تخطي إلى المحتوى
الكتب الورقية والكتب الرقمية.. مستقبل متشابك الكتب الورقية والكتب الرقمية.. مستقبل متشابك > الكتب الورقية والكتب الرقمية.. مستقبل متشابك

الكتب الورقية والكتب الرقمية.. مستقبل متشابك

يشكّل قطاع الكتاب من الناحية الاقتصادية، الصناعة الثقافية الأولى في فرنسا. وإذا كانت سوق الكتاب - بشكليه الورقي والرقمي- قد شهدت بعضًا من التراجع خلال الربع الأول من هذه السنة مسجّلةً انخفاضًا بنسبة 3.5٪ وفقًا لأسبوعية الكتب (Livres Hebdo)، فإن ممارسات القراءة قد عرفت من جهتها نموًّا ملحوظًا. غير أنه يبدو أن ظهور الإنترنت والتقنيات الجديدة قد كان له تأثير على المنشورات المطبوعة ودخل في تنافسٍ معها. فكيف يمكننا إذن تفسير صمود الكتب الورقية واستمرارها في العصر الرقمي؟

إرثٌ ثقافي

إذا كان الورق يُحيل على إرثٍ ثقافي متجذّر في الزمن وغني بعدة قرون وراءه، فهو يظل مع ذلك مجرد حاملٍ واحد ضمن آخرين. ويعكس هذا الحامل التطور البطيء للاستخدامات، وسيضطر إلى التكيّف مع ضرورة النشر واسع النّطاق.

لقد فرضت المطبوعات نفسها إلى حدٍّ كبير خلال القرن التاسع عشر، بينما منحها القرن العشرون دفعةً كبيرة بفضل ظهور كتاب الجيب، وانجذاب الجمهور للأدب، وتدويل المنشورات من طرف دور النشر الكبرى في العالم.

يحتفظ الكتاب اليوم بطابعٍ رمزي وسلطة قوية، فبنشره يغدو المؤلف مؤلفًا. إن ولوج الكتاب إلى قائمة أو مجموعة معينة هي التي تُدرجه ضمن المجال الأدبي، وتلك إشارات أساسية للقارئ إذ تسمح له بالوقوف على فرادة كتابٍ ما والوعي بشهرته ومكانته.

الكتاب يدخل في ثورة/تطور

تشكّل التكنولوجيا الرقمية، وفقًا للمؤرخ الفرنسي روجيه شارتييه (Roger Chartier) والمتخصص في تاريخ الكتب والنشر وممارسة القراءة، ثورةً كبرى لا تقل أهميةً عن ثورة المطبعة أو الانتقال من اللّفائف إلى المخطوطات. فهي تضاعف ممارسات القراءة، وتؤثر الاضطرابات التي ترتّبت عنها في تقنية النشر بقدر ما تؤثر في الاستخدامات وفي تلقّي الخطابات وإدراكها من طرف الجمهور.

وفي حين يخصّص الفرنسيون ما يقرب من ساعة وسبعٍ وثلاثين دقيقة يوميًا للإبحار في شبكة الإنترنت، وعلى الرغم من منافسة وسائل الإعلام الأخرى، إلا أن القراءة، وبغضّ النظر عن شكلها، قد أصبحت فعلًا جذّابًا على نحوٍ متزايد. كما أن ممارستها آخذةٌ في النمو، خاصّةً في وسائل النقل العام. ووفقًا لمقياس استخدامات الكتاب الرقمي لعام 2019، فقد صرّح 22% من الفرنسيين بأنهم قد قرؤوا كتابًا رقميًا واحدًا على الأقل خلال السنة السابقة، وهو أعلى معدل تم تسجيله خلال السنوات الثماني الماضية.

كما أن الكتاب الرقمي من شأنه تشجيع الناس على قضاء المزيد من الوقت في القراءة، لأن 23% من المستخدمين يقرؤون أكثر من ذي قبل. إن الكتاب الرقمي ليس حكرًا على الشباب، بل إن جميع الفئات العمرية معنية. وبالرجوع إلى مقياس استخدامات الكتاب الرقمي دائمًا، فإن القراء لا يقتصرون في قراءاتهم على الكتاب الرقمي.

إلى جانب الحاسوب، فإن اللوحات الإلكترونية والهواتف الذكية هي الوسائط المفضّلة لدى القراء الذين شملهم الاستطلاع، ويأتي القارئ الإلكتروني في المركز الرابع فقط. تتيح هذه الحوامل، المناسبة للتنقّل، اصطحاب عدد كبير من الكتب سواء من أجل القراءة المجتهدة أو المريحة والمرفِّهة عن النفس.

غير أن القراء لا يقتصرون على الكتاب الرقمي، بل إن الكتب المطبوعة والمسموعة تثير اهتمامهم بنفس القدر. وبينما يتيح الكتاب الرقمي قراءةً مجزّأة وسريعة ويدمج أدوات بحثٍ مختلفة، يوفّر الكتاب الورقي من جهته راحةً للعين وييسّر فهم النص.

أدبٌ رقمي

بين المواقع الشخصية والمدونات والمنصات الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، يتعزّز الحضور الرقمي للمؤلفين آخذًا في الازدياد سنةً تلو أخرى. فالكثير منهم صاروا يستخدمون الشبكة العنكبوتية لأغراض التواصل مع القراء من أجل التعريف بإنتاجاتهم والترويج لها على سبيل المثال، أو لأهداف أدبية تسمح لهم بأن يخوضوا تجارب جديدة بين الفينة والأخرى.

لقد لاحظ المجتمع العلمي تدريجيًا تشكّل مجالٍ جديد هو الأدب الرقمي الذي يقدّم للقراء أعمالًا تفاعلية مثل رواية «انفصال» (Déprise) للمؤلفين سيرج بوشاردون (Serge Bouchardon) وفانسون فولكارت (Vincent Volckaert). إن هذه الأعمال، غير المعروفة إلى حدٍّ ما عند عامة الناس والتي رأى العديد منها النور في إطار البحث الإبداعي، هي مستلهَمة من ألعاب الفيديو وتعتمد على مشاركة مستخدم الإنترنت. تمنح هذه الأعمال، الممتعة والمبتكرة، للقارئ طرقًا مختلفة للتفاعل مع المحتوى المعروض مما يسمح له بالتقدّم بالسّرد.

بين الشعر الحيّ ومولّد النصوص وأدب التغريدات والأشكال الأخرى للتدوين السريع، يحتضن الأدب الرقمي العديد من الأشكال والكتابات. ويتنقّل عدد متزايد من المؤلفين بين المنشورات الورقية والرقمية، وهذا حال الكاتب فرونسوا بون (François Bon) على سبيل المثال، الذي بادر بإنشاء منصّة للكتابة (Le Tiers Livre) منذ عام 1997.

يبدو هذا الموقع الشخصي كفضاءٍ متعدد يجمع بين الممارسات المختلفة لهذا الفنان العابر للوسائط، ويدعو القارئ إلى أن يتوه في تعرّجات متاهةٍ غنية على الدوام بأعمال الكاتب، فضلًا عن نصوص غير منشورة ومقالات ومراجعات نقدية وورشات عمل من بين أمور أخرى. وبوسع المتصفّح أن يتابع على الموقع التقدم الذي يحرزه الكاتب في بعض مشاريع الكتابة الخاصة به، والتي سيتم نشرها لاحقًا على شكل كتاب ورقي عند اكتمالها.

تفاعلات عديدة خارج الكتاب

وإلى جانب الأدب الرقمي، تستفيد المنشورات الورقية أيضًا من أشكالٍ أخرى للأدب خارج الكتاب. إذ تساهم القراءات الموسيقية والعروض، على سبيل المثال لا الحصر، بشكل كبير في الترويج لصورة أخرى عن الأدب وجذب جمهور أوسع. وبهذا المعنى، فإن هذه الأشكال الجديدة التي تتيح إمكانية الاتصال بين المؤلفين والقراء بطريقة مختلفة تسهم في إشعاع المنشورات المطبوعة وتثمينها، وتضمن بالتالي بقاءها واستمراريتها.

تعمل الحياة الأدبية، سواء من خلال اللقاءات مع المؤلفين أو المهرجانات أو غيرها من التظاهرات الأدبية، على تنشيط وتعزيز التفاعلات بين الفاعلين الثقافيين والشغوفين بالقراءة والكتاب في جميع أنحاء البلد. ويشهد على ذلك النجاح الذي تلقاه بعض معارض الكتاب واستمراريتها، مثل معرض باريس للكتاب الذي استقطبت دورته التاسعة والثلاثون في مارس الماضي أكثر من مائة وستين ألف زائرٍ جاؤوا للقاء المؤلفين والعارضين القادمين من حوالي خمسين دولة مختلفة. كما أن هذه اللقاءات تحظى بالتشجيع أيضًا من خلال المكتبات ونوادي القراءة وصناديق الكتب أو حتى تطبيقات مشاركة الكتب مثل «بوك سكوير» (Booksquare) و«كتب الأقارب» (Livres de Proches) أو تطبيقات شراء الكتب مثل «بوكساب (Booxup).

حوامل هجينة

تسعى بعض المشاريع التي يقودها فنانون وناشرون وشركات خاصة إلى التفكير في تهجين حوامل القراءة، بحيث يدمج الكتاب بين صفحاته من التقنيات ما يسمح بطمس الحدود بين الورقي والرقمي، كما هو الشأن بالنسبة لقوائم منتجات بعض العلامات التجارية والقادرة على دمج إمكانية الولوج إلى شبكة الويفي أو إعادة شحن هاتفك الذكي.

كما أصبح من الممكن جعل الكلمات تظهر أو تختفي بفضل الأحبار الحرارية، كما يشهد على ذلك الكتاب «اللامتناهي» الذي صمّمته الفنانة ألبرتين مونييه (Albertine Meunier) والذي لا تكشف صفحاته البيضاء عن محتواها، إلا من خلال تقليبها.

ومهما يكن المستقبل الذي ينتظر الكتاب على المدى البعيد، فلا تزال أمامه أيام زاهرة.

الترجمة عن الفرنسية: حافظ إدوخراز -

المصدر: 
جريدة عُمان