تخطي إلى المحتوى
العلمانية تحت المجهر .. (د. عبد الوهاب المسيري ـ د. عزيز العظمة ) العلمانية تحت المجهر .. (د. عبد الوهاب المسيري ـ د. عزيز العظمة ) > العلمانية تحت المجهر .. (د. عبد الوهاب المسيري ـ د. عزيز العظمة )

العلمانية تحت المجهر .. (د. عبد الوهاب المسيري ـ د. عزيز العظمة )

بمناسبة صدور الطبعة الجديدة من كتاب : العلمانية تحت المجهر ( حوارات لقرن جديد)

تأليف د. عبد الوهاب المسيري  ـ د. عزي العظمة 

ننشر القراءة الهامة للصحافي السوداني حاتم الكتاني والتي نشرت على موقع صفحات " مداميك " 

 

صدر هذا الكتاب – الذي نحن بصدد عرضه – منذ عشرين عاماً، في سبتمبر 2000م، ورغم أنَّ كثيراً من الأحداث السياسية تلت مساجلة المُفكِّرَيْن د. عبد الوهاب المسيري ود. عزيز العظمة، إلا أنَّ القضايا التي تناولاها ما زالت تلامس الواقع الحي لما بعد فترة الربيع العربي، والثورات التي تلتها. وما زال واقعنا السوداني، الفكري والسياسي، يمور بمساجلات في ذات الموضوع (العلمانية وفصل الدين عن الدولة). سنتناول في عرضنا هذا حصيلة كلٍّ من المُفكِّرَين البارزَيْن حول العلمانية، ونقاط اختلافهما واتفاقهما في ضبط المُصطلح وتاريخه وتأثيره على المجال السياسي والفكري بالمنطقة، والكتاب عبارة عن مناظرة رفيعة بين المفكر والمؤرخ المصري ذي التفرعات المعرفية، والمتخصص في التاريخ والأدب الصهيوني، عبد الوهاب المسيري، والمفكر السوري عزيز العظمة. صدر الكتاب من دار الفكر المعاصر بلبنان، في العام 2000 في (335) صفحةً من القطع المتوسط، واحتوى على مُساجلات عميقة بين المفكرين.  

عبد الوهاب المسيري:

طبقاً لما يُقدِّمُ من نموذجٍ مُركَّبٍ للعلمانية ذي دائرتين (شاملة وجزئية)، يُعيد د. عبد الوهاب المسيري، تعريف العلمانية بالوصول إلى نموذج تعريفيٍّ كامنٍ وراء المُصطلح أكثر تركيباً وشمولاً وتكاملاً من النموذج السائد، مُفكِّكاً نموذج المشروع التحديثي الغربي عند ماكس فيبر مناقشاً عبارة (نزع السحر عن العالم)، بالإضافة إلى نماذج من الكُتَّاب في الإقليم العربي مثل: محمد عبد السلام، وجلال أمين، وعزيز العظمة، ووحيد عبد المجيد، ومحمد عابد الجابري، وفهمي هويدي. ويُلقي عبد الوهاب المسيري نظرةً تاريخيةً على مصطلح العلمانية (secularism)، ويقول إنَّ أول استخدامٍ لها كان مع نهاية حرب الثلاثين عاماً (عام 1648م)، عند توقيع (صلح وستالفيا) وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة، ثم بدأت الكلمة تتجه نحو مزيدٍ من الإبهام والتعقيد على يد جورج هوليوك (1817 – 1906)، فعرَّف العلمانية بأنَّها (الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدِّي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض)؛ لكن المسيري يعتقد أنَّ حديث (إصلاح حال الإنسان) ليس حديثاً مُحايداً كما يبدو للوهلة الأولى، فهو يفترض وجود نموذجٍ مُتكاملٍ ورؤيةٍ شاملةٍ للإنسان والكون. ويتساءل المسيري: “هل مثل هذه المنظومة تُضاف إلى العلمانية أم أنَّها جزءٌ لا يتجزَّأ منها؟ وهل الأمر متروكٌ لكُلِّ إنسانٍ أو مُجتمع أن يختار مثل هذه المنظومة؟ وإن كان جزءاً عضوياً من العلمانية أي النموذج الكائن وراء المصطلح، فهل حدَّد هوليوك السمات والملامح الأساسية لهذا النموذج؟”. ص 13 ويواصل تساؤله: “هل هو إنسان مادي طبيعي؟”، ويقول: “إنَّ المصطلح الذي تصور هوليوك أنَّه محايدٌ ليس محايداً؛ فهو يشير من طرف خفي إلى رؤية شاملة للكون وإلى منظومة قيمية انسلخت من الإيمان الديني وتبنَّت الطرق المادية”. ص 13. (عبد الوهاب المسيري) ثم يشير المسيري إلى تطورٍ لاحقٍ على مفهوم العلمانية بأنَّها (فصل الدين عن الدولة)، لكنَّ العبارة تحصر عمليات العلمنة في المجال السياسي أو الاقتصادي، ولا تشير إلى النشاطات الإنسانية الأخرى. ويذهب إلى أنَّ عملية فصل الدين عن الدولة موجودةٌ في جميع المجتمعات، باستثناء بعض المُجتمعات المُوغلة في البساطة والبدائية، مستشهداً بقول النبي: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”؛ ويواصل: “حصر بعضهم نطاق العلمنة في هذه الدائرة الضيقة وحسب، واستبعدوا الدائرة المعرفية المرجعية الأشمل”. ص 16 ويضيف: “تعريف العلمانية على هذا النحو يتجاهل قضية المرجعية الأشمل والنموذج الكامن وراء المصطلح، إذ لا بد أن نسأل عن الإطار المعرفي الكلي أو النهائي الذي تتم في إطاره علمية الفصل”. ويعتبر المسيري أنَّ هذا أدَّى إلى خللٍ كبيرٍ بتصوير العلمانية بأنَّها تشير إلى مجموعةٍ من الإجراءات، وكأنَّ الأمر حُسم؛ فهناك – بحسب المسيري –  من يستخدم المصطلح مشيراً إلى عملية فصل الدين عن الدولة في إطار غير مادي، وهناك من يستخدمها للإشارة إلى عملية الفصل باعتبارها تبدِّياً لمنظومةٍ ماديةٍ نسبية، وكلاهما يستخدم نفس الكلمة وكأنَّها تعني نفس الشيء. ويضيف: “بالإضافة إلى هذا الخلل التاريخي للمُصطلح وتحرُّكه بين دائرتين (جزئية وشاملة) نجد أنَّه قد تقلَّص نطاقه نظراً لأنَّ بعضهم يظن أنَّ العلمانية ليست ظاهرةً تاريخيةً شاملةً كاسحة، وإنَّما هي مجموعة أفكار تتم إشاعتها والتبشير بها مثل الهجوم على الكتب المُقدسة أو المطالبة بالحرة المطلقة أو إشاعة الإباحية”. ص 18 ويضيف المسيري موضحاً: “قد يكون من المفيد أن نُذكِّر أنفسنا بأنَّ كل شيء أو ظاهرة أو فكرة … يُجسِّد نموذجاً حضارياً متكاملاً ويستند إلى رؤيةٍ شاملةٍ تحوي داخلها إجابةً عن الأسئلة النهائية التي تواجه الإنسان”. ص 20 ويقول: “العلمانية متتالية مركبة غير محددة المعالم، مجهولة الحلقات، وليس لها وجودٌ خارج واقع اجتماعي حضاري محدد”. ص 20 ويشير المسيري إلى أنَّ هناك دائرتين للعلمانية إحداهما صغيرة وتتبدى في علمنة معالم الحياة الخاصة والإجراءات السياسية والقانونية والاقتصادية، ودائرة كبيرة مختصة بعالم القيم النهائية؛ ويقول: “نجد أنَّ علم الاجتماع الغربي لم يدرك العلمانية باعتبارها رؤيةً شاملةً للكون وإنَّما باعتبارها فكرةً ضمن عددٍ كبيٍر من الأفكار”. كما يشير أيضاً إلى أنَّ مصطلح العلمانية عندما انتقل إلى المعجم اللغوي العربي صار أكثر اضطراباً واختلالاً لأنَّه عندما ينقل مصطلح من معجم حضاري إلى آخر فإنَّه يحمل آثاراً قوية من سياقه الحضاري السابق الذي يظل مرجعيةً صامتةً له؛ هذا فضلاً عن أنَّ هذا المصطلح – كما بيَّن – مختلطُ الدلالة في معجمه الحضاري الغربي. وينتقد المسيري أشكال الحوار الدائر بين النخب حول العلمانية من الطرفين، واستغراقه في نشأتها وأصالتها؛ فالطرف الأول (المتدينون) يصف العلمانية بالكفر والإلحاد، أما أتباعها فيُضفون عليها كُل ما يبدو جميلاً، وإن من يقف ضد العلمانية – لديهم – فهو ظلامي ويقف ضد الحتمية التاريخية. ويلاحظ المسيري أنَّ كثيراً من المُفكِّرين العرب يحاولون أن يتقبَّلوا الجوانب الإيجابية للمنظومة العلمانية، وتأخذ محاولتهم عادةً شكل تضييق نطاق مصطلح العلمانية إلى الحدود الجزئية على أن تترك الأمور النهائية وشأنها كقضية مفتوحة. وأيضاً لاحظ أنَّ هناك مفكرين محسوبين على الاتجاهات الإسلامية – يستشهد بفهمي هويدي –  يُبدون القبول بشرعية التيار العلماني المعتدل المتصالح مع الدين الذي يتحفَّظ على تطبيق الشريعة الإسلامية، لأنَّ المنتمين لهذا التيار يحسبون أنَّ هذا التطبيق قد يهدد قيماً يُدافعون عنها.

  عزيز العظمة:

يذهب عزيز العظمة إلى أنَّ العلمانية في المُحيط العربي والإسلامي؛ تُعامَلُ بخفَّة مفهومية تفتقر إلى الدقة؛ هذا بالإضافة إلى الاستخدام السِّجالي المُندرج في الظروف المحلية والسياسات الآنية، ويعزو ذلك لأسباب مُتعلِّقة بعدم استقلال حيِّز المعرفة عن السياسة والحركات الاجتماعية، خاصة أنَّ المجتمعات العربية – بحسب العظمة – “لم تتبنْيَنْ تَبنيُناً تاريخياً طويل الأمد”. ويُقرِّر أنَّ “هناك تسرعاً وتسطيحاً يُلاحق مفهوم العلمانية وحصرها في نشوئها عن صراع الدين والدولة في أوروبا، وأنَّ انتشارها في الوطن العربي إنَّما جاء بصفته أمراً مستورداً من تاريخ آخر اتصل بها عبر سيطرة وقهر”. ص 155 لكنه يعتبر أنَّ العلمانية ليست فكرة فحسب، أو مجموعة من النواميس، لكنها عمليةٌ تاريخيةٌ بالغة التعقيد. ويتطابق لديه المصطلحان: العلمانية والحداثة، من حيث أنَّهما ليسا بالوصفة الجاهزة القابلة للاختزال، بل يعتبرهما تسميةً لتطورات موضوعية في التاريخ السياسي والاجتماعي، ويقول: “إنَّ زمن الحداثة لو كان في الواقع ذا منشأ أوروبي، إلا أنَّه أدَّى إلى تحوُّلات بالغة السعة والعمق في جُلِّ أرجاء المعمورة، وقد كان العامل الحاسم في عمليات تحوُّل الدولة الحديثة ذات المنشأ الأوروبي … التي توطنت لدينا عندما أدركت الدولة العثمانية … أنَّ الإصلاح الداخلي وتوطين بعض نماذج التنظيم السياسي والإداري الغربية ومُكمِّلاتها القانونية والتربوية والثقافية والعقلية شأن ضروري للبقاء”. ص 159 وبذلك؛ فإنَّ المقصود بالعلمانية عنوانٌ جامعٌ لجملة القوى والتحولات والتصورات والمؤسسات التاريخية. ويتابع العظمة: “إنَّ الأمارات كتولي معالم المدنية زمام النظام القضائي وإزاحة المحاكم الشرعية عن مركز الصدارة.. يجب أن تُعتبر مؤشرات على الاندراج في زمانية خارجية وتاريخ آخر … بل إنَّها تحولاتٌ محليةٌ موضوعيةٌ بغض النظر عن الباعث عليها”. ص 161 وبالتالي؛ فإنَّ عزيز العظمة لا يعتبر العلمانية شعاراً سياسياً، ولكنها اندراجٌ ضمنيٌّ في حركة المجتمع والفكر في عصر الحداثة. ويصف التحولات المُتسارعة في المحيط العربي والاتجاه نحو العلمانية بصورة متسارعة، مُستشهداً بقولة ابن خلدون: “خلقٌ جديدٌ ونشأةٌ مستأنسة”. ويعود ليقول: “إنَّ العلمنة ليست خياراً أيديولوجياً بقدر ما هي واقعٌ تاريخيٌّ موضوعيٌّ وعالميٌّ في آن”. ص 168 ويردُّ العظمة على النُّقَّاد المُصرِّين على أنَّ العلمانية نشأت نتيجةً للتاريخ الغربي المُفارق، ولصراع الكنيسة والدولة، بينما – حسب اعتقادهم – لم تشهد المنطقة العربية صراعاً بين الكنيسة والدولة، لغياب الكنيسة عن تاريخنا وواقعنا، ويرد على ذلك بقوله: “ليس صحيحاً أنَّه لا توجد في تاريخنا كنيسة بل وُجِدَتْ وما زالت تُوجد فيه كنائس تابعة للطوائف المُختلفة”. ويواصل: “أما بالنسبة للإسلام، فإنَّ علماءه خصوصاً منذ العهد السلجوقي، ثم الأيوبي والمملوكي، كوَّنوا مُؤسسة سيسيولوجية وعلمية وعبادية سيطرت على مجال التشريع والقضاء والتربية … والأوقاف وأحوالها”. ص 170 – 171 ( (عزيز العظمة) ويُقرِّرُ العظمة أنَّ العلمانية في تواريخها المُختلفة، لم تكن مُناهضةً للدِّين بقدر ما أنَّها مُهمِلةٌ له، ذلك على الرغم من وجود تيارات إلحادية مُناهضة عبر الحقب المُختلفة، لكنها لم تكتسح صفحة المجتمع؛ فعند الكافة “الدين لله والوطن للجميع”، ويقول: “كانت العلمانية ضمنيةً دونما جلبة ودونما وعي فعلي بالذات، إلا في الأوضاع التي أدَّى فيها خروج الدينيِّين عن الاستكانة للواقع ومُجاراته إلى نهج أيديولوجي تعبوي وعدواني ضد الواقع” ص 175، ويستشهد “بما أحدثه فكر الإخوان المسلمين وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين، وما تُطالِبُ به الحركات الإسلامية ما أدى إلى انتقالها من مجال المجتمع إلى مجال السياسة العامة، جاعلةً من كُلِّ تحول اجتماعي مُطابق للتاريخ مثلبة تستدعي السجال ثم العنف”. ص 177 ويمضي العظمة إلى انتقاد خطاب الهوية، ولكن قبل ذلك يشير إلى نقطتين أعتبرهما جديرتين بالاهتمام: “الأولى هي مصداقية القول بأنَّ المُجتمعات الإسلامية مطبوعةٌ على التدين؛ والثانية الخطاب الأيديولوجي الباعث على هذا القول، أي إنَّ المجتمعات العربية ثابتةٌ على قواعد سلوكية وعقلية وتنظيمية لم تمسها تحولات القرنين السابقين”. ص 181 – 182 ويستشهد في استعراضه وانتقاده لمشكلة الهوية بالحالة السورية قائلاً: “ليس هناك معنى محدد في القول بأنَّ لسورية مثلاً هوية إسلامية، فلا شك أنَّ المسيحية العربية قد أخذت الكثير من الإسلام كما أنَّ الإسلام – العثماني – قد امتص من محيطه طابعاً بيزنطياً، تمثَّل في التنظيم الديني وعلاقة الدين والدولة على وجه الخصوص” ص 185، ويتساءل: “أين المسيحية الصافية الأصيلة؟ وأين الإسلام الأصيل؟”. ص 185 ويواصل: “ليست العادات الاجتماعية أو الفلكلور الديني المُمارس يومياً بالأمور الدالة على الإسلام بصورة حصرية”، ويقرر أنَّ شأن الهُويَّة بالغ التعقيد وليس لفرد أو مجتمع هوية واحدة حصرية تستمر ولا تتحول وتتجانس دون تنوع. ويلاحظ العظمة أنَّ سياق العولمة يشي بالتحول من التنمية إلى إيلاء المجتمع والثقافة إلى مجالات تحتويها كالأصالة والهوية، المأخوذة باعتبارٍ بالغٍ التشنج … وهو ما يُؤدِّي – بحسب العظمة – إلى تذوق واستساغة ما قبل حداثيَّيْن تعبيراً عن الخصوصية والجزئية والهامشية، ويقول: “ما قبل الحداثة هذه على وجهين: وجه إيجابي يستجلب الإعجاب ويتداعى مع الحساسية تجاه البيئة .. ووجه عنصري سلبي يرى في ما قبل الحداثة أزلاً مقدراً”. ص 198 وفي سياق ذلك؛ يتساءل العظمة: “لماذا يجري وأد العقل النقدي والقبول بالمقالة الذاهبة إلى أنَّ إقامة دولة إسلامية ليس إلا التعبير السياسي عن طبيعة إسلامية، طبيعة تسبق التاريخ وواقع المجتمع المُتحوِّل والمعقد؟”. ص 185  

المصدر: 
مداميك