تخطي إلى المحتوى
بمناسبة اليوم العالمي لمحبي الكتاب ....مستقبل الكتاب العربي في ظل ثورتي المعلومات والاتصالات بمناسبة اليوم العالمي لمحبي الكتاب ....مستقبل الكتاب العربي في ظل ثورتي المعلومات والاتصالات > بمناسبة اليوم العالمي لمحبي الكتاب ....مستقبل الكتاب العربي في ظل ثورتي المعلومات والاتصالات

بمناسبة اليوم العالمي لمحبي الكتاب ....مستقبل الكتاب العربي في ظل ثورتي المعلومات والاتصالات

في مجتمعنا العربي الراهن لا يذكرون الكتاب إلا مسبوقاً بكلمة أزمة، مشكلة، مأزق، وغير ذلك من المفردات الشاكية الباكية التي يعلنون بها عن شيخوخته واحتضاره، ثم يلتفون من حوله يدندنون بالرقى والتعاويذ لتيسير سكرات الموت عليه، وربما استعدوا لدفنه حياً يرزق، وقرؤوا بعض قصائد المتنبي في مدحه رثاءً له، وما دروا أنهم برثائه إنما ينعون أنفسهم..

قالوا إن الكتاب يواجه ماردين خطيرين: النشرَ الإلكتروني بأوعيته المتنوعة؛ أقراصاً مدمجة وإنترنيت، وإعلاماً يخطف الأبصار بأرضياته وفضائياته.

ومن عجب أن هذين الماردين انطلقا معاً في الوقت الذي أخذت البشرية تتحول فيه بسرعة مذهلة إلى عصر اقتصاد المعرفة، إثر ثورة عارمة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فكيف يتأتى لثورة المعرفة أن تلغي مصدر المعرفة (الكتاب)؟!

لابد أن خطأ ما في المصطلح أو في الفهم أو في الاستخدام، قد رسَّخ في أذهاننا هذه الصورة المغلوطة التي تعجُّ بتناقض صارخ؛ يعلن تمرد عصر المعلومات الوليد على مصدر المعلومات التليد (الكتاب)..

تطور أوعية خزن المعلومات

لكي نستطلع مستقبل الكتاب لابد لنا من التعرف على ماضيه، لكي نضعه في سياق تجربة الإنسان المعرفية؛ إذ بقدر ما نحفر في أعماق الماضي بحثاً عن الجذور بقدر ما تتضح لنا التوقعات في آفاق المستقبل.

فما الكتاب إلا وعاء يختزن المعلومات المتراكمة من التجارب والخبرات البشرية عبر العصور.

كيف نشأ هذا الوعاء؟ وكيف تطور؟ وإلى أين سيمضي؟ وما المعلومات؟ وما المعلوماتية التي تقرع أسماعنا ليل نهار، نعيش في ظلالها. نمارسها ولما يتحدد لنا مفهومها؛ أو تتضح صورتها وأبعادها في أذهاننا بعد؟!

لنبدأ بالمعلومات، ولنحاول أن نفهم مدلولها من خلال خبراتنا الذاتية، من دون رجوع إلى القواميس، حتى لا نضيع في متاهة المصطلحات، فسنجد أنها تعني لكل منا- ببساطة-:

مجموعة الأفكار والأوصاف والتصورات المتعلقة بموضوع معين، والتي نحصل عليها من تجاربنا الخاصة مع محيطنا الطبيعي والاجتماعي.

كيف تعامل الإنسان الأول مع هذه المعلومات؟ لقد عمد بادئ ذي بدء إلى اختزانها في ذاكرته، فكانت ذاكرته الداخلية أول خزانة للمعلومات.. أول وعاء يحفظها له، ليستعيد منها ما يلزمه فيما يواجهه من مواقف جديدة، يتصرف حيالها في ضوء المواقف السابقة المشابهة قياساً عليها..

وعلى الرغم من أن هذه الخزانة لم تكن لتقتصر على ماورد إليها من معلومات عبر التجارب الذاتية والمشاهدات، بل كانت تضيف إليها معلومات جديدة تستولدها بفضل ما وهبها الله تعالى من نعمة العقل وقدرته على التفكير والمحاكمة والمقارنة والاستنتاج، فإن هذه الخزانة كانت من الهشاشة والضعف بحيث تعجز عن الاحتفاظ بالمعلومات لمدة طويلة، وتتركها عرضة للتسرب والضياع بسبب النسيان أو المرض أو الشيخوخة، ثم للفناء، فتموت بموت صاحبها وتدفن معه.

هنا فكر الإنسان بنقل خبراته إلى الآخرين، مستعيناً للتعبير عنها بالحركة والصوت، مكوناً منهما أصواتاً معبرة عرفت فيما بعد باللغة، وباللغة استطاع الإنسان توسيع ذاكرته الفردية إلى ذاكرة جماعية تتناقلها الأجيال المتعاقبة بالرواية، فكانت الرواية الشفهية أولى مراحل التوثيق، التي تكفلت بحفظ المعلومات موثقة، لكنها تركتها حبيسة الصدور، لم تغادر باطن الإنسان وذاكرته الداخلية، فردية كانت أو جماعية.

وظل الإنسان يعتمد على ذاكرته الداخلية هذه، إلى أن اخترع النقش صورةً ينقشها على الصخور، فكانت الصخور أول ذاكرة خارجية يودعها الإنسان معلوماته وأسراره، ليتنفس بعدها الصعداء، مطمئناً إلى أنه أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة.

هكذا كان النقش نقطة البداية في نشوء الذاكرة الخارجية لتكون امتداداً لذاكرة الإنسان الداخلية من جهة، وبمثابة ذاكرة جماعية يستفيد منها سائر الناس في كل الأجيال من جهة ثانية..

ويتابع الإنسان سعيه لتوسيع ذاكرته الخارجية؛ فيبتكر الحرف ليتمكن من التعبير عن العلائق الرابطة بين الصور، ويكتشف مزيداً من الوسائط لاستخدامها أوعية لمعلوماته؛ يكتبها على الألواح الطينية، وسعف النخيل، وجلود الحيوانات، والعظام، ثم البردي فالورق، فاللدائن.

رحلة الكتاب مع الورق

ومع اكتشاف الورق ينشأ الكتاب ليصبح أرقى وعاءٍ للمعلومات وأوثق سجل للخبرات الإنسانية ؛ يبدأ به عصر التدوين المعرفي المنظم، وتتحدد معالمه وتتشعب وظائفه وتتشكل هياكله المتراتبة مرحلياً ؛ من البحث والتأليف الذي يقدم المخطوطة الأم، إلى الورّاق الذي يحولها لنسخ متعددة يضعها تحت تصرف الجمهور، إلى قارئ مستخدم ينقد ويستفيد، ليعيد إنتاج ما قرأ مضيفاً إليه أو معدلاً عليه؛ لتستمر حلقة الإبداع والتراكم المعرفي..

ظل الإنسان ينسخ الكتاب بيده حتى كلَّت، فاخترع الطباعة ليريح نفسه من عناء النسخ، فأمدته الطباعة بملايين النسخ، وطرحت المعرفة بين يديه، ويسرت له سبل اقتنائها.

ومهدت الطباعة الطريق لظهور الدوريات: صحفاً ومجلات، وليتحول الكتاب من أيدي الوراقين إلى دور النشر، ليتربع الكتاب على العرش بوصفه المصدر الرئيسي للمعرفة الأبقى والأكثر وثوقاً.

هذا وقد سجل لنا القرآن الكريم كل المفردات المتعلقة بالكتاب: ن، والقلم، وما يسطرون، والقرطاس، والكتاب، والكاتب بالعدل، والكتب القيمة، وطي السجل للكتب، والكتاب المنشور، والرَّق المنشور، والصحف المنشرة ، وكانت ]اقرأ [ أول آية نزلت فيه، تؤكد للناس أن القراءة مفتاح النهوض إلى الحضارة، وأن للمعرفة آفاقاً بعيدة غير محدودة  ]وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً [ [الإسراء17/85 ].

لقد أدى الورق للإنسان خلال خمسة آلاف عام خدمات جلّى لا تقدر بثمن، ودفع بالحركة العلمية والأدبية أشواطاً واسعة، ووسَّع الذاكرة الخارجية للإنسان، فضاعف معلوماته خلالها أضعافاً كثيرة، إلى أن جاءته المعلوماتية العاتية بقضها وقضيضها، في الثلث الأخير من القرن المنصرم.

المعلومات والمعلوماتية

فما هي هذه المعلوماتية؟ ما خصائصها وما مقوماتها؟

ما قدرتها على التأثير في حياة الإنسان؛ وماذا يمكن أن تغير من حياتنا؟ كيف سيكون وضع الكتاب الورقي إزاءها؟ هل ستتعايش معه، أم ستنقض عليه لتنفيه إلى متاحف التاريخ؟! وما كنهها؟ أهي الوعاء البديل للمعلومات يختزنها بعد رحيل الورق؟ أم هي القوة الخارقة المتمردة على كل الحواجز والقيود، جاءت تحطم السدود وتطلق المعرفة المتراكمة وراءها، لتتدفق مثل سيل العرم، تتفجر بها ينابيع الأرض، وتنهمر بها سحائب السماء، ثم تعلو مياهها مثل طوفان نوح، لا ينجو من الغرق فيه إلا من ركب السفينة.

إن المعلوماتية في أبسط تعريفاتها تعني ((التخزين المنظم للمعلومات والمعالجة الفعالة لتيسير استرجاعها واستخدامها))، وقد أتاحت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أفضل السبل وأكثرها فاعلية لهذه المعالجة، ولم تكتف بتوسيع الذاكرة الخارجية للإنسان بمتواليات هندسية كبيرة، بل إنها وسعت مداركه ووسائل جمع المعلومات التي سلحه الله تعالى بها وجعله مسؤولاً عنها: فلم تعد أذنه مقتصرة على سماع ما كان في مدى السمع المباشر من الأصوات، ولا عينه مقتصرة على مشاهدة ما كان واقعاً في مجال الرؤية المباشرة من المشاهد، بل كشفت عنهما الحجب، وأسقطت المسافات والأبعاد.

ولعل من أبرز خصائص المعلوماتية:

1-اعتمادها على ثروة المعلومات والعمل الفكري، معياراً في تقدم الأمم وارتقائها بديلاً عن ثروة المال ومداخن المصانع وترسانة السلاح.

2-تحررها من قيد المكان، وإسقاطها المسافات والأبعاد .

3-ضآلة الحيز الذي تشغله مع سهولة في التصنيف والاسترجاع والربط بالشبكات.

4-سهولة الاتصال والتخاطب ونقل المعلومات.

5-شيوع المعلومات وتخطيها الحواجز والقيود والاحتكارات.

6-القدرة الكبيرة على التصحيح والتعديل ودمج الصور وتلفيق التواقيع والوثائق مما يستدعي إعادة النظر بأنظمة التوثيق وقوانين البيِّنات.

7-سرعة التطور بوتائر عالية في فترات متقاربة، أصبحت تقاس بالسنوات، بعد أن كانت تقاس بالقرون.

هل ثمة بعد ذلك شك في أن ثورة المعلوماتية التي نعيشها الآن تشكل منعطفاً حاداً سوف يحدث تغييرات جذرية في حياتنا وطرق معيشتنا وأنماط تفكيرنا وسلوكنا وأساليب تعليمنا؟!

إنني واثق من أننا في عصر المعلوماتية نسير بسرعة مذهلة نحو مرحلة جديدة ستتغير معها طبيعة المشكلات وتنقلب الموازين:

-سيحل عمل الفكر محل عمل اليد، وتصبح ثروة المعلومات أغلى من ثروة المال وأكثر وزناً في معايير تقدم الأمم.

-وستنكسر احتكارات المعرفة، لتكون المعرفة في متناول كل إنسان يُعمل فكره، وسوف يقف الفقير مع الغني، والضعيف مع القوي، على عتبة سباق واحدة.

-وستتحرر المعلومات من قيود المكان لتخترق الحواجز والحدود، ويتعذر على أي مجتمع أن يتقوقع أو يتمترس وراء الأسوار.

-وستسقط الوصايات الفكرية وأنظمة الحجر والرقابات، وستنطلق الكلمة حرة بلا حدود.

-وستزول أنظمة الرأي الواحد والاتجاه الواحد، وكل الأحاديات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، ويسود التعدد والحوار.

-وستتراخى قبضة السلطة عن الثقافة، ويشتد تأثير الثقافة على السلطة، ويعلو شأن المثقفين.

-وستتمازج الأمم، ويحل الحوار والتعارف بين الحضارات محل الصراع والتصادم.

-وسيتراجع دور القوة في حل المشكلات، ويبرز دور التفاوض والتفاهم والوسطية في حل المشكلات.

-وسيتقلص دور المدرسة والجامعة، وتتغير مناهج التعليم، وأساليب التدريس، ويشيع التعليم عن بعد، وترتقي مناهجه، بفضل وفرة المعلومات وتطور وسائل الاتصال.

-وستستغني المكتبات العامة عن المساحات الشاسعة لإشادة مبانيها، وعشرات آلاف الرفوف لاستيعاب كتبها، ومئات آلاف البطاقات لتصنيفها وتوصيفها، كما ستسعد ربات البيوت باختزال مكتباتهم المنـزلية في جهاز صغير يشغل ركناً بسيطاً في غرفة المكتب.

-وستتبدل أذواق المتلقين، إزاء وفرة الخيارات.

رحلة الكتاب من الورق إلى الشاشة

وتسألني بعد ذلك عن مستقبل الكتاب العربي في ضوء تطور المعلوماتية والإنترنت..

وأنا ألمح في سؤالك أنك تعني بالكتاب (عربياً كان أو غير عربي) وعاءه الورقي وشكله الراهن الذي استقر عليه منذ مئات السنين، وأشاركك حنينك إليه وإشفاقك عليه بحكم علاقتكما الحميمة، وإلفك له، واستمتاعك بتقليب أوراقه، ونعومة ملمسها..

وألمح كذلك إدانتك لعدوان المعلوماتية عليه، وزعزعة مكانته، وإزاحته عن عرشه، واحتلال مكانه.. وأنك تعد وسائل المعلوماتية - والإعلام جزء منها - سبباً رئيسياً في تراجعه، وفي حالة العزوف القرائي التي يعانيها في بلادنا.

وألمح كذلك تشبثك - قارئاً كنت أو مؤلفاً أو ناشراً - بهذا الكتاب الورقي،واستبعادك لرحيله، وتمنياتك له باستعادة عافيته وشبابه، فلا شيء في نظرك يمكن أن يوازيه في حسناته وجماله ورشاقة قوامه..

فأرجو أن تسمح لي بكلماتٍ، أراك قد بدأت تفكر بها رويداً، بعد أن كنتَ ترفضها بشدة إلى درجة الاتهام بالوهم والمبالغة، عندما طرحتها قبل أكثر من عقد من الزمان.

n فأنا أرى أن الورق في الكتاب التقليدي الذي تتشبث به، لم يكن سوى وعاءٍ لاستيعاب المعلومات، يمثل مرحلة؛ سبقتها مراحل كثيرة استقرت في متاحف التاريخ: نقوشاً وألواحاً ورقائق معدنية وكتباً منسوخة، سينضم إليها كتابك المطبوع، عندما يحل محله الكتاب الإلكتروني، يتلألأ على الشاشة بأحرف من نور..

nوأن الكتاب إنما هو المضمون المعلوماتي المستوعب لا يهمه نوع الإناء الذي سيسكب فيه ولا شكله، بقدر ما يهمه سهولة استخدامه وتلبيته لحاجة المستخدم، فسيبقى الكتاب محتفظاً باسمه (الكتاب)، مهما كان وعاؤه ورداؤه.

nوأن مدافعة الجديد، ورفض التغيير طبعٌ في الإنسان مجبول عليه بحكم الإلف والاعتياد.. إلى أن يُثبت الجديد - على يد المغامرين من الرواد - جدارته وأنه الأكثر نفعاً والأقل كلفة والأعم فائدة، فيقبله ويقبل عليه.

nوأن عجلة التطور الإنساني - مهما تعثرت - فإنها ماضية باتجاه الأفضل والأسمى، والزمن لا يعود إلى وراء..

nوأن التسارع الكبير الذي تشهده الإنسانية اليوم في وتائر تطورها قد قصَّرت الآماد واختصرت المراحل، فلا يزال على قيد الحياة أناس شاهدوا أول سيارة جابت شوارع مدينتهم، وأول مصباح كهربائي أنار بيوتهم، وأول طائرة حلقت في سمائهم، وأول هاتف ومذياع وتلفاز.. حدث ذلك كله في أقل من قرن..

nوأن حلم التعايش بين الكتاب التقليدي والكتاب الإلكتروني القادم لا أراه أكثر من تعايش قطارين يسيران باتجاهين متعاكسين؛ يتقابلان هنيهة، ثم لايلبث القادم بعدها أن يقول للذاهب وداعاً.. أو كتعايش العربات التي تجرها الخيول مع السيارات، تكتفي بنقل السياح في نزهة تفوح بعبق الماضي السحيق.

nوأن على ناشري الكتاب التقليدي أن يتحولوا سريعاً إلى النشر الإلكتروني ويمتلكوا ناصيته قبل أن يصبحوا في عداد المهن المنقرضة، ويدخلوا غياهب التاريخ.

n ثمة مشكلة خطيرة تعترض سبيل النشر الإلكتروني هي القرصنة، التي تسطو على الإبداع لتستأثر باستثماره من دون المبدعين؛ مؤلفين وناشرين، وهي مشكلة حضارية، لم يسلم منها الكتاب الورقي في عالمنا العربي، إذ كانت نسبة 65% من حجم التداول به تذهب إلى جيوب القراصنة، لكنها تفاقمت مع النشر الإلكتروني  وسهولة إنتاجه لترتفع النسبة في تقديري إلى 95% من حجم الإنتاج الإلكتروني، بل إلى نسبة 99% فيما ينشر على شبكة الإنترنت.

nلكنني واثق من أن التطور المذهل في تقنيات المعلومات والاتصالات كفيل بحل كل المشكلات التي تعترضها، وترميم كل النقائص والعيوب التي قد تظهر في النشر الإلكتروني القادم.

المصدر: 
دار الفكر