صدر حديثا عن دار الفكر بدمشق طبعة جديدة منقحة من الكتاب المميز :
“السلطان عبد الحميد الثاني بين الإنصاف والجحود” للكاتب محمد مصطفى الهلالي.
تأتي هذه الطبعة بتصميم أنيق ومحتوى محدث، لتعيد تسليط الضوء على سيرة السلطان عبد الحميد الثاني، أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ العثماني.
يُعد الكتاب محاولة جادة لتقديم قراءة متوازنة وشاملة لحياة وفترة حكم أحد أبرز السلاطين العثمانيين وأكثرهم إثارة للجدل، السلطان عبد الحميد الثاني. يسعى الهلالي ببراعة إلى تجاوز الثنائية التقليدية التي حكمت غالبية الكتابات التاريخية حول هذا السلطان، تلك التي تارةً ترفعه إلى مصاف الأبطال المصلحين والمدافعين عن الإسلام، وتارةً أخرى تصفه بالمستبد والمتخلف الذي قاد الدولة إلى الانهيار.
يعتمد الهلالي في منهجه على التحليل النقدي للروايات التاريخية المتعددة، متجنبًا الانحياز الأعمى لأي من الطرفين. هو لا يهدف إلى التبرير المطلق أو التجريم المطلق، بل يسعى إلى فهم الأسباب والظروف التي شكلت سياسات السلطان وقراراته. يبرز الكتاب كيف واجه عبد الحميد الثاني تحديات داخلية وخارجية هائلة؛ فمن جهة، كانت الإمبراطورية العثمانية تعاني من ضعف متراكم وتزايد الأطماع الأوروبية، ومن جهة أخرى، كانت الحركات القومية والجمعيات السرية تموج داخلها، مما فرض على السلطان ضغوطًا هائلة اتسمت بالتعقيد.
يتناول الهلالي بتفصيل إصلاحات السلطان عبد الحميد الثاني في مجالات حيوية مثل التعليم، حيث أسس العديد من المدارس الحديثة والجامعات، وفي البنية التحتية، أبرزها مشروع الخط الحديدي الحجازي الذي كان له أبعاد استراتيجية ودينية مهمة. كما يسلط الضوء على جهوده الدبلوماسية المضنية للحفاظ على ما تبقى من وحدة وكيان الدولة العثمانية في وجه المؤامرات الدولية. وفي الوقت ذاته، لا يتجاهل الكتاب الانتقادات الموجهة للسلطان، كطبيعة حكمه المركزي، وتعامله مع المعارضة، والأسباب التي أدت إلى الانقلاب عليه وخلعه.
وتكمن القيمة الأساسية لهذا الكتاب في قدرته على تقديم صورة مركبة ومتعددة الأوجه لعبد الحميد الثاني، بدلاً من الصورة النمطية أحادية البعد. يدعو الهلالي القارئ إلى التفكير في السياق التاريخي المعقد الذي عاشه السلطان، والتحديات التي لم تكن مجرد نتاج لأفعاله، بل كانت نتيجة لتراكمات تاريخية وظروف جيوسياسية أوسع. هذا العمل ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو دعوة للتأمل في التاريخ بعمق، وفهم أن الشخصيات التاريخية الكبرى لا يمكن تقييمها بمعزل عن عصورها وتحدياتها. الكتاب بذلك يقدم مساهمة قيمة لتجاوز الجدل العقيم حول شخصية عبد الحميد الثاني، نحو فهم أكثر نضجًا وإنصافًا لتاريخ الإمبراطورية العثمانية في سنواتها الأخيرة.