"خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد".
يدور هذا البيت لأبي العلاء المعري في خلدي وأنا أتجول في مقبرة باب الصغير الواقعة في منطقة باب مصلى بدمشق، فليس هناك متَّسع لموطئ قدم في هذا المكان المترامي الأطراف.
من يمشي فيها ويرى الكم الهائل من شاهدات القبور، لا بُدَّ سيأتيه شعور بأنه من القلائل المتبقين على قيد الحياة، وسيُرجئ التفكير بزحامات العيش المختلفة في سوريا، لينصب تركيزه على أنه الآن أشبه بالناجي الوحيد، أو لنقل شبه الوحيد، فهناك أبو محمد الذي يُرافقه في جولته، ويدلُّه على مواقع القبور التي يسأل عنها، في مسالك أقرب إلى المتاهات، لاسيما مع عدم الرغبة في الدَّوس على من رحلوا، لذا تُصبح الخطى مدروسة، لأننا الآن في حضرة الموت والغياب.
برزخ لتجويد الحياة
"المقبرة برزخ مهمّ لتجويد الحياة" أقولها في سِرِّي وأنا أتتبَّع خطى أبو محمد الذي قضى ما يزيد عن الثلاثين عاماً في "خدمة الأموات".
أسأله: "أيهما أفضل، صحبة الموتى أم صحبة الأحياء؟"، فيجيبني من دون تردد: "بالطبع الموتى"، ويحيلها فلسفةً لإقناعي بكلامه، قائلاً: "حتى يكتمل الحوار ينبغي أن يكون هناك متحدِّثٌ واحدٌ والآخر مُصغٍ صامت، وهذا لا يتحقق في عالم الأحياء"، وكأنه قرأ سابقاً مقولة النُّفري التي تدور في الفلك ذاته.
من يمشي في المقبرة ويرى الكم الهائل من شاهدات القبور، لا بُدَّ سيأتيه شعور بأنه من القلائل المتبقين على قيد الحياة
بداية الجولة كانت من قبر الحافظ المعروف بابن عساكر الموضوع على دوَّار خارج سور المقبرة، وهو عبارة عن هيكل إسمنتي باللون الأخضر. يُصرّ أبو محمد على أن نأخذ معنا بعض الماء لتكتمل شعائر الزيارة برَيّ القبر، ونضع عِرْقاً أخضر فوقه، ونترحّم على كاتب تاريخ دمشق، ومنه ننتقل لقراءة تاريخ تلك القبور ودلالاتها.
ففي هذه المقبرة من دون جميع المقابر، يجتمع معاوية بن أبي سفيان مع شكري القوتلي، ويزيد بن معاوية مع سكينة بنت الحسين وإبان حفيد الرسول، ورفات بلال الحبشي مؤذن الرسول، مع قائل "مآذن الشام تبكي إذ تعانقني. فللمآذن كالأشجار أرواح" والقصد نزار قباني شاعر المرأة والحرية، وعلى مَقام السَّكينة والهدوء يُعيد الفارابي دوزنة قانونه وفلسفته، بينما حسن الخراط يوائم جراحه مع جراحات شهداء كربلاء، وغير ذلك الكثير.
مرتع للزعران
نسعى لأن نعرف أكثر عن هذه المقبرة التي تبتكر تاريخاً سورياً موازياً، فيقودنا البحث إلى ما كتبه أكرم العلبي في موسوعة الآثار السورية الصادرة عن هيئة الموسوعة العربية: "مقبرة دمشق الكبرى، تنسب إلى الباب الصغير الذي يفصل بين جزأي حي الشاغور الجواني والبرّاني. وتقع جنوبي دمشق خارج السور".
ويتابع الكتاب فيخبرنا بأن المقبرة تُقسم إدارياً إلى خمسة عشر قسماً؛ لكل قسم باب خاص واسم، مثل الماوردي وبلال وآل البيت وحفصة وابن عساكر وجرَّاح. وتضم المقبرة تُرَباً خاصة معزولة عن القبور الأخرى خصِّصت للحكام والأمراء والأولياء وآل البيت والصحابة والأعلام، شأنها شأن جميع مقابر دمشق الأخرى.
ويضيف العلبي: "شهدت هذه المقبرة أحداثاً تاريخية مهمة، ومعارك ضارية بين الطامعين بدمشق والحكام ولاسيّما في فترات الفوضى التي أعقبت سقوط دمشق بيد العباسيين. كما كانت ميداناً ومرتعاً واسعاً للزعران، وشهدت مواجهات دامية كانت تستمر طويلاً بين الزعران من المناطق المحيطة المختلفة".
في هذه المقبرة يجتمع معاوية بن أبي سفيان مع شكري القوتلي، ويزيد بن معاوية مع سكينة بنت الحسين، ورفات بلال الحبشي مع نزار قباني، وعلى مَقام السَّكينة والهدوء يُعيد الفارابي دوزنة قانونه وفلسفته، بينما حسن الخراط يوائم جراحه مع جراحات شهداء كربلاء
منذ أوائل الإسلام
المميز في هذه المقبرة أنها أشبه بكتاب للتاريخ صفحاته شواهد ومقامات وأضرحة، حيث تأسست في العام الثالث عشر للهجرة (670 ميلادي)، وهي المقبرة الوحيدة التي بقيت منذ الفترات الإسلامية الأولى وحتى وقتنا الراهن، ومن أبرز الباحثين الذين انتبهوا إلى أهميتها التاريخية خالد معاذ الذي أصدر عام 1977 كتاباً عن المعهد الفرنسي للدراسات العربيّة في دمشق بالتعاون مع الباحثة الفرنسيّة سولانج أوري تحت عنوان "الكتابات العربية بدمشق. شواهد القبور. مقبرة الباب الصغير" كبداية سلسلة لم يكتب لها الاستمرار، لكنها كانت كفيلة بالإضاءة على أهم القبور التي ضمتها هذه المقبرة مع سيرتها التاريخية والتغيرات التي طرأت عليها.
فعبر مائتي صفحة من القطع الكبير نقرأ عن شواهد القبور منذ تأسيس المقبرة وحتّى نهاية العهد المملوكي، ويذكر الكتاب المزود بصور التقطها معاذ أن عددها الإجمالي 85 شاهدة بعضها لا يزال في المقبرة والبعض الآخر نُقل لمتحف دمشق الوطني أو اختفى ولم يبق منه إلا الصور والذكر في المراجع التاريخية.
ويضيف الكتاب أن 49 من تلك الشواهد تحمل تواريخ، والباقي يمكن تخمين تاريخها بصورة تقريبيّة اعتماداً على نموذج الخطّ، كما أعيد استعمال عشرين بالمئة منها في قبور لاحقة وهي ظاهرة دمشقيّة حديثة نسبيّاً يتفق فيها أهل الفقيد مع القيّم على المقبرة بشراء شاهدة أثريّة يطمسون فيها اسم صاحب القبر الأصلي لينقشوا عليه اسم المتوفّي حديثاً.
أقدم هذه الشواهد يعود للقرن الحادي عشر الميلادي والعهد الفاطمي، وهي لضريح فاطمة ابنة أحمد بن الحسين بن السبطي، وهناك قبر بلال الحبشي المؤذّن الأوّل للإسلام الذي توفي حوالي عام 640 للميلاد ويعود قبره للعام 1228، وضريح سكينة بنت الحسين ويعود للنصف الأوّل من القرن الثاني عشر، إلى جانب ضريح مؤسّس الخلافة الأمويّة في دمشق معاوية بن أبي سفيان الذي جدّد عام 1703 في العهد العثماني.
أضرحة آل البيت
وفي مقبرة باب الصغير أضرحة كثيرة لآل البيت أهمها ضريح آمنة بنت الحسين المعروفة بالسيدة سكينة بنت الرباب، وضريح السيدة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، ومشهد السيدة فاطمة بنت الحسين، إضافة إلى مشهد رؤوس شهداء كربلاء وكتبت أسماء 15 منهم وعلى رأسهم العباس بن علي بن أبي طالب.
كما تضم المقبرة مزار عبد الله بن زين العابدين الملقب بعبد الله الباهر، وفيها أيضاً مشهد السيد عبد الله بن الإمام الصادق، ومشهد عبد الله ابن جعفر الطيار زوج السيدة زينب، وقبر والدته السيدة أسما بنت عميس رضي الله عنها، وضريح السيدة أم سلمة زوجة الرسول.
رجالات الفكر والسياسة والأدب
كذلك تضم المقبرة عدداً من العلماء والأعلام منهم أبو نصر الفارابي وهو من كبار فلاسفة المسلمين، وابن عساكر مؤرخ دمشق وعالمها، وابن قيم الجوزية، والشيخ بدر الدين الحسني وقد بني على قبره مسجد ومجمّع دراسي باسمه وسط المقبرة.
كما دُفن في المقبرة محمد فوزي باشا العظم رئيس المؤتمر السوري العام سنة 1919م، والشيخ تاج الدين الحسني رئيس الجمهورية السورية في العهد الفرنسي، وفخري البارودي رجل السياسة والأدب والجهاد، وشكري القوتلي أول رئيس للجمهورية السورية بعد الاستقلال سنة 1943م، وحسن الخراط من قادة الثورة السورية الكبرى 1925م.
وإلى الغرب من جامع الشيخ بدر الدين الحسني مدفن يضم قبر صباح قباني أحد القامات الإعلامية التي أسست للتلفزيون السوري، وإلى جانبه قبر الشاعر نزار قباني وقبر ابنه توفيق وعليه كلمات قصيدة ألفها والده عقب وفاته: "أتوفيق كيف أصدق موت العصافير والأغنيات.. وأن الجبين المسافر بين الكواكب مات.. وأن الذي كان يخزن ماء البحر بعينيه مات.. بأي اللغات سأبكي عليك؟ وموتك ألغى جميع اللغات".
تُرَبْ حديثة وليست أثرية
تتمتّع مقبرة باب الصغير بطراز معماري خاص يعود إلى اختلاف الخصائص البنائية بين ضريح وآخر، وهو ما تؤكده الباحثة في التراث الإسلامي هلا قصقص لرصيف22. تقول: "ينبغي التأكيد على أن التُّرَب ليست مبنية يوم وفاة أصحابها، ومعظمها يعود للعصر العثماني، لكن الأضرحة فوقها بنيت حديثاً، وفي حال وجود بعض الترب التي تعود إلى تواريخ أقدم من العصر العثماني فمن المؤكد أنها تهدَّمَتْ وبُنِيَ فوقها، ولذلك لا يمكن القول إنها مقابر أثرية، مع أن بعضها حافظ على شكله منذ نحو مئة وخمسين سنة".
وتقسم الباحثة تُرَب الصحابة والتابعين وآل البيت إلى ثلاث فترات: "هناك تُرَبْ فترة 1327 هجرية وتضم الصحابي عبد الله بن أم مكتوم والسيدة فضة والسيدة أم حبيبة والسيدة أم سلمة، وهي مبنية من الحجر بمسقط مربع أو مستطيل مختلفة الأبعاد، أغلبها من الداخل مطلي بكلس أبيض، ولها واجهات تنتهي بطرف متدرج أو مائل، بينما تستند القبب الملساء أو المدببة إلى الجدران وتعتمد على الأقواس الجدارية والمثلثات الكروية، وبعضها بلا قبة".
تتمتّع مقبرة باب الصغير بطراز معماري خاص يعود إلى اختلاف الخصائص البنائية بين ضريح وآخر، والقبور فيها موجودة منذ زمن قديم، لكن الأضرحة فوقها بنيت حديثاً، لذلك لا يمكن القول إنها مقابر أثرية
وتضيف: "هذه الترب بسيطة جداً وليس فيها أي زخارف، وأبواب بعضها لا يختلف عن بعض، ولها نوافذ مختلفة الاتساع، ومبنية بالحجر المَزِّي ذي اللون الوردي، ومنحوتة بشكل مداميك، وتعلو كل منها شاهدة مثلثة الشكل وعليها كتابات".
أما تُرب سنة 1330 هجرية فتضم، بحسب قصقص، تربة السيدة سكينة والسيدة زينب والسيدة فاطمة وعبد الله بن زين العابدين وعبد الله بن جعفر الصادق، ومقام الشهداء الستة عشر.
تقول الباحثة: "مسقط هذه الترب مربع تماماً وهي مبنية من الحجر المنحوت بأبعاد متفاوتة، ودائماً يتناوب فيها اللونان الأبيض والأسود وجدرانها الداخلية مطلية بطلاء حديث، وعليها زخارف ليست من أصل البناء، وهناك نافذتان في كل واجهة ليس بينهما اختلاف في السعة والشكل، كما تتعدد فيها أشكال المحاريب، أما القبة فتستند إلى رقبة مثمنة. وقد استخدمت في ترب هذه الحقبة حجارة بيضاء من دون مداميك سوداء".
وتضم تُرَب سنة 1345 هجرية تربة إبان بن عثمان وتربة حفصة بنت عمر، ولها نفس الشكل المربع المبني من حجارة من الأبيض والأسود، ونوافذ في منتصف الجدار.