ارتبطت فكرة أو تخيل تعدد الزوجات في مدن الشرق الأوسط بفترة ما قبل الحداثة، وعلى الرغم من أن هذه الصورة روجت كثيرا في الدراما بالأخص، إلا أنها أيضا كانت وليدة كم كبير من الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية، التي صورت المدينة العربية بوصفها مدينة (أولاد العم) وفق تعبير الأنثروبولوجية الفرنسية جيرمين تيليون، في إشارة لزواج الفتيات بأولاد العم، وتعدد الزوجات.
وقد شهدت هذه الرؤية مراجعات عديدة، إذ لاحظت مثلا المؤرخة الأمريكية مارغريت ميرويثذر في كتابها المهم «القرابة الحقة: العائلة الحلبية والمجتمع في العهد العثماني» أن فكرة الزواج بأولاد العم لم تكن دارجة في مدينة حلب في القرن الثامن عشر، كما تبين لها من خلال قراءتها لعينة من سجلات المحاكم الشرعية، أن تعدد الزوجات في المدينة آنذاك لم يتجاوز 2% ـ 3%، وأن كثيراً من هذه الحالات جرت بعد وفاة الزوجة الأولى، أو جراء إصابتها بعلة ما. وعاد قبل فترة سنوات الأنثروبولوجي اللبناني نادر سراج ليخبرنا من خلال قراءته لتاريخ وسيرة عائلة أفندي الغلغول/ آل هاشم الجمال البيروتية، أن الزواج بزوجة ثانية لم يكن سائدا بشكل كبير في مدينة بيروت الصغيرة والمحافظة في القرن التاسع عشر، وأن تعدد الزوجات في سيرة العائلة، الذي عادة ما يربط بفكرة ما قبل الحداثة، يعود لسفر أولاد الأفندي إلى بلدان أخرى، واندلاع الحرب العالمية الأولى، التي ساهمت في تفكك بعض العائلات جراء الظروف الاقتصادية والهجرة.
واللافت أيضا في هذا السياق هو أن مدينة مثل دمشق، التي ظهرت من خلال مسلسلها الشهير (باب الحارة) باعتبارها مدينة تعدد الزوجات والطلاق، نراها في شهادة المؤرخ عفيف البهنسي غير ذلك، إذ يوحي البهنسي ابن حي الشعلان، إلى أن الزواج بزوجة ثانية كان دارجا فقط في العائلات التقليدية الممتدة خلال الخمسينيات من القرن العشرين، وهو ما يعني أن هناك ظروفاً اقتصادية أو اجتماعية، هي التي دفعت لتطور فكرة تعدد الزوجات في عدد من المدن العربية.
زوجات وبنات الخديوي
ولعل التركيز على فكرة تعدد الزوجات بوصفه نتاج الظروف العامة، بدلا من فكرة وجود نظام زواج أبدي خاص بالشرق الأوسط، هو الذي سيكون محل دراسة وافية ومهمة من قبل المؤرخ الأمريكي كينيث كونو في مؤلفه (الزواج والحداثة.. الأسرة والأيديولوجيا والقانون في مصر في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين)، ترجمة سحر توفيق، المركز القومي للترجمة. والمؤلف كونو هو صاحب كتاب «فلاحو الباشا»، الذي حاول من خلاله دراسة علاقة الحداثة وتأثيراتها على حياة الفلاحين، ولذلك قرر في هذا الكتاب استكمال أبحاثه عن الحداثة والمجتمع في مصر، لكن هذه المرة من خلال ذاكرة الزواج والعائلة، وهو ما يمثل تطورا جديدا في الكتابة التاريخية عن مصر والمنطقة عموما. يرى كونو أن نظام الزواج المعاصر لدى المصريين بدأ يتطور في أواخر القرن التاسع عشر، بالتوافق مع نشأة أيديولوجية جديدة خاصة بالعائلة، وبدأ تعدد الزوجات في الطبقات العليا من المجتمع يقل توارده في الربع الأخير بالزواج الأحادي، وبعد الحرب العالمية الأولى، تخلت الطبقة الحضرية العليا والوسطى عن المساكن الكبيرة للعائلات متعددة الأسر، وأصبحت تفضل عوضا عن ذلك الانتقال إلى منزل أصغر. كان مؤرخون مثل جوديث تاكر وخالد فهمي، قد وجدوا أن معظم العائلات والنساء في مصر تأثروا سلبيا بالتحولات الاقتصادية والسياسية للقرن التاسع عشر، وهي قراءة يعتقد المؤرخ كونو أنها ظلت متأثرة بالدراسات الماركسية والنسوية عن تطور الرأسمالية، ووطأة الاستعمار، والحالة الشكية تجاه الخطاب القومي الحداثي، ولذلك نرى في كتابه محاولة للقطيعة مع هذه الرؤى لصالح رؤية أكثر تصالحية مع واقع القرن التاسع عشر، ودوره أحيانا في تصحيح علاقات الزواج، وهو ما انعكس إيجابيا على النساء بشكل أخص.
الزواج الأحادي والحضرنة
يلاحظ كونو أن التحول في مؤسسة الزواج والاقتراب أكثر من فكرة الزواج بزوجة واحدة، بدأت أولى ملامحها تظهر داخل الأسرة الحاكمة في مصر القرن التاسع عشر. وقبل الاحتلال البريطاني لمصر بفترة طويلة عمل حكام مصر على استمالة الرأي الأوروبي بتقديم أنفسهم كمتنورين ومتحضرين بطرق متنوعة، ومنها أساليب حياتهم العائلة، ولذلك حاول القصر إقناع الأوروبيين بأن تبني العائلة الخديوية للزواج الأحادي ناتج عن رغبتها في محاكاة الحضارة الأوروبية، لكن الواقع أن التحول الى الزواج الأحادي لم يكن غاية في حد ذاته، ولكنه كانت نتيجة تطورات مصادفة، يتعلق أهمها بالسياسات الخاصة بالسلالة الحاكمة، فمع اتخاذ الخديوي إسماعيل استراتيجية جديدة بتزويج أبنائه من بنات عمومتهم، فرض نظام الزواج الأحادي عليهم. فالزواج من أميرة عثمانية كان يقضي بعدم الزواج بزوجة أخرى، أو اتخاذ سراري نتيجة مكانة الزوجة. كما ترافق هذا التطور مع تراجع فكرة الحصول على السراري بعد حظر تجارة الرقيق في 1877، بالإضافة إلى أن إفلاس مصر آنذاك جعل من الصعب على القصر الاحتفاظ بعدد كبير من الحريم.
محمد عبده.. رائد الزواج الأحادي؟
وفي موازاة هذا التطور، يعتقد كونو أن هناك تحولا آخر جرى في نظام الزواج، ولكن هذه المرة على صعيد النخب المثقفة، ومن بين النخب التي يقف فاحصا كتابتها في تلك الفترة، يبدع كونو في التقاط أشياء جديدة كتبها محمد عبده عن الزواج في مصر. لطالما نظر لعبده بوصفه مصلحا دينيا، ولذلك أهملت أفكاره الأخرى، ومنها حول الحد من الزواج المتعدد. وقد شاركه في هذه الرؤية أيضا المثقف المصري قاسم أمين، الذي ذهب إلى ضرورة تقييد تعدد الزوجات إن لم يتم حظره. عارض محمد عبده تعدد الزوجات في كتاباته المبكرة، انطلاقا من فكرة أن الرجال لن يستطيعوا العدل بين الزوجات، كما جاء في النص القرآني، ما يتسبب في انفصال العائلة وتفتتها. وبعد عشرين سنة من هذه الرؤية عاد عبده مرة أخرى وقدم قراءة جديدة لإحدى الآيات في سورة النساء «ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما». إذ وجد أن هذه الآية وغيرها من الآيات الأخرى تحمل معنى مضمرا يعنى بإلغاء تعدد الزوجات، وفي فتوى نشرت بعد وفاته، تحدث عبده عن أولئك الذين يدافعون عن تعدد الزوجات باعتباره جزءا من الثقافة المصرية، مكررا أن ذلك ليس وقفا على الشرق، بل كان اتجاها بين الحكام والأثرياء في الممالك التي كانت فيها النساء أكثر عددا من الرجال. في المقابل طرح قاسم أمين فكرة أخرى عن الحب والزواج، فبدلا من الركون لفكرة الزواج التقليدي، وجد أن الرجل المتعلم المتزوج من امرأة متعلمة، سوف يستمر في التمتع بالجوانب الفكرية والروحية للزواج، فـ»الحب الحقيقي» له جانبان مكتملان، هما الجانب العضوي والجانب الفكري والروحي، ولكي نجد هذا الحب كما يرى أمين، من الضروري وجود تناسب بين الزوجين في تعليمها. وبذلك نرى أن نخب القرن التاسع عشر المصرية، سواء السياسية منها أو الثقافية، قد شاركت في صياغة أفكار بديلة عن تعدد الزواج، أو فكرة الارتباط بالزوجة من خلال الحب.
اللافت أن هذه الأفكار في مصر ستتراجع لاحقا لصالح أفكار تؤيد فكرة تعدد الزوجات، وتتفاعل مع (البطل الحاج متولي) ما يعني أن نظام الزواج في الشرق الأوسط لم يكن نظاما واحداً عابراً للأزمنة، وانما هو وليد التحولات الاقتصادية والسياسية والحضرية.