تخطي إلى المحتوى
الحضارة الرومانية في الأفلام السينمائية والثقافة… مرآة للإعلام والجمهور الحضارة الرومانية في الأفلام السينمائية والثقافة… مرآة للإعلام والجمهور > الحضارة الرومانية في الأفلام السينمائية والثقافة… مرآة للإعلام والجمهور

الحضارة الرومانية في الأفلام السينمائية والثقافة… مرآة للإعلام والجمهور

بدأت أخبار الجزء الثاني لفيلم «مصارع» 2 Gladiator تشغل هواة الأفلام السينمائية ومواقع الأخبار، على الرغم من أنه سيعرض في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام. وكان الجزء الأول الذي عرض عام 2000 قد حقق نجاحا هائلا، حتى أصبح انتقاده تهمة تعرض مرتكبها للشتائم والاتهام بالجهل والغباء، على الرغم من كون قصته مسروقة من فيلم «سقوط الإمبراطورية الرومانية» (1964) وأحداثه ضعيفة العلاقة بالتاريخ الروماني. لكن هل كان ذلك مصادفة؟ كلا، فقد كان الرومان دائما موضوعا دسما في السينما العالمية، ومن أهم علاماتها منذ بدايتها ويمثل هذا استمرارية لظاهرة ميزت الحضارة الغربية منذ قرون عديدة، إذ كانت الحضارة الرومانية علامة فارقة ونقطة تحول في التاريخ العالمي بشكل عام، والغربي بشكل خاص. وكانت قد بدأت كمملكة وتحولت إلى جمهورية ثم أصبحت إمبراطورية وسقطت من الناحية الرسمية عام 1453 عندما اقتحم العثمانيون القسطنطينية التي كانت آخر عاصمة لهم. وكانت الدولة الرومانية قد انقسمت عام 395 إلى جزء غربي كانت روما عاصمته (كانت العاصمة قبل الانقسام) ولغته الرسمية اللاتينية، وجزء شرقي كانت القسطنطينية (إسطنبول حاليا) عاصمته وكانت اليونانية لغته الرسمية، وسمي في ما بعد بالإمبراطورية البيزنطية. لكن السينما لا تتطرق إلى تلك التي عاصمتها القسطنطينية، بل إلى التي كانت عاصمتها روما، والتي انتهت عندما احتلت القبائل الجرمانية روما عام 476. وبالنسبة للثقافة الشعبية وبعض المؤرخين، فإن الإمبراطورية الرومانية انتهت في تلك السنة وإن الجزء الشرقي لم يكن رومانيا حقيقيا، ولهذا عدة أسباب. كان فيلم «كوفاديس» (تعبير لاتيني يعني «إلى أين أنت ذاهب») الذي عرض عام 1912 أول فيلم شهير عن الرومان في السينما الأمريكية ثم «لا تسامح» Intolerance (1916) وتلاه «بن هر» Ben Hur (1926). وبعد ذلك أخرج المخرج الشهير «سيسيل بي دي ميل» «علامة الصليب» The Sign of the Cross (1932) وأفلام أخرى. وقد ازدادت هذه الأفلام في الخمسينيات، عندما عرضت أفلام مثل «الوصايا العشر» The Ten Commandments (1956) و»بن هر» Ben Hur للمخرج وليام وايلر الذي عرض عام 1959، ثم الفيلم الذي ما يزال النقاد يتحدثون عنه، وهو»سبارتاكوس» Spartacus (1960). وعلينا ان نذكر فيلم «سقوط الإمبراطورية الرومانية» The Fall of the Roman Empire (1964) واستمر إنتاج الأفلام عن الرومان.

تأثير الأفلام عن الرومان على المشاهد

ما يجده المشاهد في الأفلام التي تناولت حياة الرومان ليس في الواقع سوى سيل من القتل الجماعي والاغتصاب والاحتلال والاستعباد والخيانة، الذي يقوم بها الرومان ضد بقية الشعوب، بأبشع الطرق وأكثرها عنفا. ومن الملاحظ في هذه الأفلام كذلك أن ضحايا الرومان أقرب إلى الوحوش منهم إلى البشر، فلا حق لهم في الحياة، على عكس الجنود الرومان الذين يرتدون الملابس الجميلة وتصرفاتهم المنضبطة، فهم، حسب الفيلم، الجانب المتحضر وصاحب الحق في ما يفعله، فلماذا يستمتع المشاهدون بها وهي تخالف المبادئ السامية للعالم الحديث؟ إن أحد الأسباب هو أن العالم لم يتغير في الحقيقة، فما نزال نرى ونعاني كما كان سكان العالم يعانون منه في عصر الإمبراطورية الرومانية، وهناك علاقة واضحة بين الخيال الذي تعرضه هذه الأفلام السينمائية والعصر الحديث. وهنالك أسباب أخرى لشعبية هذه الأفلام، فأغلب المعجبين بها من الرجال الذين تمثل هذه الأفلام بالنسبة لهم وقودا لإشعال مشاعر السادية والعنف والحقد، وأمنياتهم أن يفعلوا ما فعله الرومان في السينما. وعندما يرى المشاهد بشكل خاص الجمهور الهائج في حلبات المصارعة المميتة في الفيلم والمصارعين الذين يقتلون بعضهم بعضا فإنه يندفع بشكل عفوي بغوغائية سادية كامنة في طبيعته، متمنيا أن يقوم بالمثل وتنهار الحدود المعتادة لذلك الشعور، لأن المشاهد يظن عدم وجود أي عواقب لمشاعره هذه.

وإذا كان بالإمكان اتهام الرومان بالوحشية عندما كانوا يشاهدون تلك العروض الدموية، فالمشاهدون الحاليون ليسوا أفضل، فهم يستمتعون بالطريقة نفسها عندما يشاهدون نزالات الملاكمة، أو فنون القتال المختلطة، أو الركبي، أو كرة القدم الأمريكية والأوروبية حيث تمتاز جميع هذه النشاطات بجمهور ذي حماسة غوغائية مفرطة، تبرز الأسوأ في الطبيعة البشرية من رغبة في العنف لمجرد أنه عنف. وقد خص علماء الطب النفسي في وصفهم الرجال المعجبين بفيلم «مصارع» حيث عللوا ذلك الأعجاب المفرط والغوغائي بالفيلم بكونه تعويضا لا إراديا لهؤلاء لشعورهم بتقلص مكانتهم ورجولتهم، بغض النظر عن بعد الفيلم الشاسع عن التاريخ الحقيقي للرومان، وامتلائه بالأخطاء التاريخية المقصودة لجعله مناسبا لتقديم أفكار معينة. ولم تكن قصته سوى قصة غير قابلة للتصديق لانتقام شخصي لشخص من قاع المجتمع من شخص في قمته، شبيهة بقصص أفلام رعاة البقر الخيالية، لكن الانفعال المتواصل والحقد الأعمى والعنف والتفاصيل المبالغ فيها، مثلت جميع العناصر البدائية في النفس الإنسانية، وهو في الوقت نفسه نوع ضار من أحلام اليقظة والهروب من الواقع، الذي يواجهه الرجل، خاصة في حياته اليومية وخيبة أمله في عالمه.

ولا يفكر أي من مشاهدي فيلم «مصارع» عن مشاعر وحقوق الشعوب التي تعرضت لهجمات واستعباد الرومان الوحشيين، لأن المشاهد العادي يريد أن يكون مثل المجرم المنتصر ولا يفكر بالضحية، ما يضيف إلى ذلك أن الجميع يراهن على الحصان الفائز بشكل لا إرادي. ولهذا السبب لا نرى الكثير من النساء المعجبات بهذه الأفلام، لأن المرأة لا تميل إلى العنف مثل الرجل، ولا تظهر مشاعرها، على الرغم من كونها ليست أفضل منه في المبادئ والأخلاق. ومن ناحية أخرى أصبح تأثير هذه الأفلام، التي تسمى تاريخية، قويا الى درجة أنها تفرض صورة خيالية عن التاريخ الروماني على المشاهد الذي يتقبلها بشكل لا إرادي وكأنها نوع من التنويم المغناطيسي. وفي الوقت نفسه يظن المشاهد أنه قد أصبح خبيرا في التاريخ الروماني لأنه قد شاهد بضعة أفلام سينمائية عنهم.
لكن شعبية هذه الأفلام جعلتها وسيلة لعرض أفكار معينة اجتماعية وسياسية، من خلال المواضيع التي تناولتها وطريقة عرضها، واستعمال أفضل وآخر التقنيات الفنية، ومحاولة إبهار المشاهد بعظمة الرومان عن طريق عرض المباني الرومانية الفخمة والملابس الزاهية، وحجم جيوشهم الجرارة والفتيات الجميلات، وأشهر النجوم السينمائيين. ونرى هذا بشكل واضح في الخمسينيات حيث حاولت استخدام تقنيات حديثة، ما جعل الشاشة أكبر حجما والصوت أفضل، وأدى ذلك إلى جذب عدد أكبر من المشاهدين، حيث كان التلفزيون قد أصبح منافسا لها. لكن عدد هذه الأفلام قل بعد ذلك لسبب بسيط، هو تكلفتها الكبيرة وحتى فيلم «كليوباترا» Cleopatra (1963) الشهير كاد أن يعرض شركة فوكس القرن العشرين، التي أنتجته للأفلاس، حيث كانت تكلفته أربعين مليون دولار، وكان هذا مبلغا هائلا في تلك الفترة.

كان للشعر والأدب الرومانيين تأثير بالغ على الأدب الغربي الحديث، فأعمال أشهر كتابهم مثل فرجيل وهوريس ما تزال تؤثر في الأعمال الحديثة، لاسيما أوفيد، الذي أثر على شوسير وملتن ودانتي وطبعا البريطاني شكسبير الذي كانت اثنتان من أشهر مسرحياته، «يوليوس قيصر» و»أنطونيو وكليوباترا» عن التاريخ الروماني.

الرومان في الثقافة الغربية

كان للإمبراطورية الرومانية تأثير كبير على الثقافة الغربية من جميع نواحي الحياة، لاسيما بعد أن قامت القبائل الجرمانية باحتلال عاصمتها روما عام 476، إذ كان الجميع يؤمنون بأنها علامة الحضارة والرقي، حتى إن كلمة «حضارة» في اللغات الأوروبية مقتبسة من لغة الرومان، أي اللغة اللاتينية. وحاولت الشعوب تبني مظاهر الحياة الرومانية السابقة، مهما كانت فظاعة ما قام الرومان بها، أو ضعف علاقتها بهم، فعندما أسس الألمان إمبراطوريتهم أطلقوا عليها اسم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، لأنهم اعتبروا أنفسهم ورثة روما، فهم الذين احتلوا روما في نهاية المطاف، أما تعبير «المقدسة» فسببه كونهم مسيحيين. وبقي لقب «قيصر» يطلق على ملك ألمانيا حتى إلغاء الملكية عام 1918. و»قيصر» لقب مقتبس من اسم الحاكم والقائد الروماني «يوليوس قيصر» الذي في الحقيقة لم يكن أبدا ملكا. وأما العائلة المالكة الروسية، فقد اعتبرت نفسها الوريثة الحقيقية للإمبراطورية الرومانية، لأن أحد الأمراء الروس تزوج فتاة من عائلة الإمبراطور الروماني البيزنطي، وكونها تعتنق المذهب المسيحي الأرثوذكسي، الذي كان مركزه في القسطنطينية. ولهذا السبب كان ملك روسيا يسمى «قيصر» أيضا. وحتى السلطان العثماني أطلق على نفسه لقب إمبراطور الرومان عندما احتل العثمانيون القسطنطينية.
لا يمكن تجاهل التأثير الروماني في جميع الجوانب الثقافية في العالم، لاسيما في العالم الغربي، الكنيسة الكاثوليكية تدين لهم تأسيسها وانتشارها وفلسفتها. وبسبب الإمبراطورية الرومانية يجد علماء الآثار صعوبة بالغة في العثور على المعابد الوثنية التي كونت أمثلة بارزة في الطراز المعماري الروماني، إذ تم تدمير أغلبها بعد تبني الدين المسيحي، أو تحويل البعض منها إلى كنائس، ومن أشهر الأمثلة المسجد الأموي في دمشق الذي كان في الأصل معبدا لإله محلي في المنطقة ثم حوله الرومان إلى معبد لإله روماني قبل أن يصبح كنيسة، وانتهى به المطاف مسجدا.
تكلم الرومان اللغة اللاتينية (الاسم مأخوذ من اسم قبيلة إيطالية) وبقيت مستعملة في الأديرة الأوروبية بعد انهيار الإمبراطورية لأنها لغة الكنيسة الكاثوليكية، وتحولت إلى لغة الكتب العلم والثقافة، فجميع الكتب العلمية الشهيرة حتى نهاية القرن الثامن عشر كتبت باللغة اللاتينية. وما يزال علماء الأحياء يطلقون أسماء لاتينية على النباتات والحيوانات التي يكتشفونها. وأسماء أغلب كواكب المجموعة الشمسية مقتبسة من اللغة اللاتينية، كما ما تزال أغلب دول العالم تستعمل الحروف اللاتينية (اقتبسها الرومان من اليونانيين الذين كانوا قد اقتبسوها بدورهم من الفينيقيين).
كان للشعر والأدب الرومانيين تأثير بالغ على الأدب الغربي الحديث، فأعمال أشهر كتابهم مثل فرجيل وهوريس ما تزال تؤثر في الأعمال الحديثة، لاسيما أوفيد، الذي أثر على شوسير وملتن ودانتي وطبعا البريطاني شكسبير الذي كانت اثنتان من أشهر مسرحياته، «يوليوس قيصر» و»أنطونيو وكليوباترا» عن التاريخ الروماني. وعندما بدأت الدول الأوروبية في الازدهار في العصور الوسطى أخذ كبار مثقفيها بإدخال الكثير من الكلمات والتعابير اللاتينية إلى لغاتهم، ما يشكل مظهرا من مظاهر الخضوع الثقافي والغريب للرومان القدماء. وفي الواقع أن اللغة اللاتينية لم تمت أبدا، فاللغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية، وبعض اللغات الأخرى تعود في الأصل إلى لهجات لاتينية كانت تستعمل من قبل الطبقات الشعبية غير المتعلمة في الإمبراطورية الرومانية. ويتكلم تسعمئة وعشرون مليون شخص في العالم لغة مقتبسة من اللغة اللاتينية كلغة أم، كما أن لغتين منها هما ضمن اللغات الستة المستعملة في الأمم المتحدة وهما الفرنسية والإسبانية.
اقتبس العالم تقليد عطلة نهاية الأسبوع وأغلب أسماء الأيام والأشهر والتقويم السنوي والكثير من أسس المحاكم والقوانين من الرومان. ونرى جميعا الطراز المعماري الروماني بشكل يومي في جميع الدول الغربية لأنه ما يزال يستعمل لاسيما الأقواس والقبب، ومنها قوس النصر الشهير في باريس وهناك أقواس تشبهه في بريطانيا ودول أخرى ألا انها أقل جمالا، وما يزال الكثير من الأبنية الرومانية القديمة موجودة حتى الآن، بل يظن الخبراء أن الكونكريت الروماني كان أفضل من الكونكريت الحديث. قد تكون الولايات المتحدة الأمريكية الأشهر تأثرا بالحضارة الرومانية القديمة، لأن الكثير من أشهر البنايات الحكومية مبنية على الطراز الروماني مثل البيت الأبيض ومبنى الكونغرس الأمريكي، الذي يضم مجلسي الشيوخ والنواب وغيرهما من الأبنية الكثيرة. وقام مؤسسو الولايات المتحدة الأمريكية بإطلاق أسماء رومانية على الكثير من الأمكنة والمناصب في البلاد فكلمة «سيناتور» (عضو مجلس الشيوخ) مأخوذة من اسم عضو في مجلس الشيوخ الروماني، ومبنى الكونغرس المسمى الكابيتول (كان الكابيتول اسم تل في روما القديمة) واسم مدينة سنسيناتي المقتبس من اسم حاكم روماني، ونهر التيبر الذي اقتبس اسمه من اسم نهر في روما وغيرها. وتم اقتباس المناصب الإدارية الرومانية كذلك، فمنصب الرئيس مشابه إلى حد كبير لمنصب القنصل في الدولة الرومانية عندما كانت جمهورية، وكذلك فإن مجلسي الشيوخ والنواب مقتبسان من المجالس التشريعية الرومانية. وأخيرا هنالك العملات المعدنية الأمريكية التي تشابه تلك الرومانية.
بعد كل هذا قد يتساءل المرء إذا كنا فعلا نعرف عن الرومان القدماء. والجواب المؤسف أننا في الواقع لا نعرف سوى القليل جدا عنهم، فما نملكه من أعمال أدبية لا يمثل سوى واحد من الألف مما كتبوه. ومن المستحيل التأكد مما كتب عن حياتهم، لاسيما أباطرتهم، بل أن العلماء لا يعرفون الا القليل عن الألوان التي استعملوها وأزيائهم. وأكثر ما نراه في الأفلام السينمائية ليس سوى خيال.

المصدر: 
القدس العربي