بات القاصي والداني من الناس يعرف عن الذكاء الاصطناعي. لكن قلائل منهم فقط أتيحت لهم الفرصة لتجربة عالم الروبوتات، ورؤية كل ما يمكن أن يفعله هذا الجيل الجديد للتقدم التكنولوجي في حياتنا.
بالنسبة الى أولئك الذين لا يعرفون سوى القليل عن الذكاء الاصطناعي، يبدو أن التخوف والشك والريبة أكثر انتشارا في أذهانهم من عجائب الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكنها أن تساعدنا في عملنا وحياتنا اليومية.
بصفتي أستاذا للصحافة، رأيت من واجبي أن أجرّب الذكاء الاصطناعي، وأن أكون على دراية بمشاركته مع طلاب الدراسات العليا في جامعة كولومبيا. فعمدت لفترة عامين إلى ارتياد "غرف الدردشة" المخصصة للتحادث مع الروبوت، إلى جانب كثيرين كانوا يفعلون الأمر نفسه.
منذ عام 2017، أصبح الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يتضاعف، ليس من جانب شركات الأعمال فحسب، حيث يتم استخدامه بنسبة 58 في المئة تقريبا، بل بات الكثير من الأفراد يبحثون عن المعلومات باستخدام الذكاء الاصطناعي، ويجدون ذلك أكثر إثارة للاهتمام من "غوغل"، ففي حين يمنحك "غوغل" الروابط فقط ويترك الباقي لتتولاه بنفسك، يوفر لك الذكاء الاصطناعي معلومات بأسلوب سردي لتعريفك إلى أي موضوع! كما تقدم محركات البحث القائمة على الذكاء الاصطناعي نتائج بحث أكثر دقة وفاعلية وتشخيصا.
لذلك، عندما اقترح ناشر إصداراتي في نيويورك أن أضع كتابا عن الذكاء الاصطناعي لمنشئي المحتوى – مع التركيز على طريقة مساعدة الذكاء الاصطناعي للصحافيين، انتهزت الفرصة. وعلى الرغم من كوني لست خبيرا في هذا الموضوع، قال لي الناشر: "مَن الخبير بيننا يا ماريو. لديك 53 عاما من الخبرة في المشاريع الإعلامية حول العالم، وقد بحثت في الذكاء الاصطناعي، لذلك أدعوك أن تضع كتابا يحتوي على أساسيات الذكاء الاصطناعي يخاطب الكتاب والصحافيين والمحررين". هكذا وجدتُني
فعلى مدار مسيرتي المهنية التي امتدت لخمسة عقود في الصحافة المرئية، كنت دوما "من أوائل الذين يتبنون" التطورات التقنية المختلفة التي هزت صناعة الإعلام، ويباركونها. أشعر اليوم بأنني محظوظ لامتلاكي رؤية عميقة في غرف الأخبار في جميع أنحاء العالم ولديّ القدرة على الوصول إلى بعض أفضل العقول التي تعمل على تجربة الذكاء الاصطناعي.
هذه هي الثورة السادسة في الإعلام التي عايشتها شخصيا. عندما بدأت مسيرتي المهنية مع صحيفتَي "ميامي نيوز" و"ميامي هيرالد" في أواخر الستينات، شاهدت الانتقال من إعداد النوع المعدني إلى النوع البارد لإنتاج الصحف، ثم تنحّت الآلات الكاتبة لتفسح المجال أمام أجهزة الكومبيوتر في غرف الأخبار، وتحولت الصحف من الأبيض والأسود إلى الملون. وفي التسعينات جاء الإنترنت، ثم كان صعود رواية القصص عبر الهاتف المحمول. وها هو الذكاء الاصطناعي يطرق أبوابنا.
ليس الذكاء الاصطناعي فتيا، فعمره يكاد يبلغ سبعين سنة، منذ أن استخدم المصطلح للمرة الأولى في عام 1956، ثمّ ظهرت الأنظمة الخبيرة في الثمانينات، وتوالت القفزات في البيانات وقوة الحوسبة حتى ازدهرت بعد عام 2010.
بشكل عام، إذا كنت تستخدم "أليكسا"(Alexa) أو "سيري" (Siri) لتشغيل وإطفاء الأضواء في منزلك، فأنت تستخدم الذكاء الاصطناعي. كما يوجد الذكاء الاصطناعي أيضا في تطبيق "وايز" (Waze) الذي يقترح مسارات بديلة عند وقوع حادث على الطريق، وفي "شازام" (Shazam) الذي يحدد نوع الموسيقى، وفي الترجمة الآلية على اليوتيوب.
أما أنا فعلى موعد، كل يوم، مع "تشات جي. بي. تي."، الروبوت الشهير صاحب الإجابات عن كل شيء تقريبا. أذكّر طلابي وعملائي بأنه، إذا كان هناك عبقري بينهم قد يعتمد على معلومات من نحو 3000 موقع،فإن الذكاء الاصطناعي من خلال "تعلم الآلة"، مدرب على جمع معلومات من نحو 175 مليون بينة تعريف، على مدى اتساع الإنترنت.
بعد ذلك كله، ما الذي اكتشفته أثناء البحث وتأليف كتابي؟
1- الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI): هو أهم تقنية جديدة منذ ظهور الإنترنت. تتعلم نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي من كميات هائلة من البيانات المنشورة، بما في ذلك الكتب، والمنشورات،"ومواقع الانترنت والتواصل الاجتماعي. ومع أن الذكاء الاصطناعي هو مصدر قوي للبيانات، لكنه يبقى عاجزا عن استبدال العنصر البشري عاطفيا. وعلى الرغم من أن هذه التكنولوجيا لا يمكنها "التفكير" كالبشر، إلا أنها قد تبتكر في بعض الأحيان عملا بجودة مماثلة.
2- تطبيق "تشات جي. بي. تي.": يختبر معظم الأشخاص الذكاء الاصطناعي عبر روبوتات المحادثة.
يعد "تشات جي. بي. تي." أحد أشهر روبوتات المحادثة، ظهر للمرة الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وهو يتمتع بالقدرة على إنتاج لغة سلسة من كتابة الروايات ورموز كومبيوتر ومسلسلات تلفزيونية وأغان.
3- الهلوسة: في حين أن المحادثة مع "تشات جي. بي. تي." يمكن أن تكون غنية بالمعلومات ومسلية، يجب أن تكون مستعدا لـ"هلوسة" الروبوت، بانفصاله عن الموضوع المطروح. عندما يصاب البشر بالهلوسة، يعني ذلك أنهم يعانون من فقدان الإدراك الحسي في غياب المحفزات الخارجية السببية. الآن، وبعدما أصبح الذكاء الاصطناعي جزءا من حياتنا اليومية، يجب علينا أيضا مواجهة هلوسة صديقنا الروبوت الذي لا يمكننا الرجوع إليه لطلب المساعدة في تلك الحالة.
تحدث الهلوسة في الذكاء الاصطناعي عندما يولد نظام الذكاء الاصطناعي مخرجات لا تستند إلى الواقع أو الى معلومات دقيقة، أو ما تشير إليه الكاتبة الكندية نعومي كلاين على أنه "بقايا خورزميات".على سبيل المثل، أثناء مناقشة سرد القصص على الهاتف المحمول، اقتبس الروبوت من عملي الخاص، فأجبت بحماسة: هذا أنا. أنا ماريو غارسيا. أجاب الروبوت: "كلا، أنت لست كذلك!" كانت تلك ضربة موجعة!
4- الذكاء الاصطناعي في مقابل البشر: ليس للذكاء الاصطناعي عقل خاص به، إذ يقتصر نتاجه على المعلومات التي يقدمها إليه الإنسان. لذلك استهللت شعار كتابي باحترام البشر. هناك مساهمة بشرية أولا، لتحفيز الروبوت على تقديم نتائج المعلومات المطلوبة، ثم في النهاية، يجب أن تكون هناك تدخلات بشرية لمراجعة ما أنتجه روبوت الذكاء الاصطناعي.
قد يتغير الأمر في المستقبل. أما الصيغة اليوم، فهي الإنسان، الذكاء الاصطناعي، الإنسان.
5- يخطو الصحافيون بحذر إلى عالم الذكاء الاصطناعي: يدرك الصحافيون عيوبه، لكنه يساعدهم من خلال الوظائف الآتية؛ وضع أفكار القصة، المساعدة في أسئلة المقابلة، توفير البيانات للحصول على معلومات أساسية في القصص، المساعدة في تنويعات المحتوى الرئيسي، تلخيص القصص الترويجية لوسائل التواصل الاجتماعي، والترجمة من اللغات الأجنبية.
لن تنشر أية وسيلة إعلامية محترمة مقالات مكتوبة بالكامل من روبوت يعمل بالذكاء الاصطناعي، وإن كانت بعض أجزاء المقال مأخوذة عنه، فهذا يوجب نسبه إلى الذكاء الاصطناعي على نحو مناسب حرصا على دوام الصدقية والشفافية.
مع الظهور السريع لهذه التكنولوجيا الجديدة، تطرح أيضا أسئلة أخلاقية وقانونية. هل هناك تحيز في المعلومات التي يقدمها الذكاء الاصطناعي وهل هي موضوعية؟ خاصة بعد وصول الذكاء الاصطناعي إلى كل المعلومات الموجودة على الإنترنت وربما إلى مجموع الأعمال التي أنتجتها البشرية على مدى قرون.
تعد "نيويورك تايمز" من أوائل دور النشر التي ساءلت "أوبن أي. آي." (OpenAI)، مبتكري "تشات جي. بي. تي."، مؤخرا عن التعويض في مقابل استخدام الذكاء الاصطناعي لمحتواها. ومن المحتمل أن نرى المزيد من هذه المساءلات في ما يتعلق بالملكية الفكرية واستخدامها من قبل الذكاء الاصطناعي.
لا يزال الذكاء الاصطناعي في مراحله الأولى، ومحط الكثير من التساؤلات والتشكيك، ولكن لا شك في أنه ثورة كبرى تكاد أن تجتاحنا بالكامل.
أقترح عليكم أن تجربوا الذكاء الاصطناعي بالوتيرة التي تناسبكم، ليصبح الروبوت صديقكم، وهو دائما على استعداد للدردشة معكم، بغض النظر عن أعماركم.