قبل يومين، وأنا خلف مقود سيارتي، محاطة بمئات البشر كل في همه مغروس معزول، وفي لحظة سرقها الزمن مني ليحطم كل قدراتي على ضبط النفس والانفعال، ارتفع صوتي بنحيب عال وبألم تجلى صراخاً هز جنبات السيارة ولربما لفت أنظار المحيطين بي بتحريكه لقسمات وجهي وتبليله لها بكل ما قد يخرج من فتحات الوجه. وجوه بعض الغرباء من حولي التفتت للحظة، اهتزت الرؤوس بتعاطف وانحازت تناظر الشارع غير مختارة حتى تتمكن من استكمال مسيرها بأمان. شعرت بأشعة الشمس تنعكس على زجاج سيارتي وكأنها تحاول أن تسترني وتضببني عن الأعين، إلا أن سترها لم يكن كاملاً، فبقيت لوهلة مادة لأحكام الغرباء المحيطين، بعضهم متعاطف، بعضهم مستنكر، قريبين بنظرهم، بعيدين خلف مئات الشبابيك الزجاجية التي تصلنا ببعض للحظة وتخفينا عن أنظار بعضنا بعضاً اللحظة التالية. الغريب أن تركني لحظتها كل شعور بالحرج، وتكالبت علي اللحظة استقواء بإرادتي المنهارة لتمنع عني كل قدرة تحكم وضبط نفس واحترام الوجود العام.
كنت للتو قد سمعت بخبر وفاة ابن صديقة عزيزة، وحيدها الذي مكنتها هذه الدنيا منه. ولأننا كائنات غاية في الأنانية، فجر حزن وعذاب هذا الخبر بقية الأحزان المتراكمة كومة كبيرة في القلب، فتصاعدت كلها غصة مؤلمة في الحلق واندفعت كسيل ماء في الرأس وانفجرت كبالوني ماء من العينين. شعرت لحظتها برغبة عارمة في التصرف كامرأة “طبيعية” على سجيتها، لم تشذبها العصرية ولم يقيدها التحضر بقواعده المصطنعة، رغبة في اللطم على الخدود وشد الشعر وهيل التراب على الرأس. خطر لي للحظة، لو أوقفت سيارتي ونزلت عند أقرب رصيف وفعلت ما تمليه علي روحي في اللحظة، ترى ما سيحدث للدنيا وفيها؟ بالتأكيد لا شيء.
إلا أن النفاق غلبني، فبقيت “باحترامي” وماء وجهي وعويلي الطويل خلف مقود السيارة، أصرخ وأستغيث بمن لا أعرف. سمعتني أسأل نفسي بصوت عال، لم نحكم على أنفسنا بأن نصبح أمهات؟ لم نقرر أن نحمل كل هذا القلق والعذاب والرعب مدى الحياة؟ لم نأت لهذه الدنيا بإرادتنا بكائن سيحملنا من الحب ما يفوق قدرة القلب ومن الخوف ما يفتته في كل لحظة من حياته؟ أي غباء هذا الذي يلاحقنا كنساء جينياً، بلا إرادة منا وقدرة عندنا على صده وتحديه؟ حين ننجب، نأمل، ونعرف أن هذا الأمل محكوم بالفشل، بأن نأتي بالحياة بنسخ منا، تحيا على هوانا، تكون آمنة وسعيدة وقريبة مدى حيواتنا. نعرف أن هذا الحلم مرهون بالانهيار، نعرف أننا نحكم على أنفسنا بعذاب وقلق وحب، والحب موجع بحد ذاته، تفوق جميعاً قدرة البشر، ولكننا نفعل ونستمر في ذلك، ترى أهي متلازمة تعذيب الذات؟
حزن الثكالى ليس كأي حزن، وبكاؤهن ليس كأي بكاء، لربما أقرب وصف قد يوصل بعضاً من فجاعته قرأته في رواية “عائشة تنزل إلى العالم السفلي” للأديبة الكويتية بثينة العيسى، التي بلسان بطلتها الثكلى:
بكائي حاد مدبب الأطراف، مثل شفرة مغروسة في معصمي
بكائي فجائعي، يبعث الفوضى في أكارع الأرض، من أقصاها إلى أقصاها
بكائي طفل يركض في الزحام، بين شوارع قلبي، يريد أن ينفذ من أقطار هذا الحزن، عبثاً،
بكائي غناء مرقع بالنشيج
بكائي مهرج يضرب رأسه بالجدار لأنه ليس مضحكاً
بكائي سجين يلحس قضبان الزنزانة لعلها تذوب
بكائي فيض أسود، يطفر من مسامي، يسيل من ثقوب جسدي، يملأ الفضاء،
بكائي قبيلة ديدان تنخر حقيقتي،
بكائي معتق وموجع، مثل ذنب لا توبة له
وفي عارض تفكيرها بإنجاب طفل آخر بعد أن فقدت بكرها، تقول بطلة الرواية: “لقد آن الأوان لأن تتدخل الثقافة في الغريزة، لأن نساءل البداهة المزعومة الكامنة في الأشياء، إفرازات النسق الفحولي الذي جعل المرأة فقاسة بيض، الإمبريالية الاجتماعية المهووسة في مد النفوذ من خلال التكاثر! آن الأوان لكي نسائل كل هذا، ونتساءل قليلاً: ما هي الأمومة؟”.
لربما هو ألم الفقد الذي يجعل بطلة الرواية تنقلب كراهية على غريزتها، فتراها بعين “حقيقية”، مجرد إفرازات نسق فحولي لمد النفوذ، ربما هو الوجع الذي يفوق الاحتمال لمجرد تخيل مثل هذا الفقد الذي يجعلني أناصر هذه البطلة المنكوبة فأضم صوتي لصوتها، لماذا نفعل ذلك بأنفسنا؟ أي حسرة تستشعرها أمهات غزة وهن يلفلفن الأبناء والبنات في البياض مودعينهم التراب؟ أي وجع تعاملت معه والدة عليّ وهي تمسك بقدمي ابنها ذي الأحد عشر عاماً والذي قتل نفسه تعلقاً بمروحة غرفته بعد أن أضناه وأهله انعدام جنسيتهم، والذي توالى عليهم فقراً وحرماناً ومهانة؟ أي عذاب تقلبه قلوب الأمهات في السودان، اليمن، الكونغو والصغار يغتصبون ويقتلون ويحرقون أمام أعينهم؟ أي حرقة تعانيها صديقتي في التو واللحظة، دون أي استطاعة مني على إطفاء شيء منها، وقد أصبَحَت ذات يوم لتشهد شابّها نائماً نومة أبدية في فراشه دون سابق تنبيه؟ لماذا نفعل ذلك بأنفسنا؟
كان لا بد لي أن أواجه نفسي بعدها بسؤال: لو كنت أعرف ما أعرف الآن، لو كنت أفهم المشاعر التي ستصحب كل كائن صغير يخرج من جسدي فيسحب جزءاً من روحي معه، هل كنت لأقدم على ذات الخطوة؟ هل كنت لآتي بحبي وعذابي وقلقي وذلي وهواني كلها متجسدة بشراً للحياة؟ الآن وقد قابلتهم وعرفتهم، لا أتصور الحياة دونهم، ولكنني أعرف أن حبي ذل، وقلقي قيد، ورغبتي في تحويطهم وحمايتهم خيال لا يمكن أن يصبح واقعاً، خيال سيجعلني أتراقص على حبال الحياة، مدى الحياة.
لا يجب أن يغادر الأبناء قبل الآباء والأمهات، هذه هي طبيعية الحياة وميزانها، فإذا اختل اختلت كل الدنيا، وتداعت أرواحنا تحت تروس الخلل هذا. وها هي تروس الخلل الفاحش تهرس أرواح أمهات وآباء غزة يومياً بأعداد مهولة وتحت ناظر العالم كله، وبعد أن تأكل أرواحهم تتجه إلى السودان واليمن والكونغو، ثم تتحول إلى بقية بقاع العالم؛ فلا تترك بقعة بلا أم منكوبة، ولكننا نبقى نحكم على أنفسنا بالأمومة، ترى لماذا؟
قلبي معك يا صديقتي، اعذريني أن خلطت وجعك الذي أدرك خصوصيته واحتياجك لفردانيته في التو واللحظة بأوجاع أمهات الدنيا، لكنك أم، وكل الأمهات في الفقد كتلة الوجع. رحم الله شابك، ومسح على قلبك وقلوب أمهات الدنيا، وكفانا شر أمومتنا ومخاطرها وآلامها، آمين.