لم يعرف التاريخ الإنساني القديم ولا المعاصر، حضارة أدق تخطيطاً، ولا أسرع قياماً، ولا أقل تضحية بشرية، من الحضارة الإسلامية، إبان تأسيسها في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم.. مما يجعلها نموذجاً يحتذى في التخطيط الحضاريِّ لكل أمة تتطلع إلى التغيير، مصحوباً بالتزام صارم بالتخطيط الدقيق المحكم؛ لكل من مرحلتي الدعوة في مكة، والدولة في المدينة!!
ففي مكة خلال ثلاثة عشر عاماً كان نبذ العنف، وكفُّ اليد، وإطلاق اللسان، والجهرُ بالدعوة، واحتمال الأذى جراءها، والصبر على التعذيب في سبيلها؛ شعار المرحلة كلها؛ لم يُسمح باختراقه، حتى في اللحظة الأخيرة منها عند بيعة العقبة الثانية، قبيل تأسيس الدولة عندما سألوا الرسول: مرنا لنميلن عليهم غداً بأسيافنا، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: " لم نؤمر بذلك"!!
وفي المدينة خلال سنوات تأسيس الدولة العشر، لم يزد عدد القتلى من طرفي النـزاع على 440 قتيلاً؛ ثلثاهم من المسلمين، كانوا عربون إقامة الحضارة العالمية الجديدة؛ التي قامت على أنقاض حضارتي الفرس والروم المتهاويتين.
كم هو ضئيل هذا الرقم مقارنةً بالأرقام المفزعة؛ من الرؤوس التي حصدتها مقصلة الثورة الفرنسية، والتضحيات الكبيرة التي قدمها الأمريكيون في حرب الاستقلال لإقامة حضارتهم؟!!
وكم هي عظيمة بركة هذا الرقم، الذي أنتج حضارة وارفة الظلال! استمرت على أشدها عشرة قرون، قبل أن يعتريها ما يعتري الحضارات من الفتور، بمقتضى قانون تداول الحضارات بين الأمم؟!
لم يشغل الجهد العسكري النبي صلى الله عليه وسلم عن بقية جوانب البناء الحضاري؛ فقد خطط لإحكام النسيج الاجتماعي؛ فآخى بين المهاجرين والأنصار، وأعلن -أول مرة في التاريخ-رابطة المواطنة بين أفراد المجتمع بموجب وثيقة المدينة، وخطط شوارع المدينة وأسواقها، وأرسل رسائله – على الصعيد الخارجي-إلى زعماء الدول، ولم ينسَ الأجيال القادمة، فوجه رسالته إليها في حجة الوداع قبل الرحيل: " ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فربَّ مبلَّغ أوعى من سامع".
وعلى الرغم من انحسار المد الحضاري عن أمَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، منذ بضعة قرون، فما يزال المدُّ العددي للمسلمين في العالم يتزايد، وما تزال المآذن ترتفع في أرجاء المعمورة، معلنة أن الرسالة الإنسانية العالمية للإسلام؛ الجامعة للرسالات والديانات؛ هي مآل البشرية، في عصر المعرفة الراهن، تتنامى عفوياً وتلقائياً بقوتها الذاتية، فما عساه يكون هذا المد، لو أفاق العالم الإسلامي من غفوته التي طال أمدها، وخطط لمستقبله، ومستقبل العالم الحضاري الذي ينتظره بتلهف:
والعشق فياض وأمة أحمد يتأهب التاريخ لاستقبالها
سؤال في العمق