يعد موضوع دراسة المدينة العربية، ذاكرة وحاضراً، واحداً من أهم الموضوعات المؤجلة ليومنا هذا. فعلى الرغم من طباعة عشرات الكتب يومياً في العالم العربي، إلا أن الملاحظ بالمقابل أن موضوع المدينة كحقل ما يزال موضوعا هامشياً. وأذكر هنا، على سبيل المثال، موضوع التدين، الذي يعد الشغل الشاغل للمحللين العرب. فخلال السنوات الأخيرة، كانت هناك مقاربة تقول إن المدن العربية تزداد أصولية، وأن هذه الأصولية ناجمة عن صعود دور الحركات الإسلامية، التي عملت على تديين الفضاء العام. ولا شك أن هذه المقاربة تحمل حججا مهمة، لكنها في المقابل أيضا ظلت تتعامل مع موضوع المدينة، وكأنها مستودع أو فضاء يتأثر ولا يؤثر في المقابل. في حين نرى أن هناك مقاربات جديدة في حقلي التدين والحضري كما في كتاب «الدين العام والتحول الحضري» تحرير لويل ليفزي، الذي يرى أن المدن بتحولاتها الحضرية، قد تؤثر أحيانا في الديني نفسه، وتعيد تشكيله وفق قواعدها، وهو ما يحول موضوع دراسة المدينة، أو المجال الحضري، إلى حقل خاص، يحتاج لدراسة ومتابعة ورصد بشكل يومي.
لكن رغم الفقر الحاصل في الدراسات العربية، مقارنة بما يكتب عن المدن الأخرى، نعثر بين فترة وأخرى، على كتابات في هذا الجانب، تعتبر جديدة ومهمة، كما في كتاب «عرض الطريق» الذي حاول فيه المشاركون دراسة حياة المواصلات في مدينة القاهرة. ونشير هنا كذلك للكتاب الصادر عن مؤسسة الفكر العربي «المدن العربية بين العراقة والاستدامة»، الذي حاول فيه المشاركون دراسة المدينة العربية كحاضرة، وما عرفته من تغيرات على مدار المئة سنة الماضية. قد تبدو بعض الزوايا والمعالجات في الكتاب تقليدية، مقارنة بالنظريات الجديدة في دراسة المجال الحضري، مع ذلك نعثر على أوراق مهمة حاولت تتبع تغيرات ذاكرة ورائحة هذه المدن، وما هي النصوص البديلة اليوم لفهم تحولات المدن العربية (الرواية)، وبالأخص في العقود الأخيرة، سواء على صعيد ظهور حواضر وهوامش على أطراف هذه المدن، أو مستوى الحروب، وما أحدثته من تغيرات ديموغرافية كبيرة، في مدن مثل حلب أو دمشق، أو بغداد أو المدن الفلسطينية.
حاول مسعود ضاهر دراسة الطابع الكوزموبوليتي، الذي ميَّز عدداً من المُدن العربية. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر اجتمعت في مدن كوسموبوليتيّة بحرية عربيّة، مثل الإسكندريّة وبيروت والدار البيضاء، وأخرى عربيّة كوسموبوليتيّة داخليّة، مثل مدينة حلب، جاليات وثقافات ولغات كثيرة مُختلفة، طَبعت مَسارَها الاجتماعي في محطاتها التاريخية، جاعلةً من تلك المُدن حواضرَ ثقافية إبداعية بامتياز. كما ركز ضاهر على تفاعُلات هذه المُدن مع الاتجاهات الحديثة في مجالات الفن والعمارة والآداب الوافدة إليها من الغرب، وعلى كيفيّة اكتسابها الطابع الحداثوي. من جانبها حاولت الأكاديمية اللبنانية حُسن عبّود في نصها الذي يمزج بين الذاتي والموضوعي، بين النوستالجيا والواقع، أخذنا في رحلة إلى مدينة بورسعيد المصرية، فمن خلال مدينة الميناء وبوّابة قناة السويس بور سعيد، تلك المُستعمَرة الفرنسيّة الكولونياليّة في الربع الأخير من القرن التّاسع عشر، ذات المَوقع الاستراتيجيّ المُميز، اختارت عبّود دراسة رمزين معماريين، مبنى هيئة قناة السويس الواقع على ضفّة قناة السويس أُنشِئ عام 1895، وعمارة كولوفيتش الزهريّة اللَّون بطرازها الآرت ديكو، في شارع الجمهوريّة (بُنيت عام 1932، كعلامتين سيميائيتين دالتين على تاريخ المدينة وتحولاتها. هذا التاريخ الذي تُلخِّصه الألقاب الثلاثة التي حَملتها بور سعيد (المدينة المقصوفة) بعدما دمَّرها العدوانُ الثلاثيّ على مصر عام 1956 و(المدينة الباسلة) بعدما أبلت بلاء حسنا في الدفاع عن نفسها، و(المدينة المهجرة) بعدما أعيد بناؤها بمشروعٍ كبيرٍ من الدولة المصريّة خلال العقد الذهبي (1956ـ1967)، الذي سرعان ما انتهى مع اندلاع حرب 1967 وهجرة سكانها لغاية حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، حتى إذا ما تمّ افتتاح قناة السويس 1975 وبَدأتِ المدينةُ تستعيدُ أمنَها واستقرارَها وتجارتَها على الخريطتَيْن المِصريّة والعالَميّة، اجتاحها تطوُّرٌ اقتصاديٌّ سرَّع وتيرتَه إنشاءُ المنطقة الحرّة، الذي حوَّلها من مدينةٍ هادئة إلى مدينةٍ صاخِبة، تجاريّاً وعقاريّاً فباتَت بورسعيد، ثالثةُ مُدنِ مصر اليوم من حيث عدد السكّان. ولتبيان ما تُشكِّل الحروبُ من تهديد مُباشر للهويات التاريخية للمُدن بعامة، والعربية بخاصة، اختارَ زهير هوّاري مدينةَ بيروت كأنموذجٍ لهذه التحديات، متتبعاً تاريخ المدينة، منذ أن كانت أشبه ببلدة ساحلية تعيش على تجارة البحر، استيراداً وتصديراً، وبعض الزراعات والحِرف، وتحكمها ثنائيّة الحرب والبحر، ليتبين، أنّ بيروت كانت على الدوام أشبه بمرجل تغلي فيه مختلف القضايا القومية، وأنّ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 كان تتويجاً لحروبٍ سابقة، لم تكُن قد اتّخذت مداها بعد، حتّى أنّ انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس/آب عام 2020 لم يكُن إلا تكثيفاً لثنائيّة الحرب والبحر. أمّا مرحلة الإعمار التي تلت حرب عام 1975 التي دامت 15 عاماً، فقد أسهمت في تكريسِ ما أَفرزته الحرب من تجْزئة، وتشظية لفكرة المدينة، حيث أَعادت مرحلة الإعمار هذه إنتاجَ شروطِ اندلاع حروبٍ جديدة، عبر إنكار الذاكرة المجروحة لمدينةِ بيروت ولمركزية وسطها وفرادته، فلم ينجُ من النسيج القديم، حسب هوّاري، سوى بعض المباني والأحياء لضرورات الديكور.
وفي سياق آخر بعيد عن ذاكرة المدينة، حاول الباحث أسامة الصايغ، دراسة ما يسميه بـ»المدن الذكية» التي في رأيه لم تعد ترفاً أو خياراً، بل باتت في الزمن الراهن مطلباً أساسياً لنمو المناطق الحضريّة واستدامتِها. وتناول الصايغ هذا المفهوم بالتعريف والشرح، لأنّه لا يزالُ في حالةِ تغيرٍ ونقاش مستمرين، ليتوقف لاحقاً عند بعض نماذج المُدن الذكيّة العربية، مثل مبادرة «دبي الذكية» ومدينة لوسيل في قطر. ونظراً إلى العلاقة العضويّة التي ربطت بين المُدن والرواية، خصَّص الكتاب محوراً للمدينة العربية في المخيال الروائي، إذ غدت المدينة العربية في الرواياتِ العربيّة عنصراً من عناصر المشكّلات السرديّة، الدالّة على العلاقات المُلتبِسة والمُعقّدة التي نشأت بينها وبين ناسها، ولذلك يرى المشاركون أن النصوص الروائية، لا تقل أهمية عن ذلك الذي يضطلع به النصّ التسجيليّ في الحفاظ على ذاكرة هذه المُدن من التبدُّد والنسيان، ولذلك نظر الناقد شريف الجيار من خلال رواية «لا أحد ينام في الإسكندريّة» للروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، و»زهور تأكلها النار» للروائي السوداني أمير تاج السرّ، كأنموذجين عن تجلِّيات المدينة في الرواية المصرية والسودانية، لأهمية الرواية الأولى في تجسيد مدينة الإسكندرية تجسيداً تاريخيّاً، كانت خلاله مسرحاً لصراعٍ عالَمي، لم يخلُ من دموية، غيّر هوية الأرضِ والبشر، وانتقلَ بهذه المدينة الكوزموبوليتانيّة المُتسامِحة إلى «هويّة الديستوبيا المُجسِدة للنفي والاغتراب، وحدة الأزمات المصيريّة المسنونة التي تُواجه الإنسان»، وتدور أحداث الرواية الثانية في مدينةٍ سودانيّةٍ مُتخيَّلة تُدعى «السور»، إذ تحاول رصد التحوّلات المأساويّة الصادمة في هذه المدينة الكوزموبوليتانيّة المؤمِنة بالتعدُّد، في ظل فكرٍ ديني متطرف يكفر المُجتمع، ويُشيِئ المرأة، كما يدرس الناقد سعد البازعي كثافة الحضور المديني في الروايات الخليجيّة، كالحضور الكثيف للرياض في ثلاث روايات صدرت على مدى العقدَين الأخيرَين لثلاثة من الكُتّاب السعوديّين هُم: أميمة الخميس وعبد اللّه بن بخيت وبدريّة البشر، أو حضور الكويت لدى إسماعيل فهد إسماعيل، وعُمان لدى جوخة الحارثي، وهو ما حول الرواية الخليجية إلى النص الأهم أحيانا لدراسة واقع وتحولات المدينة الخليجية في العقود الأخيرة.