تخطي إلى المحتوى
تعذُّر ترجمة الكوفيّة الفلسطينيّة تعذُّر ترجمة الكوفيّة الفلسطينيّة > تعذُّر ترجمة الكوفيّة الفلسطينيّة

تعذُّر ترجمة الكوفيّة الفلسطينيّة

تُعَدّ الكوفيّة من أكثر الملابس اقترانًا بالفلسطينيّين وهويّتهم، إذ تناقلوها من جيل إلى آخر، بدءًا بالفلّاح الفلسطينيّ الّذي كان يعتمرها لتقيه من الحرّ والبرد أثناء ممارسته الزراعة، وصولًا إلى ارتدائها بوصفها رمزًا للمقاومة ضدّ الاستعمار الإسرائيليّ. الجدير بالذكر أنّ ارتداءها لم يكن حصرًا على الفلسطينيّين أنفسهم، بل وصل إلى مناصري القضيّة الفلسطينيّة حول العالم، ممّا أدّى إلى ضرورة وجود مفردة قريبة من الكوفيّة باللغات المختلفة، لتيسير عبور المفردة كما عبرت الكوفيّة في حدّ ذاتها. من هنا، يمكن تتبُّع الإشكاليّة في عدم قابليّة ترجمة الكوفيّة إلى لغات مغايرة. وهذا التتبُّع نجده أيضًا حتّى ضمن العربيّة نفسها، وخاصّة بالدارجة، حيث لتتبُّع هذه القابليّة كان لا بدّ من التعريج على مفردة الكوفيّة نفسها، ورحلتها إلى فلسطين؛ فالمثير للدهشة أنّ الكوفيّة ليست أصلًا للفلسطينيّين أنفسهم، لكنّها عبرت لهم ومرّت بأشكال مختلفة، من الشماغ حتّى وصلت إلى شكلها الحاليّ بالأبيض والأسود، وتعدّد أنماطها داخلها.

 

رحلة مفردة ’الكوفيّة‘

بعبور مفردة ’الكوفيّة‘ إلى فلسطين، تشكّلت طبقات من المعنى داخل المفردة نفسها. هذه الطبقات تُمكّن من فهم الكوفيّة كمفردة، وأسباب تعذُّر عبورها إلى اللغات الأخرى. كما أنّ هناك اختلافًا على أصل الكوفيّة نفسها تاريخيًّا. وهذا الاختلاف في السياق التاريخيّ ينتج عنه تأويلات مختلفة للمفردة وطبيعة نسجها على أنّها كوفيّة، خاصّة مع الرقعة الجغرافيّة الممتدّة من بادية العراق وصولًا إلى إيطاليا على سبيل المثال، وسيأتي توضيح ذكر إيطاليا لاحقًا.

بعض المصادر يعود بمفردة الكوفيّة إلى مدينة الكوفة بالعراق، حيث تشير إحدى الروايات إلى  أنّها ظهرت في القرن السابع الميلاديّ، أثناء معركة بين القوّات العربيّة والفارسيّة بالقرب من الكوفة. وقيل إنّ العرب استخدموا الحبال المصنوعة من وبر الإبل – الّتي تطوّرت لتصبح لاحقًا ما يسمّى ’العقال‘ - لتأمين أغطية رؤوسهم وللتعرّف على رفاقهم في خضمّ المعركة. وبعد الانتصار، احتفظ العرب بغطاء الرأس ذلك كتذكير بانتصارهم[1]. وبالولوج لسانيًّا لمفردة الكوفيّة، يمكن اعتبارها مصدرًا صناعيًّا من كلمة الكوفة – وفقًا لهذه الرواية - أي أنّها تحمل معاني هذا اللفظ الأصليّ قبل الاشتقاق - أي الكوفة – وحمولاته

بناء على تلك اللحظة التاريخيّة، تكون الكوفيّة دلالة على الانتصار والوحدة أثناء المعركة. وحين ربطها مكانيًّا كرمز للمقاومة الفلسطينيّة في نضالها ضدّ الاحتلال، فإنّ مفردة الكوفيّة تحمل طبقات من الأمل للنصر في السياق الفلسطينيّ. من خلال مقاربة لحظة تسمية الكوفيّة في خضمّ معركة تكلّلت بالنصر. خاصّة أنّ الاستخدام الأكثر شيوعًا للكوفيّة في فلسطين بدأ أثناء ثورة 1936، إذ أصبح كلّ الفلسطينيّين يرتدونها لمقارعة الانتداب البريطانيّ وحماية الثوّار، بعد أن كان ارتداؤها سابقًا مقتصرًا على الفلّاح الفلسطينيّ نفسه. وهذا يشكّل مرحلة من عدم قابليّة الترجمة، متعلّقة بفردانيّة المفردة في حدّ ذاتها ما بين سياقين مختلفين. وعلى الرغم من هذه المقاربة الوشيكة، إلّا أنّ المفردة تحتفظ بفردانيّتها في هذين السياقين المختلفين، بمعنى أنّ الكوفيّة وفقًا للرواية السابقة هي دلالة على النصر. لكن في المقاربة الفلسطينيّة فإنّ التأويل يكون محاولة لإرساء أساسات من الأمل باحتمال النصر في وجه العدوّ؛ فعدم قابليّة الترجمة في هذه الحالة مبنيّ على تصوّر للمفردة في سياق مقاربة اللحظة التاريخيّة نفسها. وبالتالي يكون هناك مستوًى من عدم قابليّة المفردة للترجمة، من باب عبور شذرات المعنى المتصوّر للكوفيّة، ما بين كوفيّة الكوفة وكوفيّة فلسطين. إن جاز استخدام تفلسف عبور المفردة وحمولاتها كجزء من عدم قابليّتها للترجمة في هذا المقام.

من المثير للدهشة أنّ الكوفيّة ذكرت في كتاب «ألف ليلة وليلة». وكان من ذِكرها أنّها لم تكن لباسًا للرجال فقط، بل كانت للرجال والنساء على حدّ سواء، لكنّها تختلف في القماش وطريقة الارتداء؛ فبالنسبة إلى النساء كانت من الحرير. وذُكرت في «ألف ليلة وليلة» في مواضع منها: "على رأسها كوفيّة، دقّ المطرقة، مكلّلة بالفصوص المثمّنة"[3]. وفي تقديم هايبخت للكتاب،  وضّح مفهوم ’دقّ المطرقة‘ على أنّه زركشة بقطع صغيرة من الذهب أو الفضّة، توضع فوق الكوفيّة أو على أطراف الكوفيّة نفسها[4]. بهذا تكون الكوفيّة المذكورة في «ألف ليلة وليلة» لباس زينة للنساء. في حين كانت تقدّم لباسًا للرجال لتمييز أنفسهم عن أعدائهم في المعركة.  كما أنّ ذكر الكوفيّة في «ألف ليلة وليلة» - الّتي تقع معظم أحداثها في العراق - يؤكّد الرواية السابقة على أنّ الكوفيّة أصلها من مدينة الكوفة العراقيّة. يقول في ذلك الشاعر المصريّ ياسر أنور عن رحلة الكوفيّة ورمزيّتها: 

"بالأمس كانت في العراق

سألتها: كم ساعةً تقضين في تلك الزيارة؟

لم تلتفت، صوت البنادق كان أقوى

واختفت في خندق أو جوف دارة

كوفيّة، صارت دليلًا

أو بديلًا للكلام

علامة تعني انتصاره

فتوحّدت كلّ البلاد وحولها

وقفت تبايعها لتمنحها الإمارة"[5].

وفي ذلك مرجعيّة لأصل الكوفيّة على أنّها من الكوفة. ومن الممكن تأويل هذه الزيارة على أنّها رحلة من العبور ما بين العراق وفلسطين. وعلى أنّ هذه الرحلة مستمرّة. خاصّة مع أوضاع العراق بعد الغزو الأمريكيّ في 2003. وبالتالي تنضج رمزيّة الكوفيّة باعتبارها ’بديلًا للكلام‘. وهذا البديل كونه بصريًّا صامتًا فهو متعذّر للترجمة بشكل كبير وعلى مستويات متعدّدة. ولأجل هذا التعذّر والتفاعل الرمزيّ، أصبحت الكوفيّة شامخة بكلّ حمولاتها المتعدّدة، وقادرة على خلق صوت واحد في ظاهرها، ألا وهو النصر. وفي هذا ربط مع أصل الكوفيّة على أنّ العرب احتفظوا بها دليلًا على انتصارهم في العراق. كأنّ هناك محاولة متجدّدة للحوار مع الكوفيّة في سياقاتها الزمنيّة والمكانيّة في ثلاثة أبعاد. حين بدأت في الكوفة، ومن ثَمّ شيوعها في فلسطين، وحاجة العراق إليها لاحقًا. فهذه التراتبيّة في التفاعل مع المفردة، وما يمكن أن تحمله من معانٍ متشابكة، هو اتّجاه يزيد من عدم قابليّتها للترجمة، بل يفتح أفقًا لتحميلها معاني متجدّدة وعديدة تزيد من تحدّي عمليّة محاولة ترجمتها.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ ذكر الكوفيّة في العراق في ذلك الوقت لم يكن بشكلها الحاليّ في فلسطين - أي الشماغ الأبيض والأسود - فكانت بألوان عدّة وأقمشة مختلفة ما بين الحرير والقطن المشوب بالحرير. في حين غلب عليها القطن في فلسطين. وقال المستشرق إدوارد لين -      أبرز من ترجم «ألف ليلة وليلة» - عن الكوفيّة بأنّها: "منديل مربّع يُلبس فوق الرأس، له من الطول ذراع، ومثله من العرض، وهو من ألوان مختلفة، ولونه أحمر غامق أو ضارب إلى الدكنة، أو من اللون الأخضر الزاهي، ومن الأصفر المرقّط أحيانًا ترقيطات واسعة، وأحيانًا ضيّقة، وعلى طول النهايتين المتقابلتين له هدبات كثيرة مؤلّفة من شرائط وقنزعة"[6]. وهذا ما يتشابه إلى حدّ ما مع الكوفيّة في فلسطين، في ما يتعلّق بالترقيطات وما يمكن أن يقابله بالأنماط في الكوفيّة الفلسطينيّة مثلًا. وهذا يضيف إلى تعذّر ترجمة الكوفيّة، عبر اختلاف شكلها ولونها على حدّ سواء، في رحلة عبورها من الكوفة إلى فلسطين - استنادًا إلى الرواية التاريخيّة السابق ذكرها - حيث إنّ الكوفيّة في فلسطين لم تكن حمراء ولا خضراء زاهية ولا صفراء، بل كان هناك أشكال مختلفة من ’الحطّة‘  كما يسمّيها الفلسطينيّون، وتدخل ضمنها الكوفيّة باسمها ككوفيّة أو مثل الشماغ الأبيض والأسود.

 كما أنّ عدم قابليّة ترجمة الكوفيّة في سياق مكانين مختلفين، تلتقي مثلًا في القنزعة الّتي يمكن اعتبارها حبكة دائريّة تربط ما بين نهاية الأهداب والشرائط. وهذه القنزعة كنمط يمكن تأويلها  كحبّة الحمّص أو العدس في السياق الفلسطينيّ، وربطها بالفلّاح الفلسطينيّ وعمله بالزراعة؛  فبالتالي عدم قابليّة الترجمة هنا لا تقتصر على المفردة في حدّ ذاتها أو تصوّرها التقريبيّ، بل تمتدّ إلى حمولتها الثقافيّة، فتصبح متعذّرة للترجمة ثقافيًّا وتاريخيًّا على حدّ سواء. إن جاز اعتبار رحلة المفردة بين الكوفة وفلسطين رحلة تاريخيّة مكانيّة، يمكن الاعتماد عليها في تتبّع عدم قابليّة ترجمة الكوفيّة كمستوًى ثانٍ من تعذّر الترجمة.

على الرغم من بعض التشابهات الشكليّة الّتي تفترضها مفردة الكوفيّة ما بين الكوفة وفلسطين، كالأهداب على سبيل المثال لا الحصر. إلّا أنّه يتعذّر ترجمتها ما بين هذين السياقين. وهذا التعذّر قد يكون مكانيًّا له علاقة بالأرض وما تنتجه من لغة ومعنًى؛ فطبقات معنى أرض الكوفة لا تشابه طبقات معنى أرض فلسطين؛ فالأرض تعطي معنًى للكوفيّة على مستويات عدّة، حتّى لو تشابه الشكل المبدئيّ فاللون والاسم والرحلة نفسها بحمولاتها تختلف. وهذا الاختلاف هو ما يعزّز عدم قابليّة ترجمة الكوفيّة على صعيد رحلتها من الكوفة إلى فلسطين، عبر تمكين فردانيّة المفردة في السياقات المختلفة.

 

مفردة الكوفيّة ما بين المستشرقين والإنجليزيّة الدارجة

في حين أنّ دوزي يذهب إلى أنّ كلمة الكوفيّة لا علاقة لها بالكوفة، ولا يمكن أن تُنسب إلى أصل عربيّ. ويذهب إلى أنّ أصولها مستمدّة من كلمة Cuffia الإيطاليّة، وCofia الإسبانيّة، وCoiffe  الفرنسيّة، وCoifa البرتغاليّة[7]. إلّا أنّ Coiffe الفرنسيّة تعني القبّعة الّتي توضع على الرأس لترتيب الشعر، كما أنّها تعني طريقة لتهذيب الشعر، ويلبسها كلٌّ من الرجال والنساء[8]. في حين أنّ Cuffia الإيطاليّة تعني القبّعة[9]. وفي المقابل تعني Coifa قلنسوة الجذر؛ أي غطاء رأس جذر النبات[10]. أمّا الإسبانيّة فتعني قبّعة بيضاء للخادمات[11].

ومن الملاحظ أنّ كلّ هذه المفردات تختلف عن كلمة الكوفيّة نفسها، الّتي يُقصد بها غطاء  مربّع كبير للرأس يصل حتّى منتصف الظهر، وبالتالي ففيها من الاختلاف أكثر من التلاقي مع الكوفيّة. وعليه؛ فلا يبدو من المنطقيّ الرجوع إلى هذا التأصيل. وهذا التأصيل في حدّ ذاته يزيد من احتماليّة عدم قابليّة الكوفيّة للترجمة، مع الحفاظ على فردانيّة المفردات السابق ذكرها، إذ إنّ هذه المفردات بحروفها وأصواتها تحاول تطويع إيجاد مقابل لكلمة الكوفيّة، بما يتناسب مع أصوات هذه اللغات الرومانسيّة وحروفها. فلربّما كان هذا التفسير في محاولة لخلق أرضيّة مشتركة ما بين المفردة وكيفيّة صناعة مفردة أخرى قريبة معجميًّا – الكوفيّة في هذه الحالة. وهذا يبرز مستوًى ثالثًا من تعذّر ترجمة مفردة الكوفيّة، خاصّة أنّها في الإنجليزيّة تُكتب بأشكال طبقًا للفظها بالعربيّة وهي كالتالي: Keffiyeh, Kaffiyeh, Kufiyah وفي كتابتها بهذه  الطريقة قُرب من لفظها الصوتيّ العربيّ. كما أنّ بركهات[12] أيضًا يكتبها بشكل مشابه قليلًا Keffie الّتي تتلاقى مع صوت كلمة الكِفِّيّة الدارجة للتعبير عن الكوفيّة.  

 

الكوفيّة كأنماط

تشكّل أنماط الخياطة في الكوفيّة لغة في حدّ ذاتها؛ فكلّ نمط يرمز إلى شيء ما ضمنيًّا،  وخاصّة أنّ هذا الرمز يحمل في طيّاته حكايات شفاهيّة. وهذه الشفاهيّة تمثّل تحدّيًا لقابليّة الترجمة من عدمها؛ فتكثر التأويلات في ما يتعلّق بهذه الغرز، خاصّة أنّ الفلّاح الفلسطينيّ هو أكثر من لبس الكوفيّة قبل ثورة 1936 – أي قبل شيوع ارتدائها بين الفلسطينيّين كافة -  وبذلك فإنّ الكوفيّة تحمل لغة مشتركة بينها وبين الفلّاح الفلسطينيّ؛ فيصبح تأمّل قابليّة ترجمة هذه الغرز – أي غرز الخياطة - متعلّق بهذه اللغة. والتأمّل في هذه الغرز وأنساقها في الكوفيّة يثير احتماليّة صعوبة ترجمة الكوفيّة بكلّ حمولاتها الثقافيّة؛ فيعتبر كاتفورد أنّ النصّ – باعتبار الكوفيّة نصًّا - تتعذّر ترجمته ثقافيًّا في حال حمل سمة موضعيّة لها صلة وظيفيّة وممارسة حياتيّة في اللغة الأمّ. وهذه الصلة غائبة تمامًا عن الثقافة الّتي تجري محاولة ترجمة المفردة إليها[13]. بذلك؛ فإنّ محاولة ترجمة الكوفيّة بكلّ أنماطها تخلق بعدًا آخر من تعذّر ترجمتها، ألا وهو الثقافيّ.

 

تشكّل أنماط الخياطة في الكوفيّة لغة في حدّ ذاتها؛ فكلّ نمط يرمز إلى شيء ما ضمنيًّا،  وخاصّة أنّ هذا الرمز يحمل في طيّاته حكايات شفاهيّة. وهذه الشفاهيّة تمثّل تحدّيًا لقابليّة الترجمة من عدمها...

تعدّدت التأويلات لأنماط الكوفيّة، بدءًا من مزجها بين الألوان الحياديّة – الأبيض والأسود - ورؤيته على أنّه تناغم بين الليل، والنهار، والأرض، والطبيعة[14]. وهذا ما لا يدركه إلّا القريب من الأرض، ومَنْ يفهم لغتها، ليستطيع أن يستشفّ هذه الديناميكيّة. هنا تتعمّق ديمومة علاقة الفلّاح بالأرض؛ فهو يذهب للفلاحة بمجرّد بزوغ ضوء النهار، ويعود حين الغروب. وبالتالي فتأويل اللونين الأبيض والأسود في الكوفيّة يزيد أيضًا من تعذّر ترجمتها مكانيًّا وثقافيًّا على حدّ سواء.

تحمل الكوفيّة خطًّا أسود عريضًا يحدّه من الجهتين بشكل متوازٍ خطّ رفيع. كلا الخطّين يشبهان الطريق أو المسار، وبالتالي علاقة بالمكان وجغرافيّته، حتّى مع فعل المشي فيه؛ فتذهب بعض التفسيرات إلى أنّ هذه الخطوط تعني خطوط التجارة بين فلسطين وجيرانها، وهو أمر قد يضيف إلى سعة عدم قابليّة الكوفيّة على الترجمة مكانيًّا على الأقلّ. كما أنّه يتلاقى مع فكرة الجغرافيا والتاريخ على حدّ سواء؛ أي بمعنى: أين كانت خطوط التجارة، ومع من، وكيف كان سيرها؟ علاوة على ذلك، يضيف هذا إلى خصوبة حيويّة المكان والتنقّل فيه، كما أنّه يعلي من إشباع الكوفيّة بحمولاتها الثقافيّة والحضاريّة في آن واحد، وبالتالي صعوبة ترجمة هذه الحمولة. ومن المثير للدهشة أنّ بعض التأويلات تذهب إلى أنّ الخطّ العريض في الكوفيّة يدلّ على البحر، في حين يدلّ الخطّان الرفيعان على الأنهار في فلسطين[15].

من الممكن أن يتلاقى هذا مع تفسير الخطوط في منتصف الكوفيّة على أنّها شباك صيد، حيث تنتهي هذه الخيوط المتشابكة مثل الشبكة على الخط الرفيع الأوّل – النهر - ومن ثَمّ الخطّ العريض – البحر - أي كما لو أنّ  هذه الخطوط تشكّل طول ساحل المتوسّط والأنهار الداخليّة في فلسطين. ومن ثَمّ تتوسّطها كروم الزيتون الممتدّة – الّتي ترمز إليها الأشكال المتراصّة، كورقة الزيتون بين الخطوط العريضة والرفيعة - في أراضي فلسطين التاريخيّة، سواء بالقرب من البحر، أو في الجبل حيث توجد الوديان، أو في الأنهار؛ ففعل التفلسف في هذه الجغرافيا المكانيّة الطبيعيّة، وتضمينها في شكل بصريّ – ألا وهو الكوفيّة - يفتح مساحات واسعة لكلمة الكوفيّة نفسها، وعبورها حتّى مكانيًّا، وحمولتها الثقافيّة والجغرافيّة. وعليه؛ فلا يكون تعذّر ترجمتها قاصرًا على المفردة وحدها، بل ممتدًّا للغة الّتي تنتجها الأرض ولجغرافيّتها.  

 

فعل التفلسف في ارتداء الكوفيّة

يؤكّد كاسير أنّ الملابس تؤثّر في كيفيّة تمثيلنا لهويّاتنا وتفاعلنا مع الآخرين، وعلى طريقة تأثيرنا  وإسهاماتنا في الثقافات والزمن الّذي نعيش فيه[16]. كما أنّ كاسير يضيف أنّ البشر يخلقون حقائقهم الخاصّة، جزئيًّا، من خلال التحكّم في مظهرهم، وعليه؛ فإنّ الناس يستخدمون الرموز لتلائم خطوط عملهم معًا، والمعاني المرتبطة بهذه الرموز تنبع من التفاعلات الاجتماعيّة مع الآخرين[17]. يصبح فعل ارتداء الكوفيّة في هذا المقام فعلًا اجتماعيًّا ثقافيًّا تفاعليًّا. كما أنّه لخصوصيّة الحالة الفلسطينيّة، ولكون الكوفيّة رمزًا سياسيًّا للنضال والمقاومة؛ فإنّه يحمل أيضًا معنًى سياسيًّا مقاومًا تفاعليًّا. وعليه، تنوّعت طرق ارتداء الكوفيّة بأشكال مختلفة قبل الـ 1936 وما بعدها. وكلّ طريقة ارتداء تشكّل رمزًا وحقيقة خاصّة كما أسماها كاسير، وهذه التراتبيّة والإبداع في طريقة الارتداء تشكّل أيضًا مستوًى آخر من تعذّر ترجمة الكوفيّة بكلّ حمولاتها إلى لغات أخرى.

فنجد أنّ الفلّاح الفلسطينيّ قبل الـ 1936 كان يرتديها بشكل انسيابيّ منسدل، إذ كان يضعها على رأسه، ويرخي طرفيها الاثنين على صدره بشكل انسيابيّ. وهذه الانسيابيّة شكّلت تفاعلًا إيجابيًّا مع البيئة المحيطة، وكانت طبقة هذا المعنى تحمل السلام والطمأنينة في ممارسة الفلّاح لزراعته، بشكله الاعتياديّ قبل أحداث ثورة الـ1936 والنكبة، في حين أنّه منذ ثورة الـ1936 بدأت ممارسة ارتداء الكوفيّة كلثام، أي أصبح هناك تفاعل مع تفلسف فعل التلثّم نفسه لحماية الثوّار. كما أنّ الكوفيّة أصبح يرتديها جميع الفلسطينيّين، ولم تكن حصرًا على الفلّاحين.

 

يؤكّد كاسير أنّ الملابس تؤثّر في كيفيّة تمثيلنا لهويّاتنا وتفاعلنا مع الآخرين، وعلى طريقة تأثيرنا  وإسهاماتنا في الثقافات والزمن الّذي نعيش فيه (...) البشر يخلقون حقائقهم الخاصّة، جزئيًّا، من خلال التحكّم في مظهرهم...

 من الجدير بالملاحظة أنّه بعد النكبة والهجرة القسريّة، الّتي تعرّض لها الفلسطينيّون، أصبح الفلسطينيّ يلبسها في مخيّماته، سواء في الشتات أو في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، عبر إرجاع كلا الطرفين إلى الخلف. ويمكن لهذا التفلسف أن يُرى على أنّه اعتراض على الواقع المعيش، خاصّة أنّ أغلب الصور المرفقة للكوفيّة في تلك الفترة اتّحدت على هذه الطريقة في الارتداء؛ فتخلق هذه التقنيّة من الارتداء بعدًا فلسفيًّا آخر يحاول التعبير عن الهويّة الفلسطينيّة، والاعتراض على التهجير القسريّ والويلات الّتي يعيشها الفلسطينيّون؛ فأصبحت هذه الحالة من تعذّر ترجمة الكوفيّة فعلًا مقاومًا للغة في حدّ ذاتها، أي فعلًا مقاومًا لعبورها بصيغ مختلفة، حيث من الممكن أن تستشعر المفردة القلق حيال إيجاد مفردة من الممكن أن تُشبَع بكلّ هذه الطبقات، من المعاني والحكايات الضمنيّة داخل سياق الكوفيّة، كلباس وكنصّ على حدّ سواء.

 وهذه الحكايات والتفاعل مع الكوفيّة لا تنقطع على الإطلاق؛ فحتّى الشهيد الفلسطينيّ يُتوَّج رأسه بالكوفيّة الفلسطينيّة، حيث تتّحد مع روحه ومع الأرض حين دفنه. وتشكّل حالة من العناق الكلّيّ لطبقات المعنى الّتي كوّنتها الكوفيّة، بدءًا من عبورها من الكوفة – بعد الانتصار في المعركة - وصولًا إلى فلسطين ودفن الشهيد متوَّجًا بها؛ لخلق حوار تفاعليّ آخر في الأرض نفسها.


 

المصدر: 
مجلة فسحة