تخطي إلى المحتوى
الكُتُب والكُتَّاب والقُرَّاء: البحث عَن تفاعل في زمنِ المِيديا الكُتُب والكُتَّاب والقُرَّاء: البحث عَن تفاعل في زمنِ المِيديا > الكُتُب والكُتَّاب والقُرَّاء: البحث عَن تفاعل في زمنِ المِيديا

الكُتُب والكُتَّاب والقُرَّاء: البحث عَن تفاعل في زمنِ المِيديا

هناك أزمة مستفحلة دائما ما تواجه شريحة الكُتَّاب في المنطقة العربية، تتمثل في تواضع عدد النسخ التي يقتنيها القُراء، بالشكل الذي لا يتناسب مع جهدهم الفكري والإبداعي، ولا يستثنى من ذلك المتميزون في نتاجهم، وإذا ما أجرينا مقارنة لهذه الحالة العربية، مع ما يتم بيعه من نسخ لأي كتاب جديد يصدر في البلدان الغربية، على سبيل المثال، سنجد أن مستوى التباين شاسع جدا ومحبط في آن، على سبيل المثال رواية «الحارس في حقل الشوفان» للكاتب الأمريكي جيرزم ديفيد سالينجر (1919 – 2010) صدرت عام 1951 حققت مبيعات وصلت إلى أكثر من 65 مليون نسخة، وتُرجمت إلى 30 لغة، ويباع منها سنويا ما يصل إلى 250 ألف نسخة. هنا غالبا ما يتساءل الكاتب العربي عن الكيفية التي يمكن من خلالها مواجهة هذه الإشكالية، رغم أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت تصاعدا في وتيرة الأنشطة الثقافية، إلى جانب تزايد عدد دور النشر في الدول العربية إذ لم تعد حكرا على لبنان أو مصر، كذلك تم إطلاق عدد من الجوائز والمسابقات التي تعنى بمعظم حقول الثقافة والإبداع، إضافة إلى اتساع ظاهرة إقامة معارض للكتاب في معظم البلدان العربية. ولمعرفة المزيد من الملاحظات حول هذه الظاهرة أجرينا حوارا مع ثلاثة مثقفين عراقيين فاعلين في المشهد الثقافي: قيس عمر/ناقد وأكاديمي، علي الحديثي/روائي، رياض داخل/ناشر.

قيمتك من قيمة كتابك

بداية يعلق الكلام الروائي علي الحديثي حول أسباب الشعبية الكبيرة التي يحظى بها الكُتَّاب الأجانب، مقارنة مع كتاب المنطقة العربية قائلا، الشعوب هي حقول يتحكّم الحكّام في زراعة ما يريدون فيها، ومن يطّلع على الدول غير العربية فسيجد أنها أخذت منحى جديدا منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، عندما جعلت من العلم معيارا في تقييم الأشخاص، واستقطبت كلّ من تجد فيه المَلَكَة العلمية والثقافية التي يمكنهم بها تنشئة أجيال تنهض ببلدانهم، هذه الرحلة خلقت أجيالاً تعرف قيمة العلم والفكر والثقافة، وتعرف أن قيمتها من قيمة أفكارهم وإبداعاتهم، وبما أن الكتاب هو المصدر الذي يُنطَلَق منه نحو مآربهم، فقد أعطوه الأهمية التي يستحقّها، وجعل الكُتّاب أنفسهم يحرصون على إتقان كتاباتهم، على اختلاف توجّهاتها، فكأنّهم يقولون قيمتك من قيمة كتابك.

خديعة الأرقام

الناقد والأكاديمي قيس عمر طرح تساؤلا يجده جوهريا: «كيف نستطيع أن نثبت أن الكتاب يتمتع بضرب من الأقبال والاقتناء؟» ثم يضيف ليؤكد على ما تنطوي عليه أرقام مبيعات الكتب من خديعة قائلا «لديّ بعض الأصدقاء الأوروبيين المهتمين بالأدب العربي ويتقنون العربية، وفي كل مرة يدور بيننا حوار حول نسب القراءة واقتناء الكتب فتكون الإجابة من قِبلهم: إنها تتراجع ولم تعد كما في السابق، من هنا أود الإشارة لطبيعة هذا التوصيف المخادع، في الوقت نفسه لا يمكن المقارنة بين نسب المقروئية بين عالمنا العربي والعالم الغربي، ومن هنا أدعو للتثبت وفحص العبارات التي تقدم نوعا من المصادرة سلفا، وتحتمي بالأرقام، وكأنها توصيفات محسومة تم التثبت منها.

السينما تدعم الانتشار

بينما يعزو الناشر رياض داخل، أسباب شعبية الكُتَّاب وارتفاع معدلات كتبهم المباعة إلى الكتابةِ بِحريةٍ أكبر، والدعم من قبل المنتجين وصانعي السينما، كما أن استقرار أغلب الشعوب يولِّدُ قرِّاء متميزين، بسبب تشجيع الجامعات العالمية للقراءة. أيضا وجود دور نشر رصينة ومدعومة تحرص على أن تتعامل مع صانعي السينما. والأهم من ذلك دعم دور النشر من قبل قيادات الدولة، ففي بلاد الغرب ينظرون إلى صاحب دار النشر باعتباره صانع حضارة، بينما عندنا يتم النظر إليه على أنه بائع خردة. دعني أؤكد مرة أخرى، أن دور النشر العالمية ليست وحدها من يدعم الكتاب ليصل إلى مرتبة عليا بين المتلقين، بل هناك السينما والصحافة والإعلام .

إقبال على الروايات

في ما يتعلق بالسؤال الذي يبحث عن أسباب الإقبال على اقتناء الروايات مقارنة بالكتب التي تصنف ضمن أجناس أخرى، يجد قيس عُمر أن هذا الحال ليس جديدا على أوروبا، ولعل أسباب ذلك كثيرة، من بينها؛ طبيعة التكوين العقلي، فالمجتمعات الأوروبية تميل لضرب منطقي وعقلاني في طبيعتها الثقافية، والرواية في عمقها تستند إلى بنية منطقية وعقلانية، وأقصد بهذا طبيعة الأحداث وتطورها وتحولها القائم على منطقية وتسلسل طبيعي، هذا ما تنهض عليه الرواية بوصفها جنسا أدبياً، فهي تقوم على المخيلة والجماليات، لكنها لا تغفل البناء العقلاني والمعرفي، فهي تنهض على تآزر نسيجي، بين البنية الجمالية والمعرفية، كذلك استطاعت الرواية أن تتحول لجنس أدبي ملهم لبقية الأجناس، هذا التوصيف يكشف عن قدرتها على التحوّل والتغيّر والتبدّل والتطوّر السريع، بما يمنحها القدرة على أن تكون معاصرة، وهي بهذا تنفصل عن الشعر والمسرح والمقالة، لتكوِّنَ لنفسها عالماً مستقلاً له القدرة على التفاعل مع حركية التسويق والإعلان، ومواكبة تطلعات الإنسان المعاصر، بذلك تتحول لبحث جمالي يمنح القارئ فسحة للتأمُّل والتفكّر والتحوّل.

سياسات الترويج

في إطار الإجابة عن سؤال يناقش سياسات الترويج والتسويق التي تنتهجها دور النشر الأمريكية والغربية، والمعرقلات التي تقف أمام تطبيقها في عالمنا العربي، أكَّد الحديثي أنَّه لا يمكن فصل الإجابة على هذا السؤال عن سابقه، فالعملية كلّها حلقة مترابطة، فعندما تجد دور النشر أن لها حكومة تهتمّ بجودة ما يُكتَب، وتجد قارئا حريصا على ذلك، فلا محالة أن هذه الدور ستهتمّ بمطبوعاتها، وتحرص على ترويجها، وهذا ما تفتقر إليه دور النشر في المنطقة العربية، لأنها تسعى وراء الأسماء التي تَمَّ صنعها إعلاميا فقط، وحتى هذه الأسماء نراها تدور في الفلك الأدبي فقط، بل تكاد تنحصر في الرواية، فَلَم نسمع عن ضجة إعلامية عن كتاب علمي، أو فكري، وما زلنا نتعكزّ على طه باقر في قراءة تاريخ العراق القديم، ونكاد لا نرى أحدا منَّا قد سمع بِنائِل حنّون، على سبيل المثال، الذي صدرت له كتب تستحق الوقوف عندها، مثل كتاب (حقيقة السومريين). وقبل أيّام كان لي حديث مع مسؤول إحدى دور النشر، فأخبرني عن خسارتهم بسبب طباعة إصدار لكاتب معروف. وفي حديث آخر مع صاحب دار لم يشترك في معرض أربيل، أخبرني أن دور النشر تخسر في المعارض لضعف الإقبال على الشراء، وقد بدا هذا الكلام واضحا في ضعف المشاركة العربية في معرض أربيل الأخير، رغم الحضور الجيّد من قِبَل الزوَّار. حقيقة أنا مقتنع بأنّ دور النشر والماكنات الإعلامية خلقت قُرّاء بوقيين يسعون خلف مَن تُقرع له الطبول الفارغة، لكن هذا لا ينفي وجود دور نشر تعتني بجودة مطبوعاتها، من حيث المضمون، وبالنسبة لي السؤال الأهم هو: كم سنقاوم أمام السفاسف المهولة التي تنتشر كالشرر في الحقل؟

مسؤولية السياسة

رياض داخل يرمي اللوم على السياسة في العالم العربي، ويعدها أكبر معرقل للكتاب العرب، ويضيف قائلا، السياسة تتدخل في كل شيء؛ توجِّه وتدَعم من يراعي مصالحها من الكُتَّاب، كذلك تدعم تابعيها الذين يسقِّطون أي كاتب بإشارة واحدة من قِبل قياداتها، بالإضافة لكثرة التابوات، وأنا هنا لا أقصد الدين والجنس والسياسة، لأن هذه الموضوعات أصبحت اليوم متاحة، لكن الشيء الأخطر، من وجهة نظري؛ أن الكاتب بات يعاني من المحسوبيات التي توغلت وبقوة في مجالات عدة من ضمنها الأدب، وهنا أقصد النقاد والصحافة.

زحف العالم الافتراضي

قضية تدنِّي مستويات بيع الكتب تحتاج إلى معالجات، وحول ذلك يوضح قيس عمر، إذا كان لا بد من حلول واقعية لإعادة الاهتمام بالكتاب فعلينا أن نفهم إشكالية زحف المادة المُشَاهَدة/الصورية التي أخذت تحيط بعالم الكتاب، والتي ساهم العالم الافتراضي بصناعتها وتقديمها، وقد أكلت هذه المادة من جرف عالم الكتاب بشكل خطير، ولا بد من القول إن سوق الكِتاب كان منتعشا في أوقات كثيرة حين كان يُنظر إليه بوصفه وسيلة معرفة ومتعة، لكن بدلاً عنه حَلَّ العالم الصوري الافتراضي الذي يقدم عالماً مدعوماً بصيغ متنوعة وبراقة وسهلة التفاعل، عبر لغات الأيموجي وخاصية التعليق بشكل عام، وهذا ما يعجز عنه عالم الكِتاب، من هنا تمت سرقة فسحة التأمل التي كان يوفرها، وتم كسر طبيعة العلاقة الخطية التي تجمعه مع القارئ، وحل محلها وقت متواصل عبر الشبكة العنكبوتية، ليقع المتلقي بالتالي في حبائل متعة صورية مفرغة من التأمل والمراجعة.

لا بد من قوانين

أيضا إزاء ما ينبغي طرحه من حلول يرى رياض داخل، أن القضية تحتاج إلى قوانين، وأنا هنا أتكلم عن بلدي العراق، وأقصد بذلك؛ لا بد من إصدار قوانين لدعم السينما والتلفزيون، ولا أغالي إذا ما قلت إن أي بلد بلا سينما حقيقية لا يمكن أن ينتج أدبا رصينا، وأجد في عودة السينما عودة إلى القراءة النهمة التي كان يمتاز بها الشباب في فترة السبعينيات، فمن المهم تشجيع القراءة، وأن تعود المكتبات التي تروّج للكتب غير المنهجية للمدارس والجامعات، ولا بد من الدعم المتواصل للأديب العراقي وعدم تجاهل دوره المهم في بناء المجتمع، ومع لأني مدرك جيدا بأن تطبيق هذه النقاط لن يتحقق إلاَّ بعد أن نقضي على آفة المحسوبيات.

تجسير الهوة مع القراء

لأجل تجسير الفاصلة التي اتسعت ما بين الأفراد وعالم الكتاب يطرح قيس عمر بعض تصوراته قائلا، إذا كان لا بد من معالجات لهذه الإشكالية، فلا بد من أن تكون جذرية وتنطلق من الأسس، مثلا أن يصار إلى تحرير البيئة المدرسية من الأساليب التعليمية التقليدية، واختيار بعض الأيام – كأن تكون أسبوعا كاملا- في كل عام دراسي يتم فيه التعريف بالكتب المهمة وبعض الكُتَّاب، والتعريف لا بد أن يكون منطلقا من البيئة المحلية ثم العربية ثم العالمية، بهذه الطريقة سيكون هناك تأسيس مقبول نوعا ما لإعادة علاقة الفرد العربي بالكتاب، ثم تتوسع هذه التجربة لتصل للجامعات وهكذا، ويمكن أيضا تأسيس أندية ثقافية وعلمية وفنية في كل مدينة، تتولى إنجاز مهمات متنوعة، ما بين تقديم جلسات تعريفية وتثقيفية وإقامة ورش للكتابة والفنون عامة. وفي السياق نفسه يضيف قيس عمر، أنه يعلق أملا كبيرا على الدور الذي يمكن أن تلعبه الجامعات، فيشير إلى ذلك قائلا، يتوجب عليها في البيئات المحلية التي تنتمي إليها أن تقوم بجهد دعائي وتشريفي لبعض الكُتَّاب وبعض من الكتب، التي تنسجم مع المستوى الجامعي، والدعوة لتكوين مسابقات خاصة للمتفوقين في مجال القراءة والتشجيع عليها بجوائز مالية ومعنوية، كما يمكن للتلفزيونات المحلية والفضائية أن تقوم بدورها في دعم عالم الكتاب والكتب والتشجيع على اقتنائها.
الحديثي في نهاية الحوار يرى أن الحلّ يكمن في خلق قرّاء واعين ناضجين، وهذه المسؤولية تتحقق عند الاهتمام بقيمة الكتاب المطبوع من الناحية العلمية والأدبية، وعدم الترويج لكلّ من هبّ ودبّ، والخطوة الأولى تبدأ بتثقيف الأجيال في المدارس أولا، من خلال الاعتناء بالمناهج ومضامينها، ولا تنتهي عند الشارع وسلوكياته.

المصدر: 
القدس العربي