تخطي إلى المحتوى
الكيان الصهيوني بين فكرة إنشاء آمن بها وفكرة زوال تؤمن به الكيان الصهيوني بين فكرة إنشاء آمن بها وفكرة زوال تؤمن به > الكيان الصهيوني بين فكرة إنشاء آمن بها وفكرة زوال تؤمن به

الكيان الصهيوني بين فكرة إنشاء آمن بها وفكرة زوال تؤمن به

حين يسعى إلى تأسيس جيش جديد يطلق عليه اسم «الحرس القومي» إلى جانب عدد من الجيوش التي شكلّها الكيان الصهيوني من جيشه الذي يفاخر به كواحد من أقوى جيوش العالم، إلى جانب الشاباك والموساد وفرق العملاء والمتعاونين وكلاب الأثر؛ فهذا يعني شيئاً واحداً؛ أن هذا الكيان يدرك جيداً بعد عشرات الحروب والمذابح وعمليات الاغتيال التي خاضها وارتكبها ومارسها، أنه لم يزل هشّاً في مهب رياح شعب عصيّ قرر منذ البداية ألّا يموت.
وحين يسعى هذا الكيان بكل ما فيه من غطرسة إلى ممارسة العنصرية على أعين العالم، والقتل على أعين العالم، والهدم على أعين العالم، فإنه لم يدرك بعد أن الضحايا الذين يقتلهم لم يكونوا في أي يوم من الأيام متصالحين مع فكرة القبور التي يحفرها لهم والمقابر السرية والثلاجات التي يُخفي جثامين الشهداء فيها، لأن هذا الشعب غير قابل للدفن أو للتلاشي أو المكوث تحت الجليد أو خلف قضبان السجون.
وحين يتنافس المتنافسون في هذا الكيان على من سيكون أكثر وحشية ودموية، يؤيدهم ناخبون يسنّون لهم أظافرهم وينظفون لهم بنادقهم ويذخّرونها، ويحشرون في أفواههم أقبح الكلمات المعادية للمنطق الإنساني، فهذا كيان لا يدرك أن «البقاء للأسوأ» لا يمكن أن تكون صالحة لمنطق الحياة في هذا الوطن الذي برحابة القلب.
كانت فكرة زوال هذا الكيان حلماً في الوجدان العربي والعقل العربي وقلوب الفلسطينيين ودمهم أيضًا، ورغم رهافة الأحلام التي تولد بسيطة وطريّة، فإنها لا تبقى كذلك، فالأحلام مثل البشر تنمو وتكبر وتشتد وتقاتل حين تخرج من رقّتها المفرطة وتتحوّل يوماً بعد يوم في وجه الطغيان إلى فعل مستمر.
الآن، يبلغ «الحلم» الفلسطيني ذروة نضوجه حين يتحوّل إلى لعنة عاصفة باتت تصدّع العقلية الصهيونية وتؤرقها. لم يعد الفلسطيني مضطراً كثيراً للحديث عن قوة الحنين وقوة الحياة وقوة الحلم فيه وعن نهاية هذا الكيان، فقد غدت فكرة الزوال هي الأكثر إلحاحاً منذ سنوات في عقول قيادات هذا الكيان وجنرالاته، لكنها فكرة نمت ببطء خجول في البداية، عبر أصوات منفردة هنا وهناك، إلى أن أصبحت المؤتمرات تعقد لمناقشتها، ومئات الجنرالات والشخصيات العامة تحذر منها في بيانات وتصريحات وتراشقات لا يمكن إحصاؤها.
منذ أعوام طويلة حذر جنرالات صهاينة الإسرائيليين من أنهم ذاهبون لمحاكاة النازية، ولم يسمع لهم أحد، وحذّر آخر «إسرائيل غير مستعدة لحرب قادمة»، وحذّر آخر مِن «أحداث مباغتة تهدد إسرائيل»، وحذر رابع من «بيع الأوهام: التطبيع مع الإمارات (ومشتقاتها) لن يؤدي إلى تبخّر الفلسطينيين»، وصولاً إلى الجنرالات الجدد؛ ففي آخر أيامه في منصبه الكبير في واحدة من أكبر المؤسسات الأمنية، أجرى اللواء إسحاق بريك بحثاً معمقاً على امتداد عقد من الزمن، حول الاستعدادات الحقيقية للجيش الصهيوني في حال وقوع حرب، إذ زار كلّ وحدة من وحدات الجيش ثلاث مرات وتعرّف إلى حالتها، ليس من تقارير قادتها، وإنما من فحص الأمور ميدانياً على الأرض، في المستودعات، في التدريبات، في مستودعات الطوارئ، في جودة الصيانة، وفي شهادات الجنود الذين يجرون الاستعدادات للحرب من خلال التدريبات والتزوّد بالمعدات والتجهيزات، وخلص إلى نتيجة أن هذا الجيش يعتمد مرّة أخرى على معجزات تتحقق مصادفة لتحقيق أي انتصار، وأنه ليس على استعداد لمواجهة محتملة مع قدرات العدو المؤكّدة.
قد يقول قائل إن هذه المخاوف جزء من الصراع الداخليّ الذي بلغ ذروته الآن، لكننا حين نتأمل المعنى العميق لسعي الوزير العنصري بن غفير إلى تأسيس جيش موازٍ للجيش الرّسمي، فإن ذلك يعني أن لا أحد يثق بحجم عنصرية وهمجية الجيش الأكبر أو بقدرته على حسم أي شيء.
ونذهب إلى الجانب الأدبي الصهيوني، فنسمع صديقنا الباحث أنطوان شلحت، وهو أحد أهم الباحثين في الشأن الصهيوني، يقول في الندوة التي عقدها المتحف الفلسطيني «بلدٌ وحدُّهُ البحر»: «إن خمس روايات إسرائيلية ظهرت مؤخراً، وكلها تتنبأ بنهاية وشيكة لهذا الكيان، ومن اللافت أن إحدى هذه الروايات كتبها أحد الجنرالات الصهاينة المتقاعدين».
ونتجاوز هذا لنصل إلى حجم الجرأة التي باتت تظهر في سلوك وتصريحات كثير من السياسيين والشخصيات الكبيرة المؤثرة في العالم، مثل تصريحات المغني البريطاني التقدّمي روجر ووترز، عضو فرقة بينك فلويد الرائعة، الذي قال هذا الأسبوع لجريدة «هآرست»: «إذا كان الحلّ في فلسطين هو زوال «إسرائيل» فليكن».
يكتب المرء كل هذا وهو يدرك جيداً أنه من المؤلم كثيراً أن الخرافة يمكن أن تكون أقوى من الحقيقة في حالات كثيرة. صحيح أن الحقيقة يمكن أن تظهر في النهاية، ولكن علينا ألا نكون مطمئنين إلى أنها ستظهر لمجرد أنها حقيقة، ونحن نتركها وحيدة تُصارع؛ فالحقّ، للأسف، لا ينتصر بقوّته الذّاتية.
ولذا تغدو المهمة الكبرى، كما فعل الشعب الفلسطيني دائماً، هي الدفاع عن الحقيقة والمساعدة في الوصول إليها في أقصر مدّة ممكنة. بمعنى ألّا تُترك هناك مدفونة تحت الأكاذيب، لأن من الضروريّ مواصلة تعرية الأكذوبة، فمن المفارقات أن عدونا لا يكفّ عن إنتاج أكاذيبه حتى وهو عارٍ على قمم فضائحه. لذا، لا نملك إلّا إن نواصل قول حقيقتنا بدمنا وقلوبنا وجمالنا وتمرّدنا، نحن نشاهد وهنَ هذا الكيان في أوج قوته، ومواقع هذا الوهن وهذا التصدّع، لعنصرية ستواصل همجيّتها، بلا عودة، بعد أن تذوّقت دمنا ومعنى السلطة المطلقة التي ضخّتها مناصبها الجديدة فيها في الانتخابات الأخيرة.
وبعــــد:
لقد انتهى حقًّا زمن المؤسسين لهذا الكيان الصهيوني، الذين زرعوا الموت في أرضنا، وفكرة شعب الله المختار، أولئك الذين أعطت غِراسهم تلك الثمرة العنصرية الأشد ضراوة، التي باتت تسمم قاطفيها الفرِحين بعنصرية أشدّ. لكن الزمن الذي عصف بقادتهم خلّف لورثتهم زعامات فاسدة لم تعد مختلفة بفسادها عن زعاماتنا الفاسدة، وبالتوازي، بل بالاختلاط!
وبعــــد أيضاً:
يدرك الفلسطيني تماماً أنه يُقتَل كلّ يوم، على مرأى من عيون العالم، لكنه واثق أنه يملك حلماً كبيراً يسير به وفيه وإليه، أما الصهيوني الذي يدفع ثمن جرائمه في فترات متباعدة بعملية فلسطينية بطولية هنا وأخرى هناك، فإن عدم احتماله لهذا الثمن في ضوء كل هذا الفساد وهذا التكالب، أصبح فكرة تتجسد في داخله وتكبر؛ هي فكرة زواله.

المصدر: 
القدس العربي