تخطي إلى المحتوى
الترجمة والمُثاقفة "الترجمة والاختلاف" الترجمة والمُثاقفة "الترجمة والاختلاف" > الترجمة والمُثاقفة "الترجمة والاختلاف"

الترجمة والمُثاقفة "الترجمة والاختلاف"

الترجمةُ من المنظور الهيدجري مجازفة وممارسة متحررة من التاريخية المغلقة، من الدائرية المُنجزة للغة الميتافيزيقية، من جينالوجيا المفاهيم، من الصرامة الفيلولوجية، من المرجعية المؤطرة داخل تاريخ الأفكار، لكنها أيضاً ممارسة عميقة الجذر، ما يؤكد ذلك قول هيدجر بأن كل ترجمة في حقل الفكر، لا يمكنها سوى التعبير عن ادعاءات."

ميشيل فوكو – حفريات المعرفة.

الترجمةُ، قبل كل شيء، اختراقٌ للنص، لمتنهِ ولفضائهِ وللغته، فهي تحيا وتستمر بذاكرة النص الآخر، من خلال ترحيلاتها اللانهائية في ثنايا اللغة. بهذا المعنى تنقلبُ مهمة الترجمة ويعلو شأنها، فتصبحُ هي ما ينفخُ الحياة في النصوص عبر نقلها من ثقافة إلى أخرى، من لغةٍ إلى أخرى. فالنصُ الأصل جثة تحيا بموتها المتعدد. والعلاقة بين النص – الأصل والنص المترجم علاقة حدادية بامتياز؛ إذ تشترط حياة الثاني بموتِ الأول. إن كل ترجمة انتقال من الموت إلى كينونة موعودة. ومن هذا المنظور، يمكن القول إنّ فعل الترجمة يكتسي أهمية خطيرة واستثنائية؛ لأنه ليس علاقة لغوية – نصية محضة، لكنه انخراطٌ أونطولوجي عميق في فاعلية الاختراق/ العبور. كيف يمكن العبور والانتقال دون محو الهوية الأصلية، ويقينها الكوني، دون انفتاح جسدنا على الاختلاف العنيد وعلى الهوامش الملغزة؟

يمكن القول إنّ فعل الترجمة مفتوح على الشساعة الصحراوية المدوخة، حيث تغدو اللغة حبات رمل رحاَلة والنصُ خطوط انفلات وحظ وصدفة. وحدها الترجمة التي تنخرط في فاعليتها الخاصة والمستقلة كسيمولاكر (الشبح)، أو كحزمة سيمولاكرات تستطيع أن تحرر القوى اليقينية الكامنة في عملية الترجمة بالذات. إنّ نصوص دريدا Derrida مثلاً، تندرجُ في هذا الفعل التحرري للغة والفكر والمفاهيم، في تفكيك اللغة واستدعاء شروخها ولمقولاتها الكامنة، ونسف أسس النقاء المفترض للأسلوب. إنَّ أغلبها، كما يرى أحد دارسيها، ليست سوى قراءات أو ترجمات "أصول"، لأنَّ أصالة هذه القراءات تفترضُ بدورها ترجمتها. فمسألة الترجمة عند دريدا لا تتعلق بشيء آخر، سوى بمسألة التحويل إلى الفلسفة ومجابهة الخطورة العنيدة والخطيرة للترجمة1، من لغةٍ إلى أخرى، من لغة فلسفية إلى أخرى، أكثر مما تتعلق بعنف التحويل من اللافلسفة إلى الفلسفة. الأمرُ ذاته يمكن قوله عن علاقة هيدجر بالترجمة، فالشرطُ الأساسي لديه هو إمكانية حوار الفكر مع لغته، كما هو الحال بالنسبة إلى بعض المفاهيم السقراطية أو لمفهوم الدازاين Dasein في كتاب الكينونة والزمان Sein und zeit، والإمكانية الدائمة والمفتوحة لفكر يشتغل داخل الترجمة. وربما كان لذلك علاقة راسخة بالتقليد الفيلولوجي الألماني الذي نقل الفيلولوجيا من وضعها الاعتباري كعلم، ليجعل منها وسيلة دينامية لتفعيل الفكر.

الترجمةُ هي الكتابةُ والاختلاف؛ إنّها الأثر trace والغرابة، تتمثل في نمطِ وجود استراتيجي، على اعتبار أنَ الكتابة هي وحدات متنافرة من المكتوب والمكبوت، والمعلوم والمجهول، والشعور واللاشعور. كما أنها، من جهة أخرى وعيٌ بالاختلاف وممارسة للكتابة، وليست تقنية رتيبة تستبدل كلمة بكلمة أخرى وتُعوضُ لغة بلغة أخرى، وتكشف عن ((باروكية)) الجسد المقموع والملفوظ والمتردد indécidable بين صوت الكلمة وأثرها، بين صداها ورسمها، بين صراخها ووسمها...2.

فلا يمكن تصور المترجم إلا كشخص يحاولُ تطويق التطابق والحضور ليستجيب لإيقاع الكتابة، عندما تلتحم أجساد الحروف وتتنافر في مواجهة ناقوس الصوت الميتافيزيقي، ويتعرض من خلالها جسد الترجمة إلى اختراقات متواصلة. فالترجمة بوصفها نسفاً للأصل لا يمكن أن تكون سوى معاناة جسد اللغة وتمزقَه وتوتره، وحرص اللغة على تأجيل الحضور المطلق والتطابق المغلق.

تنزاحُ الترجمةُ عن سلطة الأصل وتخترقُ "أحادية" المعنى بانفتاحها على ازدواجية اللغة في كينونتها كتابةً وأثراً ولعبةً. إن الترجمة إذن؛ مشروع صيروري يتحايل على "براءة" الاختلاف في وضعيته المفهومية، مشروعٌ يتغذى على النقائص والتعثرات ومن ارتحالات الكلام البشري والإبداعات المتدفقة3؛ لأنَ اللغة هي دائماً في انتقال وارتحال مستمرين. هذا النشاط الاختلافي الدؤوب وهذه الصيرورة المستمرة للغة يسمحان بتأجيل الحضور، وينسفان القواعد الصلبة التي على أساسها ينغلق المعنى ويتم الحضور.

وعليه؛ فإن الهم الرئيس الذي تحملهُ الترجمةُ في طياتها هو نسفُ جذور التطابق، وإطلاق العنان للقراءة المنفتحة على الكثرة والتعدد والاختلاف والمغايرة على أنّ النص نسيجٌ، كما يقول رولان بارت، من الاستعارات والمجازات والتعبيرات، مجموعة مخلفات وآثار، حقائق وأوهام، عقولٌ وأساطير4. الترجمةُ تكسرُ إذن مرآة التطابق لتحوله إلى مجرد شظايا متناثرة تعكسُ المعنى كدلالات متعددة، والحقيقة كحقائق مبعثرة، والنص كأنسجة متشابكة متعاقدة.

 لماذا نترجمُ؟ إننا نترجم لنعرض ليس فقط كفاءتنا اللسانية أو المعجمية أو الأسلوبية، بل حقنا في الاختلاف كنقلة لا تفرض على الآخر نمط وجود، ولا نمط تمثل للعالم. تنكشفُ حقيقة الترجمة كإتيكا éthique فن الوجود، تُعبر عن نمط وجودنا الخاص وعن جمالية تعبيرنا ورؤيتنا وسلوكنا. فهي ليست فقط حالة قائمة على استبدال وتعويض الكلمات والنصوص والآثار؛ وإنما تتجلى كرؤية وسلوك ونشاط صيروري وممارسة اختلافية. إنها تُعبر عن حضور الآخر (المترجم) في الأنا (المترجم)، لتزيح عنهما سند التطابق والسلطة والسيطرة، وتُعطي للهامش وللعرضي حقهما في الاختلاف، وفي التعبير عن نمط وجودهما.

إنّ ترجمات نصٍ ما هي ما يشكل تاريخه، ولكنه تاريخٌ ينطوي على صراع واختلاف. وما ترمي إليه النظريات التقليدية عن الترجمة هو اختزالُ هذا الاختلاف اللغوي والثقافي والأيديولوجي. فمعظم المسائل التي تُطرح عادة بصدد الترجمة تُطرح بغية قهر الاختلاف. هذا في حين أنّه لولا الاختلاف والتعدد لما كانت الترجمة ضرورية: فطالما هناك ترجمات هناك ثقافات ولغات. وما الترجمة سوى عمليات التحويل اللامتناهية لتلك الثقافات وتلك اللغات. ذلك أن الترجمة لا يمكن أن تقوم إلا كعمليات تجديد وتحويل. فهي لا تهدف، كما يُقالُ عادة، إلى أن تكون نسخة طبق الأصل، إلى أن تُطابق الأصل، إلى أن تكون الآخر ذاته. الترجمة استراتيجية لتوليد الفوارق وإقحام الآخر في الذات؛ إنها ما يفتح الثقافة، ما يفتح اللغة على الخارج، ما يفتح النصوص على آفاق لم تكن لتتوقعها ولا تتوخاها.

وبخصوص المثاقفة وعلاقتها بالترجمة، تبلغُ المثاقفة أنجع درجاتها حينما تتخذ شكل التواصل الثقافي بين فعلين ثقافيين متعاصرين، كما يحدثُ الآن بين الشعوب الأوروبية؛ إذ ما يكاد يصدر كتاب في إحدى لغاتها حتى تسارع الشعوب الأخرى إلى ترجمته إلى لغاتها القومية. هذا عدا أن الفنون، ولاسيما تلك التي لا تعتمد لغة الكلام مثل الرسم والموسيقى، تنتقل دون جواز سفر من دولة إلى أخرى. غير أن المثاقفة تجري بوسائط مختلفة، قد تسهل انتقالها وقد تعيقه، فمن الوسائط ما يكون مساعداً على التفاعل الثقافي مثل لغة الخط واللون في الرسم، ولغة الصوت والإيقاع في الموسيقى... إلخ. ومن الوسائط ما يكون معيقاً للتفاعل الثقافي، مثل لغة الكلام المختلفة بين الأمم. إن لغة الكلام هذه تُعيق انتشار كل ما يعتمد عليه مثل الأدب والعلم والفكر والفلسفة، ما لم تقم الترجمة بتذليل هذه العقبة. وهذا يعني أن هناك جانباً من المثاقفة ينتقل بلغة الكلام، وبما أن الكتابة هي صورةُ من صورها، كانت هناك علاقة بين المثاقفة والكتابة، بالتالي علاقة ما بين المثاقفة والترجمة.

هناك جانبٌ من الثقافة يحتاجُ إلى الكتابة والترجمة للانتقال بين الأمم، هذا الجانب يحتاجُ إلى فحصٍ خاص سواء بالنسبة إلى الكتابة أو الترجمة: فالكاتبُ لا يكتب شيئاً إلا إذا كانت له غاية، وكانت هذه الغاية لها قيمةٌ لديه. هذه الغاية هي التي يضعها المترجم في اعتباره، حينما يختار أثراً من الآثار؛ وهذا يعني أن الكتابة والترجمة فعلان ثقافيان مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً على مستوى الغاية والقيمة، مما ينفي عنهما صفة العشوائية: فالكاتبُ اختار موضوعه وحدوده وطريقة معالجته اختياراً واعياً، والمترجمُ اختار كل هذا عن وعي، باختياره ما كتبه الكاتب لترجمته. وهذا يفترض قيام المترجم بقراءة الأثر المكتوب قبل الشروع بترجمته؛ أي المثاقفة على مستوى القراءة باللغة الأصلية، قبل المثاقفة على مستوى القراءة باللغة المترجم إليها، وهذا يتضمن قيام المترجم بما هو صورة مصغرة لامتزاج ثقافتين أو أكثر، وسيطاً بين ثقافة الكاتب بما هو ممثل لثقافة أمتهِ التي يترجم الأثر إلى لغتها. ومن هنا يصبح الكاتبُ والمترجمُ وسيطين ثقافيين بين أمتيهما.

وهكذا نجد أن الترجمة تضعنا في جو ثقافي متداخل ومتفاعل، حيث الكاتب والمترجم يلتقيان من خلال ثقافتين قوميتين، لكل منهما تاريخها وأبعادها وخصوصيتها، في قلب ثقافة عالمية أخذت تفرض نفسها على الأفراد والأمم. لكنها من ناحية أخرى تقدم لنا كل ذلك من خلال وسيلة معينة لها خصوصيتها، هي لغةُ الكلام المكتوب وما يتفردُ به من إمكانات تستبعد إمكانات أخرى، مثل إمكانات لغة الرسم، أو الموسيقى، أو الحركة... إلخ.

بيد أنّ هذا التلاقي الثقافي والتداخل ليسا من خلال الواقع فقط، بل من خلال القيم أيضاً، فالثقافةُ نظرةٌ إلى الواقع من خلال منظور قيمي كونته الذات، وشاركت فيه الإنسانية. وإذا كان من اختلاف بين ثقافة وثقافة فهو من نصيب كل من هذه العناصر في المشاركة فيها.. وهذا ما يجعل تلاقي ثقافة المترجم بثقافة الكاتب من خلال أثره المكتوب في فترة معينة، بثقافة المترجم أثناء فترة ترجمته، حدثاً ثقافياً فريداً من نوعه.

الأدب والمثاقفة

إذا شئنا أن نفهم المثاقفة الأدبية، كان لا بد من الإحاطة بمفهوم الأدب. يمكن القول إن الغاية منه هي فهم الإنسان وفهم علاقته بالكون الذي يعيش فيه، وما تتضمنه هذه العلاقة الكبيرة من علاقات كثيرة أخرى، أهمها علاقته ببيئته الاجتماعية. الأدبُ مدخلٌ إلى فهم الإنسان في مجال حياته كلها. بيد أنّ عالم الإنسان هو عالم القيم والحرية؛ ولهذا كانت المثاقفة الأدبية من أجل تعميم القيم الإنسانية وإعلاء صوت الحرية؛ وكان الأثر الأدبي الذي يستحق الترجمة من لغة إلى لغة أخرى هو الذي يرفعُ من شأنِ القيم والحرية. من هنا كانت مسؤولية الكاتب عما يكتب، ومسؤولية المترجم عما يترجم، فالثقافة والمثاقفة أمران إنسانيان، ولا بد من الالتزام بهما، ومن هنا كانت مسألة القيم والحرية مرتبطة بمسألة الالتزام بهما. وبما أن الالتزام يعني الالتزام بالإنسانية، فقد كان الطابعُ العام للمثاقفة الأدبية هو الطابع الإنساني.

بيد أن الأدب قد يكون دعائياً مضللاً، لهذا يجب على المترجم حين يختار الأثر الذي يترجمه، أن يتحلى بفكر نقدي، وتلك هي المثاقفة الفكرية في إحدى صورها، ومن هنا تبدو ضرورة الفكر رقيباً على الأدب، سواء من حيث الكتابة أو من حيث الترجمة. فهما في أصلهما إنسانيان، ومن الخطأ تحريفهما عن غايتهما مهما كانت الادعاءات. ومن هنا كانت ضرورة المثاقفة الفكرية المتممة للمثاقفة الأدبية والموجهة لها. وكانت ضرورة الترجمة وسيطاً بين الثقافات المختلفة، لاستفادة أية أمة من عباقرة أية أمة أخرى، ولخير الإنسانية جمعاء.

الفلسفة والمثاقفة

قد يقف الفكر عند حدود الحلول الجزئية، التي تكون بداية لمشكلات جديدة، ومن هنا كانت الحاجة إلى رؤية فلسفية شاملة تربطُ الحلول الجزئية فيما بينها، بل تراها في ترابطها وتأملها. لهذا كان لا بد من المثاقفة الفلسفية الناتجة عن المثاقفة الفكرية من حيث هي ضرورة نابعة من المثاقفة الأدبية.

ومن هنا كانت ضرورة الفلسفة، لتكون تتويجاً لترجمة الأدب والفكر. فنحنُ على حدِ تعبير سارتر، نحملُ على أكتافنا مهمة ربما لم نكن أقوياء بما فيه الكفاية لحملها، وهي أن نخلق أدباً يبلغ المطلق الميتافيزيقي، ويوفق بينها وبين نسبية الواقعة التاريخية، وهو أدبُ الظروف الكبيرة؛ لأنه لم يجد له تسمية أفضل من هذه التسمية. لهذا لا بد لنا، نحنُ البشر جميعاً، من أن نتعاون على حملِ هذه المهمة، مهما اختلفت اللغات؛ لأن الفكر الإنساني واحدٌ، ولا بد له أن يبلغ شموله الفلسفي الواحد.

في العصر الحاضر، تتكاثرُ نقاط الالتقاء بين الشعوب والأمم، وتتجسد المثاقفة أكثر فأكثر.. ولا يخفى أن الترجمة من لغة إلى لغة من شأنها أن تسهم إسهاماً كبيراً في هذا التقريب، أمرٌ يُفضي إلى التواصل بين المجتمعات وإلى قطع عزلتها بعضها عن بعض. وفي هذا نفعٌ لكلِ البشر. ومن هنا كانت ترجمة الثقافات المختلفة، بين اللغات المختلفة من شأنها أن تخلق مثاقفة إنسانية عالمية تقضي على أسباب النزاع، وتوَطد دعائم السلام، وهو حلمُ الإنسان الكبير على مدى العصور.

المصدر: 
مجلة الرافد