رافقني الكتاب والكتابة منذ عمر مبكّر جدا. لم تكن تلك كتابة أدبيّة طبعا، بل كانت من خصوصيّات طفولتي وغراباتها؛ ولكنّ هذا موضوع آخر. لعبت القراءة والكتابة في حياتي أدوارا مختلفة حتى التناقض، بحسب المراحل والظروف.
في إحدى مراحل المدرسة الداخلية كانت القراءة نافذتي وطريقي للسفر. وفي مدرسة دمشقية قديمة جدا جدرانها شديدة الارتفاع، بحيث لم نكن نرى من السماء إلا رقعة محدودة، عشت بين عمر الثالثة عشرة والسابعة عشرة. ولم أكن أعبر الباب الموصل إلى الشارع والمدينة إلا مرّتين في السنة. في ذلك الإطار وذلك العمر كانت القراءة طريقي للسفر والمغامرة في الآفاق. كانت وسيلتي لثقب الجدران والارتحال في العالم.
بل لقد ثقبتها فعلا لأسمع الموسيقى الآتية من بيت مقابل.
أظنّ أنّ القراءة صنعتني، أو على الأقلّ لعبت دورا أساسيا في تكويني. ولا أعرف كيف نما ذلك كلّه لتصبح القراءة عندي مركب إنقاذ؛ لا لأنها فقط فعل تواصل بنصّ معيّن وبكاتبه أو صاحبه وحتى قارئه، بل لأنّ كلّ قراءة هي مشروع رحلة مقدّسة في هذه المعجزة التي نعبر بها حدود الزمن والمكان وبها يتواصل الكاتب والقارئ فوق حدود البلدان، واللغات والأجناس والأزمنة. وبها يواصل الكاتب الحياة والفاعليّة: أعني الخيال.
لكن، كلّ قراءة هي في النتيجة ناقصة؛ فلا القارئ المفتون يرتوي ولا النصّ يخلع جميع أسراره.
وهذه لعبة هائلة، من دخل فيها أخذته بعيدا. لأنّ القارئ ربما أضاع طريق التمايز ودخل النصّ.
أقرأ النصّ مرة ثمّ مرة بعد مرّة؛ تغمرني أمواجه؛ فإذا ضيّعت الحدود نسيت أنني أهيّء مشروع مقالة. وحين أتذكّر، أتساءل، كيف أكتب وأنا لم أكمل القراءة؟
ولكن بأيّ معرفة ننهي القراءة ونختم الرحلة؟ سؤال واجهني دائما ولم أعثر على جواب. وعذّبني دائما أن أكتب بدءا من قراءة ناقصة، من قراءة لا تقدر أن تكتمل، وربما قراءة لا تريد أن تكتمل. لأنّني لا أعرف كيف تكتمل القراءة. فأنا منذ تعرّفت إلى الشعرـــــــ وكلّ نصّ عظيم شعر ـــــــ لم أكمل قراءة نصّ أحببته. وبالأخصّ تلك النصوص المراوغة التي تفلت ثم تلوح مثل وعد لا يتوقّف عن النداء، أو تلك التي تلتفّ عليك وتجيء من كلّ الجهات.
هذا لا يعني الادّعاء بأيّ قدرة على تحقيق ما لا يتحقّق. لأنّه إذا كانت هناك فاعلية تدعو إلى التعدّد والاستزادة والاستعادة، فهي القراءة.
لكن إذا كانت القراءة إيقاظ تاريخ في منتصف حلمه وفوران أصدائه، ودعوة للمتاه، فإنّ الكتابة اختراق وتاريخ. وكلّما كان النصّ عظيما، أيقظ الأصداء وجاءت قراءاته متعدّدة. فالقراءة المكتملة غير ممكنة، وهذا من أسرار الشّعر والنصوص العليا.
هكذا اختبرت حتم النقصان.
القراءة هي أولا قراءة الشعر وما أشبهه من النصوص الملهمة. لكنّها أيضا قراءة كلّ تشكيل يدعو إلى التأويل.
القصيدة ليست عين ما كان أو ما يكون، ولا غيرهما تماما. ليست الأثر الباقي ولا المرتقب. هي الاستحضار المفترض الحرّ المشتهى المتحرّك مع حركة الضوء والأزمنة وحركة القارئ. هي المتحوّل الخادع المؤاسي المتخيّل الممكن المرغوب المستحيل الذي كان وتحوّل، لأنه لا شيء يساوي نفسه أو يعود مساويا لذاته بمرور الزمن؛ ولأنّ القصيدة هي ما سيكون ويبقى منتظرا.
لذا فقراءة الشعر رحلة استيهام أكثر ممّا هي استقراء واستقصاء. قراءة الشعر حلم بعد انقضاء الحلم. حلم يرمّم الحلم. حلم في الحلم. مع ذلك هي أكثر حقيقية من الحقيقيّ، أكثر حضورا من الماثل عيانا. في هذا البرزخ يحضر ما لا يحصر ولا يحدّ ولا ينضبط في شكل.
القراءة هي الفعل الباقي والأثر الباقي فوق جسر العبور قبل الفناء، بعد الحدث قبل التحوّل. أثر يؤجّل الوصول لكن يرجئ النسيان.
القارىء متحوّل ومقيم في الزمان، والقول الشعريّ فوق الزمان وخارجه: اكتمل ولم يكتمل وسيظلّ يكتمل.
أنت تعيد القراءة وقد أعادها غيرك وغيّرها؛ والقول الذي تعيده يعيدك، يغيّرك، يلوّنك بألوانه كما تلوّنه بألوانك، يأخذ خيالك إلى أرض جديدة.
تتنزّه القصيدة الجديدة في خيالك، تبتغي قصائد سابقة، تتداخل بها أو تتنافر، وأنت في هذا كلّه متجدّد متوالد مع القراءات، مسافر في التأويل، في الغامض الذي تولّده نصوص لا تستنفد، نصوص قرأتها، نصوص لم تقرأها، أو لم تقف طويلا على ضفّتها لأنّ هناك ما يدعوك، ما يقسرك، ما يفرض عليك الإسراع والانقطاع.
وتكتشف أنّ القراءة وعد ناقص: بينما أقرأ ما كتب يتحرّك خيالي بحثا عمّا لم يكتب. أبحث عمّا ظلّ في خلفية المكتوب، كأقلّ من صدى، أقلّ من ظلّ. ما ظلّ كاحتمال، كسفر، ما ظلّ وعدا، كطريق لا يصل إلى نهايته.
لم تكن القراءة عندي غير هذا الوعد؛ لم تكن غير كوّة تفتح لي ثقبا في سور ليتشرّد عبره فكري وأرسم الحياة. وعبر هذه الكوّة عرفت ولم أعرف العالم المحيط. عبرها سمعت ووهمت.
القراءة أساسيّة وغير شافية في الوقت نفسه. وعدم الاكتفاء سرّ كبير وفضل كبير عندي.
أتشرّد، أطارد ما لم يقل. لو أنه قيل هل كنت أشفى؟ شكّ سيبقى بلا جواب ما دام هناك ما لم يقل. كيف أتخلّى عن هذا الذي لم يقل؟ أو عن وعوده؟
أقرأ. القراءة سمّي وترياقي. فالشعر معرفة بلا معرفة. معرفة داخل المعرفة وفي حلمها. أقرأ التماسا لوعود النصّ واحتمالاته. من صدوعه أسافر ويأخذني التيه: لعبة خطرة.
القصيدة تفلت حين يحسب القارئ أنّه قبض عليها. إذ لو قبض عليها لقتلها الأسر.
"عيناك غابتا نخيل" من فرط ما تكرّرت سقط عنها نداء الأسئلة، صارت توهم بالبداهة. "عيناك غابتا نخيل" لا هي العينان ولا النخيل. ليست المثيل ولا المختلف. جوار لا يضيئه اللقاء ولا الهجر. هي جوهريا لحظة مختلفة. لكنّها وعد. هي وعد بلقاء يوحّد المرأة والكائن الشاعر والمكان ـــــ النخيل والزمان ـــــ السحر، في ما وراء الإمكان والاحتمال والاكتمال. وردّ العبارة إلى المستقرّ في الحال والزمان يلغي القول الشعريّ. بل يلغي إمكان المعنى. المعنى يولد هنا من الاستحالة، الأصحّ من الاستحالة ــــــ الممكنة.
"عيناك غابتا نخيل" تشبيه بليغ كما تقول البلاغة. لكنّ وجه الشبه هارب وعبثا نقبض عليه؛ وأفق التأويل مفتوح إلى ما لا نهاية. فاختر مفتاحك إن كنت من أهل البلاغة أو اختر أفقك إن كنت من رعايا الشعر.
القول الشعريّ هو ما لا يستنفد، إلاّ ظنّا ووهما. إنه ما تبقى بينك وبينه مسافة، سؤال، عدم يقين، احتمال، سؤال يراوغك يطاردك لغزه، يفلت منك يتحدّاك. لا هو معمّى ولا مقفل ممتنع، ما دمت في اللغة، في ذلك الموروث المظنون
"المعيوش" الذي لا يحيط به قاموس.
القول المقفل النهائيّ ميت، أو على الأقلّ ماض مستنفد.
والنصّ، والنصّ الدينيّ خاصّة، مفتوح؛ هكذا يفترض، ما دام رسالة. مفتوح بحكم توجّهه بلا حدود في المكان والزمان والشعوب والقرّاء. هو دعوة للقراءة والقرّاء طالما أنه رسالة غايتها الوصول. وصول بديل عنها خيانة لها، أيّا كانت منزلة الفقيه القارئ. فالنصّ هو مجموع قراءاته لا بعضها. كلّ نصّ هو مجموع قراءاته. لأنه لا يمكن اختزال القرّاء في قارئ واحد ولا الأزمنة في زمن واحد. النصّ رسالة مثل نهر لا يتوقّف عن التجدّد وعن تجديد القرّاء. النصوص الكبرى لم تتوقف قراءاتها ولا توقّف من أوّلوا واكتنهوا. الإقفال على النصّ العظيم داخل قراءة واحدة أو داخل قراءات محدودة بزمان هو مصادرة، وإقفال عليه داخل رؤية فرديّة، ومنعه عن ينابيعه الموعودة الموجودة، حكما، في الناس أي في القرّاء. فكلّ نصّ له في قارئه نبع لا هو الأوّل ولن يكون الأخير.
قراءة الشعر حلم بعد انقضاء الحلم. حلم يرمّم الحلم. حلم في الحلم. مع ذلك هي أكثر حقيقية من الحقيقيّ، أكثر حضورا من الماثل عيانا
تنام القصيدة أو النصّ الإبداعيّ أو النصّ الإيحائيّ ألف سنة ولا تتجدّد أو تتفتح ما لم تجد قارئا حقيقيا؛ وتظلّ بانتظار قارئها أي فاتحها ومجدّد مائها ودلالاتها.
تقرأ القصيدة أو الصورة. تحبّها. تحيّرك تستدرجك للتأويل أو للسفر، تدهشك، تلهمك. شيء واحد لا تقدر أن تحقّقه: لا تقدر أن تنتجها. فمنذ أنتجت لمرة واحدة أخذت منك إلى الأبد، ووضعتك في موضع المسافر لا في موقع المحجّة. أصبحت خارج كلّ تملّك ممكن غير تملّك القراءة والتأويل.
لكن لماذا تشتهي أن تكون قائلها؟ مع ذلك لن تتوقف عن هذا الاشتهاء ولن تتوقف عن وعي الاستحالة، فتعود وتقرأ في محاولة تملّك من مستوى آخر: أن تكون كاشف أسرارها وحارس أنوارها. فهي لك ـــــ لا لك، تفلت وتدعوك بلا توقّف. فقراءة القصيدة جرح، تعطيل للنهائية، وانفجار دائرة.
القصيدة مركز اندياح. وكما يقول جاك دريدا: "حدثها يوقف على الدوام المعرفة المطلقة أو يفسدها". ذلك أنّ الشعر يجرح الكمال فيما يبدأ مشروع كمال آخر. إذ "ليست قصيدةما لا ينفتح كجرح" يقول دريدا أيضا.
من هنا أنّ القراءة وعد مفتوح، فإذا تحقّق نكون قد ختمنا على السحر وأنهينا الرحلة.
من جهة ثانية، القول الشعريّ هو بمعنى ما فعل اقتحام، خلخلة لتوازن سابق وسكينة مستقيلة. القول الشعريّ رسالة ولا مرسل إليه. ومع أنّك تستقبلها بالمصادفة فلن تقدر بعد ذلك أن تصحّح الخطأ غير المقصود. لقد أصابتك ولا رجوع. وهي لك ما دمت قد غامرت نحو سرّها؛ وستبقى لك فخّا مع أنها كشف. لكن من جهة ثانية، القارئ هو وعد القصيدة أو عاشقها الموعود وفاتح سحرها.
لذا فإنّ قصيدة بلا قراءة هي قصيدة نائمة.