تخطي إلى المحتوى
الحبّ في التصوّف.. مقامُه شريف وهو أصل الوجود الحبّ في التصوّف.. مقامُه شريف وهو أصل الوجود > الحبّ في التصوّف.. مقامُه شريف وهو أصل الوجود

الحبّ في التصوّف.. مقامُه شريف وهو أصل الوجود

"(المحبة): عبدٌ ذاهبٌ عن نفسه، متصّلٌ بذكر ربّه، قائمٌ بأداء حقوقه، ناظرٌ إليه بقلبه، أحرق قلبَه أنوارُ هويّته، وصفا شُربُه من كأس ودّه، وانكشف له الجبّار من أستار غيبه؛ فإن تكلّم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله" (الجنيد البغدادي)
المحبّة صفة إلهيّة

كما في مجمل منهجهم للاقتراب من المفاهيم والحقائق الإلهية، يستند الصوفيون في تعريفهم للحبّ إلى القرآن الكريم والحديث الشريف، وعلى هذا فإن الحبّ مقامٌ إلهي، أي أنه في أصله صفة إلهيّة، فإن من أسماء الله "الودود"، والودّ هو الثبات في المحبّة، كما وصف الله نفسَه بالحب، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على ذلك من بينها: "يحبّهم ويحبّونه"، و"إن الله يحب التوّابين ويحب المتطهّرين" و"يحب المتوكّلين"، و"يحب الصابرين" و"يحب المحسنين".

ومن الأحاديث التي ورد فيها الحب صفةً لله تعالى "ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به.."، إلخ الحديث، ومنها: "إن الله جميل يحبّ الجمال"، ومنها "وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ". 
 

"قال الحسين بن منصور: "حقيقة المحبة: قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك". وهي "سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب"، و"ميلك إلى الشيء بكلّيتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه""
 

الحب: الموافَقة

قبل استعراض بعض تعريفات الصوفيين للحب، يجدر الإشارة إلى كونه حقيقة إلهية لا يمكن معرفتها إلا بالذوق، فهو "من الأمور التي لا تُحَد"؛ يقول ابن عربي "الحبّ ذوق ولا تُدرى حقيقته"، والذوق هو "أول مبادئ التجلي، وهو حال يَفجأ العبد في قلبه". لذا لا يعرف الحبَّ إلا من قامت به صفة المحبة، كذلك لا يدرك المُحبّ من هذا المقام إلا ما يتجلّى له خلال تجربته الخاصة في الحب.  

من تعريفات الصوفيين للحب الإلهي أنه "معانقة الطاعة ومباينة المخالفة"، وقال الجنيد "المحبّة دخول صفات المحبوب على البَدَل من صفات المحبّ"، ويشرح القشيري "استيلاء ذكر المحبوب حتى لا يكون الغالب على قلب المحبّ إلا ذِكر صفات المحبوب، والتغافل بالكلية عن صفات نفسه والإحساس بها". وحقيقة المحبة "أن تهب كلّك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء"، و"أن ينسى العبد حظَّه من الله وينسى حوائجه إليه". وقال الشبلي "سميت المحبّة محبة لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب".

والمحبة "الإيثار للمحبوب"، وقال الحسين بن منصور "حقيقة المحبة: قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك". وهي "سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب"، و"ميلك إلى الشيء بكلّيتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه". وقال الجنيد: "كل محبة كانت لغرض إذا زال الغرض زالت تلك المحبة". ويقول القشيري إن المحبة وبإجماع الصوفية هي الموافقة، و"أشدّ الموافقات هي الموافقة بالقلب".

الحبّ وأحوال السالكين

يضع عبد الرزاق الكاشاني تعريفات للمحبة تختلف باختلاف أحوال ومقامات السّالكين، فيقول إنها: "آية الاختصاص، ونتيجة الاصطفاء". وأصلها في الأحوال "الابتهاج بشهود الحقّ وتعلّق القلب به، معرضًا عن الخلق، معتكفًا على المحبوب بجوامع هواه غير ملتفت إلى ما سواه". وصورة المحبة في البدايات "التلذّذ بالعبادات"، وفي المعاملات "شُغل القلب بالحبيب، والفراغ عن كل حميم وقريب"، وفي الأخلاق "محبّة الخصال المُقرِّبة منه، وتجنّب المَلَكات المُبْعِدة عنه".

وصورة المحبة في الأصول "تجريد القصد المستوي إليه عن الموانع، وتصميم العزم، وتهجّر القواطع"، وفي الأودية "تهيّج دواعي العشق بالنظر في الآيات، ودوام مطالعة حسن الصفات". ودرجة المحبة في الولاية "الابتهاج بحسن الصفات، والتنوّر بنور الذات عند التحقق بالأسماء بمحو الرسوم والسّمات". وهي في الحقائق "محبّة تخطفه عن أودية تَفَرُّق الصفات إلى حضرة جمع الذات". والمحبّة في النهايات "حبّ الذات للذات في الحضرة والأحديّة بفناء رسم الحدوث بعين الأزليّة". 

إذًا فالحب بمعناه الإلهي حال يجدها الإنسان في قلبه تحرّكه للعبادات ويجد التلذذ في الأعمال المقرّبة لله، وتدفعه للمجاهدة للتخلّي عن الصفات التي لا يحبها محبوبه ـ معبوده، وتَخْلِية القلب من التعلّق بغير الله، وخلال مسيرة السلوك يصير الحب ابتهاجًا بتجلّي صفات الله، أي شهود تجلّياته بصفاته في الكون والموجودات، وفي النهايات حبٌ خالص لله لا من أجل تحصيل جنّة أو مقام، وشهودٌ لا ينقطع، وفناء الصفات مع البقاء بالله.

"الحب بمعناه الإلهي حال يجدها الإنسان في قلبه تحرّكه للعبادات ويجد التلذذ في الأعمال المقرّبة لله، وتدفعه للمجاهدة للتخلّي عن الصفات التي لا يحبها محبوبه ـ معبوده"
 

الحبّ سبب الوجود

يقول ابن عربي "وعن الحبّ صدرنا، وعلى الحب جُبِلنا.."، ومن ضمن ما يستند إليه في اقترابه من حقيقة كون الحب سبب وجود العالم حديثٌ يروي أنه صحيح كشفًا ـ لا نقلًا ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أنه أدرك صحة الحديث بالكشف، والكشف كما يعرّفه الجرجاني "الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودًا وشهودًا". يقول الحديث عن الله "كنتُ كنزًا لم أُعرَف، فأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلق وتعرّفت إليهم فعرفوني‏". وقد كان الله ولا شيء معه، والعالم مُحدث، ليس قديمًا، وقد علم اللهُ، كما يقول ابن عربي، العالَمَ، من علمه بنفسه، وبذلك أظهر في الكون ما هو عليه في نفسه؛ "وكأنّه كان باطنًا فصار بالعالم (أي بإيجاده) ظاهرًا". ويقول "ولما علم الحقّ نفسَه، علم العالمَ من نفسه، فأخرجه على صورته، فكان له مرآة يرى صورته فيه، فما أحبّ سوى نفسه".

ويقول "فإنه تعالى يحب الجمال، وما ثمّ جميل إلا هو، فأحبَّ نفسَه، ثم أحبّ أن يرى نفسَه في غيره، فخلق العالم على صورة جماله، ونظر إليه فأحبّه.. فما خلق العالمَ إلا على صورته، فالعالم كله جميل، وهو سبحانه يحب الجمال".

"علم اللهُ، كما يقول ابن عربي، العالَمَ، من علمه بنفسه، وبذلك أظهر في الكون ما هو عليه في نفسه؛ "وكأنّه كان باطنًا فصار بالعالم (أي بإيجاده) ظاهرًا""
 

ما أحبّ أحدٌ سوى الله

ومن ألطف ما يشير إليه الشيخ الأكبر في الحبّ أنه ما أحبّ أحدٌ على الحقيقة سوى الله، ولم تكن ليلى وهند وعبلة إلا حُجبًا من صورٍ على قلوب العاشقين؛ "كما أنه لم يُعبَد سواه ـ فإنه ما عُبِدَ مَن عُبِدَ إلا بتخيّل الألوهيّة فيه، ولولاها ما عُبِد.. وكذلك الحبّ؛ ما أحبّ أحدٌ غيرَ خالقه، ولكن احتجب عنه تعالى بحبّ زينب وسعاد وهند وليلى، والدنيا والدرهم والجاه وكل محبوب في العالم، فأفنت الشعراء كلامها في الموجودات وهم لا يعلمون، والعارفون لم يسمعوا شعرًا ولا لغزًا ولا مديحًا ولا تغزلًا إلا فيه من خلف حجاب الصور، وسبب ذلك الغيرة الإلهية أن يُحَبَّ سواه، فإن الحبّ سببه الجمال، وهو له، لأن الجمال محبوب لذاته‏، والله جميل يحب الجمال".

على هذا فإن الحبّ شوقٌ يحرّك القلب، وحنينٌ إلى الأصل، أصلِ الجمال والإحسان، وليس سوى الله، غير أن العاشقين أُسِروا في صور معشوقيهم من الخلق والموجودات، فَحَجبتهم هذه الصور عن معرفة حقيقة وِجهة قلوبهم وما بها من عشق، يقول ابن الفارض "فالعين تهوى صورةَ الحسنِ التي، روحي بها تصبو إلى معنًى خَفي" فهذا عاشقٌ عرف. ويقول فريد الدين العطّار "أهل الصورة غرقى بدار كلامي، وأهل المعنى رجالُ أسراري".

الحبّ: إلهيّ وروحانيّ وطبيعيّ

وللحب عند ابن عربي أشكال ثلاثة، أولها الحب الإلهي، وهو حب الله لخلقه، وحبهم له؛ وحبه لخلقه على وجهين: هو أن يحبهم لنفسه، ولهم؛ فأما حبّه لهم لنفسه فمن كونه خلقهم لنفسه ليعرفوه "وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدونِ"، وأما حبّه لهم من أجلهم فمن كونه المُحسن إليهم والمنعم عليهم، بالإيجاد أولًا، ثم باستمرار الإحسان والإنعام عبر تعريفهم بمصالحهم وبالطرق الدالة عليه وبما يرزقهم به من النعم التي لا تُحصى.

أما الحب الروحاني فهو "الذي يسعى به المحبّ في مرضاة المحبوب، ولا يبقى له مع محبوبه غرض ولا إرادة"، وهو "الحبّ الجامع في المحبّ أن يحب محبوبه لمحبوبه ولنفسه، إذ كان الحب الطبيعي أن لا يحب المحبوب إلا لأجل نفسه‏".

وغاية الحب الروحاني الاتحاد، فتصير ذات المحبوب عين ذات المحب، ويشرح ابن عربي ذلك عبر امتزاج أنفاس المحبّين فيقول "فإذا تعانق الحبيبان، امتصّ كل واحد منهما ريق صاحبه، وتحلل ذلك الريق في ذات كل واحد من الحبيبين، وتنفّس كل واحد من الصورتين عند التقبيل والعناق، فخرج نفَس هذا فدخل في جوف هذا، ونفَس هذا في جوف هذا، وليس الروح الحيواني في الصور الطبيعية سوى ذلك النفَس، وكل نَفَس فهو روح كل واحد من المتنفّسين.. وقد كان ذلك النفَس خرج من محبّ، فتشكّل بصورة حبّ، فصحبته لذة المحبة، فلما صار روحًا في هذا الذي انتقل إليه، وصار نفَس الآخر روحًا في هذا الآخر، عبّر عن ذلك بالاتحاد في حق كل واحد من الشخصين، وصحّ له أن يقول‏: أنا من أهوى ومن أهوى أنا. وهذا غاية الحب الروحاني في الصور الطبيعية، وهو قوله:‏ روحًا بروحٍ وجثمانًا بجثمان". ‏
 

"الحبّ شوقٌ يحرّك القلب، وحنينٌ إلى الأصل، أصلِ الجمال والإحسان، وليس سوى الله، غير أن العاشقين أُسِروا في صور معشوقيهم من الخلق والموجودات، فَحَجبتهم هذه الصور عن معرفة حقيقة وِجهة قلوبهم وما بها من عشق"
 

والحب الطبيعي "هو الذي يطلب به جميع نيل أغراضه سواء سَرَّ ذلك المحبوب أو لم يسرّه، وعلى هذا أكثر حبُّ الناس اليوم". وإذا قام الحب الطبيعي بالمحب فهو لا يحب المحبوب إلا لما له فيه من النعيم به واللذة، فحبّه له لنفسه لا لعين المحبوب، وغايته الاتصال المحسوس بالمحبوب، عبر النكاح والعناق والتقبيل والمؤانسة. 

أما أبو الحسن الديلمي فيذكر أن المحبة على ضربين: طبيعي وإلهي، وأنه بالحب الطبيعي يتم الترقّي إلى الحب الإلهي؛ "لأن نفْس المحبّ إذا لم تتهيأ لقبول المحبة الطبيعية لم تصلح للإلهية، فإذا أراد الحق أن يبلّغ عبدًا من عبيده إلى مقام المحبّين وإلى نعت الروحانيين، هيّأه لها بأن يلطّف تركيبَه، ويرقّق طبعَه.. فحينئذ يقبل المحبة إذا صار فيها".

ويذكر الديلمي ما روي عن زليخة إذا قال يوسف عليه السلام لها: أين شغفك وما كنت تجدينه قبل، فلست أرى فيكِ ذلك؟ فقالت: ذقت محبة الله فذهب حبّك عن قلبي.

المصدر: 
ضفة ثالثة