تخطي إلى المحتوى
من درعا إلى دمشق ثم إلى العالم.. كيف تعمل شبكات تهريب الآثار جنوبي سوريا؟ من درعا إلى دمشق ثم إلى العالم.. كيف تعمل شبكات تهريب الآثار جنوبي سوريا؟ > من درعا إلى دمشق ثم إلى العالم.. كيف تعمل شبكات تهريب الآثار جنوبي سوريا؟

من درعا إلى دمشق ثم إلى العالم.. كيف تعمل شبكات تهريب الآثار جنوبي سوريا؟

تتصاعد ظاهرة التنقيب العشوائي عن الكنوز واللقى الأثرية في محافظة درعا، بهدف الاتجار، خاصة في منطقة بصرى الشام وعلى طول الخط الحديدي الحجازي، التي تحتوي على كثير من الدفائن، حيث تتم عمليات التنقيب بأجهزة باتت تُباع علناً في متاجر خاصة تنتشر على طول الجغرافية السورية. 

تردي الظروف الاقتصادية في درعا كان البوابة التي دفعت كثيرين إلى مغامرة التنقيب، فمع غياب فرص العمل وانهيار الزراعة، تحوّل التنقيب إلى مصدر رزق سريع  رغم مخاطره القانونية والأمنية

عشرات الحالات تسجلها الجهات الأمنية في درعا أسبوعيا ضد مجهولين، سواء عن التنقيب العشوائي أو جرائم القتل نتيجة الخلافات على تقاسم اللقى أو السقوط في حفر عميقة. 

فيما يلي تقرير أعدّه موقع تلفزيون سوريا يستعرض عمل المنقبين والجهات التي تعمل في تجارة أجهزة التنقيب والآثار في محافظة درعا، وسط صمت رسمي يفتح الباب واسعاً أمام نهب التراث السوري.

 

معدات الحفر تُباع علناً.. والسوق مفتوحة للجميع

رغم أن القانون السوري يجرّم التنقيب عن الآثار دون ترخيص، إلا أن الواقع في درعا مختلف تماماً فقد وثّق فريق تلفزيون سوريا بيع التجار لأجهزة الكشف عن المعادن والذهب والكنوز بشكل علني، سواء عبر صفحات التواصل الاجتماعي أو من خلال وسطاء في الأسواق.

أحد الباعة الذين قابلهم موقع تلفزيون سوريا في دمشق قال، إن الطلب على هذه المعدات ارتفع بشكل غير مسبوق خلال العامين الأخيرين.

وأضاف: "يأتينا زبائن من جميع المحافظات السورية وبشكل خاص من محافظتي درعا ودير الزور، بعضهم يبحث عن الكنوز الرومانية، وآخرون عن الذهب المدفون".

وتابع أنّ أسعار أجهزة التنقيب في المتجر تبدأ من 5000 دولار وتصل إلى نحو 9000 دولار، حسب العمق الذي يستطيع الجهاز كشفه، والذي يتراوح بين مترين وعشرة أمتار، أما استئجاره فيتراوح بين 400 إلى 800 دولار أسبوعياً.

اطلع موقع تلفزيون سوريا على الأجهزة والتي غالبها كان صناعة تركية، أو صينية، أو ألمانية، وتُباع مع كتيبات تعليمية وبرامج مخصصة لتحديد الإشارات المعدنية. 

ويشير البائع ذاته إلى أن بعض الزبائن يطلبون أجهزة أكثر تطوراً قادرة على تحديد المعادن الثمينة فقط وهي الأغلى ثمناً والأكثر طلباً لدى المنقبين المحترفين. 

أماكن انتشار التنقيب وتصريف القطع

تواصل موقع تلفزيون سوريا مع أبو محمود "اسم مستعار" تاجر سابق للكنوز وقطع أثرية في محافظة درعا، رفض الكشف عن اسمه، والذي كان يعمل في التنقيب عن الدفائن  لأكثر من خمس سنوات، ويعمل حالياً في تأجير أجهزة التنقيب مقابل تقاسم الأرباح. 

ويشير  أبو محمود إلى أن أماكن التنقيب حالياً تنشط بشكل كبير في قرى ريف السويداء الغربي لكونها أماكن شبه مهجورة، وأيضاً في منطقة بصرى الشام بالمواقع الأثرية الرومانية. 

عملية بيع الآثار لا تتم بشكل عشوائي، إنما تدار من قبل شبكات منظمة تعمل على شراء القطع المكتشفة ونقلها إلى العاصمة دمشق، حيث تُعرض القطع على تجار كبار يملكون قنوات تهريب للخارج. 

ويقول التاجر السابق أبو محمود خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا: "التاجر في دمشق هو الحلقة الأهم، نتواصل معه عبر وسطاء، نرسل صور القطع عبر التليغرام، وهو يحدد السعر الذي يتراوح بين 3000 و7000 دولار أو أكثر إذا كانت القطعة ذات قيمة أثرية كبيرة". 

ووفقاً لأبو محمود فإن معظم هذه الشبكات كانت توظف عمالا منقبين مقابل 600 دولار شهرياً، وحصة 10 في المئة من أرباح بيع القطع الثمينة، مشيراً إلى أن الشبكات التي تدير شراء وتهريب الآثار كانت تتعاون مع العناصر الأمنية التابعة للنظام السوري السابق لتسهيل عمليات التهريب. 

كما نشطت شبكات في درعا كانت تتعامل بشكل مباشر مع تجار من خارج البلاد، وتدفع بشكل دوري للجمارك من أجل تسهيل عمليات التهريب. 

استغلال الظروف الاقتصادية لعمالة التنقيب 

أبو سمير "اسم مستعار" لأحد الأشخاص الذين يعملون لصالح تاجر كنوز في محافظة درعا، مقابل أجر مادي رفض تحديده وحصة من الأرباح. 

لم يكن خيار التنقيب عن الذهب واللقى خياراً سهلاً، لأبو سمير، لكنه أصبح وسيلة للبقاء على قيد الحياة بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية في المحافظة، إذ يزعم أنه اضطر للعمل في التنقيب، من أجل "تأمين مستقبل أولاده"، بحسب تعبيره. 

ويقول أبو سمير في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، "إن أغلب الدفائن التي يعثرون عليها هي أوان ذهبية قديمة، وتحف معدنية أثرية، إضافة إلى قطع حجرية أثرية تظهر خلال الحفر". 

ويفضل أبو سمير العمل مع تاجر، كون التجار لديهم خبرة حول أماكن توزع الدفائن، كما يرى أن العمل لصالح تاجر مهم لأنه يحميه من مخاطر التعرض لجرائم القتل والتي تكثر بسبب التنقيب. 

انتشار الجرائم بسبب تقاسم "الغنائم"

تنتشر جرائم القتل بسبب أعمال التنقيب عند العثور على الدفائن وتقاسم الثروة، خاصة عندما يستأجر جهاز التنقيب عدد من الأشخاص باتفاق مسبق على اقتسام ما يتم العثور عليه.

غالباً ما تبدأ القصة باتفاق بسيط بين مجموعة من الأشخاص لاقتسام ما يعثرون عليه من "غنائم" بعد استئجار جهاز كشف المعادن أو التنقيب، لكن سرعان ما تتفكك هذه الشراكة عند لحظة العثور الفعلي على شيء ذي قيمة، حينها، يبرز الطمع وسوء الثقة، لتتحول الليالي التي يقضونها معاً في الحفر إلى مسرح لجريمة قتل أو اختفاء غامض.

تاجر سابق بالآثار يدعى"أبو محمود" قال لموقع تلفزيون سوريا إنّ "التنقيب عن الكنوز كثيراً ما ينتهي بصراع عائلي أو بجرائم قتل، خاصة عندما تكون هناك شراكة بين أقارب أو أصدقاء، كل واحد يريد أن يحصل على الحصة الأكبر أو يحتكر ما تم العثور عليه". 

وأضاف أن بعض القصص في ريف السويداء ودرعا بدأت بخطة بسيطة للبحث عن دفائن، وانتهت بتصفيات داخل العائلة أو بين شركاء الحفر.

وأشار أبو محمود إلى أن بعض الذين يمولون عمليات التنقيب يعمدون إلى استئجار عمال بأجور يومية، لكنهم يبرمون معهم اتفاقات غير واضحة حول تقاسم العائد في حال العثور على كنز، مما يفتح الباب لاحقاً لمواجهات عنيفة أو ابتزاز متبادل، وغالباً ما تبقى هذه القضايا بعيدة عن أعين السلطات، لكونها تتم سراً وخارج أي إطار قانوني.

حالات ضد مجهولين 

مصدر أمني في درعا، قال لموقع تلفزيون سوريا، إن الجهات المختصة تضبط أسبوعياً حالات سرقة آثار نتيجة تنقيب عشوائي، إضافة إلى حالات وفاة لأشخاص سقطوا في حفر عميقة. 

كما أوضح أن معظم جرائم القتل الناجمة عن الخلافات على الدفائن، لا تعرف بها الجهات الأمنية، وإن علمت فتسجل الدعاوى ضد مجهولين نتيجة تكتم أهالي الضحايا عن أسباب الجريمة تجنباً لفتح تحقيقات حول شبكات التنقيب وتهريب الآثار. 

وأشار المصدر إلى أن الجهات المختصة في درعا تعمل بكامل طاقتها لكشف شبكات تنقيب وتهريب الآثار، لكن نتيجة الفراغ الأمني الذي سببه سقوط نظام الأسد، باتت الشبكات تنشط بشكل كبير، مما يربك الكوادر الأمنية في ملاحقتها. 

التنقيب عن الآثار في القانون السوري 

والتنقيب عن الآثار دون ترخيص جريمة يعاقب عليها القانون السوري بحسب قانون الآثار رقم 222 لسنة 1963 وتعديلاته، وتترتب عليها عقوبات جزائية ومدنية قد تصل إلى السجن والغرامات ومصادرة المعثور عليه والمعدات المستخدمة.

ويُعتبر التنقيب أو الحفر أو البحث عن الآثار دون ترخيص عملاً محظوراً ويُعدُّ جريمة، ولو حصل في أملاك خاصة، لأن الآثار ملك للدولة، ويعاقَب مرتكب التنقيب غير المرخَّص بالحبس وغرامة مالية. 

وتُشدد العقوبة إذا ترتب عن التنقيب تخريب أو إتلاف للأثر لتصبح عقوباتٍ أشد قد تصل إلى مدد سجن طويلة وغرامات كبيرة، كما يُعاقَب كلّ من اقتنى أو أخفى أو هرب أو تاجر بأثر مكتشف بطرق غير شرعية بالحبس والغرامة ومصادرة الأثر، وتُصادر كذلك الوسائل والأدوات المستعملة في الجريمة.

فبحسب قانون الآثار السوري في المادة 28 منه، تعد الآثار المنقولة وغير المنقولة المكتشفة مهما كان تاريخها من أملاك الدولة، أما الأرض نفسها إذا ثبت أنها تحتوي على موقع أثري فبحسب المادتين 21 و22 من قانون الآثار، تصبح ملكاً للدولة مع تعويض مالكها مادياً. 

وبحسب المادة 57 من قانون الآثار، تمتد فترة عقوبة التنقيب غير المرخص "من سنة إلى ثلاث سنوات حبس مع دفع غرامة مالية، وتشدّد العقوبة لتصل إلى الحبس من خمس إلى عشر سنواتٍ إذا وقعت الجريمة ضمن موقع أثري أو ترتبت عليها أضرار جسيمة. 

تدمير تاريخ وهوية سوريا

الباحث في علم الآثار حسام العبد الله، خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا، يعتبر أن التنقيب غير الشرعي عن الآثار ليس مجرد جريمة بحق القانون، بل هو جريمة بحق الإنسانية جمعاء وسرقة لذاكرة الشعوب، ويمثل كارثة ثقافية صامتة تدمر تاريخ سوريا المشترك.

ويرى أن عصابات التنقيب غير الشرعي لا تسرق مجرد "أشياء قديمة"، بل تمحو صفحات كاملة من التاريخ البشري بشكل لا يمكن استعادته أبداً، إذ عندما يحفر لص آثار موقعاً بحثاً عن قطعة قابلة للبيع، فإنه يدمر السياق الأثري الكامل، تلك القطعة الذهبية أو التمثال الذي يُباع في السوق السوداء كان جزءاً من منظومة معرفية متكاملة، أين وُجد بالضبط؟ بجانب ماذا؟ في أي طبقة أثرية؟ كل هذه المعلومات تضيع للأبد. .

ويحذر العبد الله من أن استمرار الظاهرة قد يؤدي إلى "اختفاء ذاكرة درعا التاريخية بالكامل"، داعياً إلى تدخل المنظمات الدولية لحماية المواقع الأثرية في الجنوب السوري

كما دعا إلى وضع قوانين أشد، وعقوبات رادعة، إضافة إلى ضرورة تعاون دولي حقيقي، يتمثل برفض مطلق لشراء أي قطعة أثرية بلا مصدر موثق، وتوعية المجتمعات المحلية بقيمة تراثها. 

ويعتقد العبد الله أنه بين الحاجة والجشع، وبين الفقر والنهب، يتحول الجنوب السوري تدريجياً إلى ورشة مفتوحة لسرقة التاريخ، وما لم تُتخذ إجراءات حقيقية لوقف هذا النزيف، فقد تستيقظ الأجيال القادمة على أرضٍ بلا ذاكرة، وبلادٍ باعت ماضيها في سوقٍ سوداء لا تعرف حدوداً.

المصدر: 
تلفزيون سوريا