يعتقد بعض القراء أن الكتابة مسألة متاحة للأدباء في معظم أوقاتهم، وبسهولة شبه دائمة. وغالبًا ما يقيّمون الكاتب، وتفاصيل معيشه، وطقوسه الإبداعية من زاوية رومنسية خالصة، تتعاطى مع الكون بوعي وردي، حميمي، لا يرى إلا جماليات اللحظة، بعيدًا عن أسس الحياة التي تعتمد على علاقة المتضادات ونتاجاتها التأويلية على وعي الإنسان، مثل: علاقة الحزن بالفرح، والليل بالنهار، والماء الراكد بالماء المتحرك، والألم باللذة.
الكتابة ليست مجرد موهبة؛ إنها على الأغلب ردة فعل جوَّانية على الواقع الذي يراه الكاتب مخالفًا لتطلعاته الثقافية، والسياسية، والفكرية، والاجتماعية، والذاتية. إن الكاتب كائن قلق، يفتقر لذلك الرضى الطبيعي عن نفسه، وعن الواقع بكل مستوياته. بل أن هناك من يرى أن الكاتب كائن غير سوي تمامًا، كائن مجروح في وجدانه، وكل ما يقوله هو محاولة لتضميد هذا الجرح؛ لهذا يتمسك بالشرارة-شرارة الكتابة-منذ إحساسه الأول بها، ويمضي في التعاطي معها كمن يعثر على جسر نجاة أمام سيل جارف، رغم أنها تكبر وتصبح جمرة مثلما تمنحه الدفء في أوقات البرد الداخلي، تصيبه بالحروق في أوقات أخرى.
ربما يبدو هذا التوصيف موجعًا لمن يرون الكتابة جهة للمتعة، وموئلًا للتصور الغنائي للكون، لكن هذا الوجع في الحقيقة هو المعادل الأقوى لوجع الواقع الذي يعيشه كاتب تنشط مخيلته بابتكار عوالم يرى أنها هي الحل الأجدى قبالة معادلة الوجود الملتبس. وجود يسعى عبر الكتابة لفهمه، ولتغييره، وللذهاب بمصباحه المبتكر نحو مناطقه المعتمة. وهذا ليس متعلقًا فقط بالأدب السوداوي، بل بشتى أشكال الأدب إن تعمقنا بطبيعتها.
من هنا يمكن القول بأن الكاتب الذي ينتمي لهذه الطائفة لا يستمتع بالكتابة وفق التصور الرومنسي الغنائي من قبل البعض، بل إنه يقاسي مستويات عدة من الألم، إنها مساحة زمنية للخلق البديل لما لا يحقق رضاه في الواقع بكل تفاصيله الزمنية، والمكانية، والثقافية، والفكرية.
وانطلاقًا من فهمي الخاص للكتابة على أنها ردة فعل جوانية؛ فإن العلاقة بين الذاتي والموضوعي عند الكاتب علاقة متداخلة إلى حد كبير وخاصة في الكتابة الروائية؛ إذ إن الكتابة عن الآخرين، وعن أمكنة متخيلة، وأحداث لم تقع من قبل هي كتابة عن الذات، ولكن بمستوى جديد، فالروائي في حالة مثل هذه يرى نفسه من خلال الشارع.
وهنا فإنه يمارس مهمة شاقة في التخفي، والتمويه، والمواربة، وتشيد المتاريس بأدوات مقنعة من دون الإخلال بدور المخيلة التي تدس أصابعها في بطن الواقع وتعيد انتاجه من جديد، كمقترح قابل للتعاطي، أو رفضه. إنها عملية تدوير للواقع عبر آلة مضادة.
وبناء على هذه القناعات، فإن الكتابة ليست متاحة للكاتب في كل الأوقات، بعيدًا عن الطقوس، والمحفزات التي يعتمدها البعض للمضي في إنجازه. إن الكاتب الجاد يتقاطع مع سلوك مملكة النمل في اشتغاله الأدبي؛ إذ أنه يمضي وقتًا ربما يمتد لسنوات مرتهنًا لمبدأ التراكم في المشاهدات، والتأملات، والمصادفات، التي بعدها يُمنى بالشعور الداخلي الجارف بالتعامل مع تراكماته وفق فكرة تلمع في ذهنه فجأة. ويغدو كالطفل الذي يمارس بهجته بالعثور على ضوء؛ فيقترب منه من دون الاكتراث بما سوف يخلفه عليه.
من أكثر النصائح التي يمكن أن تقدم لمن يريدون الإقدام على فعل الكتابة هي المواظبة اليومية على الجلوس إلى الطاولة لاستخراج الأفكار إلى الورق، وهذا يغدو ناجحًا مع البعض، لكنه ليس مناسبًا للآخرين الذين يرتهنون لمبدأ التراكمات التي تؤدي إلى الكتابة؛ فكتابة المخزون تتطلب شكلًا فريدًا من الاستقرار المزاجي حتى يتسنى عيش ذلك المخزون من جهة معاكسة. إن كتابة المعاناة في لحظتها تبدو لي أمرًا طوباويًا، والدلائل كثيرة في تاريخ الادب العالمي. وإن العزلة إحدى أهم الشروط لتصالح الكاتب مع مخزونه، هذه العزلة التي كان يمارسها الكثير من الأدباء لأجل الكتابة ومنهم(كاواباتا) و(ميشيما) الذي اعتاد رغم تنقله بين الغرب والشرق، أن ينعزل في إحدى الجزر اليابانية مستسلمًا لتأملاته، وأوجاعه الداخلية، ومنصاعًا للكتابة التي لم تثنيه عن التخلص من حياته منتحرًا على طريقة (الساموراي).