)! على أننا لن نكرر هنا ما قدّمه مترجم هذا الديوان وشارحه الدكتور محمد السعيد جمال الدين من معلوماتٍ مهمة حول مقام الفيلسوف الألماني نيتشه عند إقبال، ومن ذكرٍ للدراسات التي حاولت فهم هذه العلاقة، بل سنلفت النظر إلى تقصيرٍ وقع فيه الدارسون العرب لفلسفة نيتشه حين تناولوه بالعرض والشرح والدرس فاعتنوا بآراء كارل ياسبرز ومارتن هايدغر وغيرهما حول نيتشه، وأغفلوا عرض إقبال ونقده!! فلم يلتفت إليه باحث، ولم يعنَ به دارس نتيجة الخور النفسي الذي أحكم خيوطه حول أرواح دارسينا وباحثينا. أَوَ يُعقل أن يرقى شرقي أو مسلم لنقد نيتشه أو حتى لمجرد الاقتراب منه ! مع العلم أن محمد إقبال كان من أوائل من عرض نظرية نيتشه حول (العود الأبدي)، ومن أوائل من قوّمها بحيث نقلها من (التكرار الأبدي) إلى (التطور الأبدي) مقدماً في ذلك رؤيته الخاصة ومسوغاتها في كتابه (من تجديد التفكير الديني في الإسلام)، هذا الكتاب الذي عرفه الألمان بعيد صدوره سنة 1933، وعرفناه نحن العرب كذلك، ولكن بعد حوالي 25 سنة من صدوره.
الحاصل... هل يأتي اليوم الذي نقف فيه أمام الفكر الغربي وقفة الأنداد والنقاد من دون تشنج مريع أو خصومة صفيقة؟ هذا ما نرجوه ... وذا ما نأمله.