لطالما اعترض أدباء على ما وجه إلى نصوصهم من نقد، ويمكن هنا أن أقتبس من إميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم - من نصوصهم ومن المقابلات التي أجريت معهم. وعموما فإن متابع هذه الأسماء يتذكر رد حبيبي على مقالة فيصل دراج «إميل حبيبي الوجه المفقود في الأقنعة المتعددة» (مجلة إبداع آذار ١٩٩٥) وما كتبه القاسم عن غالي شكري في مقدمة الجزء الأول من ديوان الحماسة (منشورات الأسوار ١٩٧٨) وطلب درويش من النقاد ألا يفسروا شعره بملعقة الشاي.
يبدو أن سحر خليفة لا تختلف، وسيرتها «روايتي لروايتي» بجزأيها مثال واضح. تمدح سحر نقادا فسروا أعمالها كما تريد وتهجو آخرين لم ترق لها كتاباتهم. تذكر الأولين بأسمائهم وتتغاضى عن الآخرين، ولا تكتفي بما كتبه الأولون، كما لو أنه لم يشف غليلها، فلم يقل كل ما أرادت قوله، وعليه تقوم هي بتعبئة الفراغات الناقصة وأكثر.
في الجزء الثاني من سيرتها الأدبية الذاتية «روايتي لروايتي» (دار الآداب ٢٠٢٣) تتابع ما بدأته في جزئها الأول (٢٠١٨) الذي قالت فيه، «أنا ككاتبة، وكناقدة مدققة لأعمالي ولكامل مسيرتي الأدبية والفكرية ولاهتمام بعض النقاد وبعض القراء...» وتواصل كتابتها عن رواياتها، وإن اقتبست من نقاد آخرين بعض ما كتبوه عن بعض أعمالها، فتكتب:
«وقبل أن أغوص في تفاصيل أحداث الرواية وملامح الشخصيات، أنوه هنا بأني استعنت ببعض المقاطع من دراستين هامتين لهذه الرواية المثيرة للجدل (أصل وفصل ع. أ) لناقدين أراهما الأقرب إلى فهمي لأبعاد الرواية ومراميها، وهما: الأستاذة الدكتورة رزان إبراهيم، والأستاذ الدكتور نبيه القاسم...»(١٥٦) وتسبغ على الأخير صفة «الناقد الذكي الحصيف» وتمنحه لقب الأستاذية وأنه «الأقدر على فهم مضامين الرواية والتماهي مع أحداثها، بعكس الكثيرين من سياسيينا ومثقفينا خارج حدود إسرائيل (؟) ...» (ص ١٧٤) وتنسى أو تتناسى أن رزان إبراهيم التي مدحت نقدها واقتبست منه تقيم في الأردن.
وسحر، اعتمادا على ما سبق، تلغي مقولات نقدية حديثة رأى أصحابها أن النقد ما عاد يركز على العلاقة بين المؤلف والنص «المعنى في بطن الشاعر»، فقد أصبح يركز على العلاقة بين النص والقارئ، عدا إلغائها ما شاع في النقد النفسي الذي يرى أن الكاتب لا يكتب دائما بوعي كامل، فقد ترشح منه إلى نصه عبارات ومقولات لا ينتبه إليها تكشف عما يكمن في لاوعيه. كانت روايات بلزاك، بخلاف مواقفه السياسية، تفضح طبقته البرجوازية.
إن كل ما لا يروق لسحر تلغيه بجرة قلم اعتمادا على رؤيتها المتمثلة في «أن غالبية القراء والمثقفين وحتى السياسيين أنفسهم - أصحاب القرار، لا يعرفون عن حقائق تاريخنا القريب وتفاصيل أسباب هزيمتنا العام ١٩٤٨ إلا ما توارثوه من خطاب إعلاميين وسياسيين يفتقرون للمعرفة الدقيقة والصدق والتحليلات الموضوعية المبنية على البحوث ودراسات علمية ووثائق» (ج٢ صفحة ١٤٩) وهكذا ترى نفسها العارفة بالتفاصيل والملمة بالحقائق والقادرة على التحليل الصائب، بعكس أغلبية المثقفين والسياسيين، فما نصيب هذا في سيرتها وبعض رواياتها؟
لطالما كررت سحر في جزئها الثاني من سيرتها نعت نفسها بأنها باحثة «أما أنا ككاتبة وباحثة وروائية.. «(ص ٢٢٨) و»وبفضل ما بدأته من بحث عن الأبطال والثورات والانتكاسات وتكرار الهزائم، قررت البحث عن ملحمة سعادة. فمن هو في الحقيقة أنطون سعادة؟ ... بدأت بحثا استمر عدة سنوات أنهيتها (هكذا؟) برواية صدرتها بمقولة رائعة من مقولاته...» (ص ٢٣٣ و ٢٣٤)، وكانت في صفحات أسبق كتبت «وحتى لا أتهم بالتخيل والاختلاق والتلفيق، راعيت أن أوثق سردي ومشاهدي وأقوال شخصياتي بهوامش مدرجة في نهايات الصفحات، وهو ما لم نعتده في كتابة الروايات..»(ص ١٥٢) (هل حقا لم نعتد هذا في كتابة الروايات؟ ماذا عن روايات فلسطينية سابقة لكنفاني وحبيبي؟).
ولأنها تنعت نفسها بالباحثة وتسبغ الصفات وتمنح الألقاب على من يوافق في رؤيته رؤيتها، لا بد من فحص بعض هذا والنظر في سيرتها وبعض رواياتها.
الروائية التي أنفقت من عمرها بضع سنوات تبحث عن حياة أنطون سعادة، لتكتب عنه رواية، تكتب:
«ألم يقولوا عنه الحالم المغامر المقامر المناوئ لحركتنا القومية بقيادة البعث وعبد الناصر» (٢٣٣) وتنسى أنه أعدم في ٨ / ٧ / ١٩٤٩ يوم لم يكن أحد يسمع بعبد الناصر، وهي نفسها التي تكتب إنها زارت غزة في العام ١٩٨٨ فأصغت إلى حيدر عبد الشافي يقول، «إن على القيادة الفلسطينية أن تكون حذرة، فلا تنجر لأخذ موقف مساند لأي طرف في حرب الكويت - العراق ١٩٩٠، حتى لا يحل بالفلسطينيين ما حل بنا في الأردن عام ١٩٧٠ وفي لبنان عام ١٩٨٢»، وهي نفسها التي تكتب «بعد اتفاقية أوسلو ودخول السلطة، أقيمت الحواجز حولنا، وما عاد بإمكاننا الوصول إلى غزة، ولا حيفا ويافا والجليل، وأيضا القدس، إلا بتصاريح، وعبر بوابات حديدية وأسيجة يحرسها جنود برشاشات وبنادق»، وزيارة هذه الأماكن بتصاريح بدأ في العام ١٩٩٢ قبل مجيء السلطة.
هل اقتصرت هذه الأخطاء، وغيرها لم أذكرها، على سيرتها؟
لعلني أقدم قريبا قراءة لروايتها الأخيرة «الجسر» الصادرة في ٢٠٢١.