شهدت الأسابيع الماضية حدثين ذوي دلالة يتعلقان بكرة القدم في الملاعب العربية. تمثّل الأول بمباراة فريق الاتحاد السعودي مع الأهلي المصري، والثاني جاء بعدها بأيام، بعد وقف إقامة مباراة غلاطة سراي التركي مع فنربخشة في الرياض. وما لفت النظر في كلا الحدثين، ليس المباريات بحد ذاتها، وإنما ما رافقها من تعليقات وهتافات وطقوس، كشفت أنّ ملاعب كرة القدم في المدن العربية والشرق الأوسط عموما، تحولت إلى المكان البديل أحيانا لفهم ما تعيشه هذه المدن من تحولات وانقسامات وتوترات، سواء محلية، وحتى إقليمية.
قبل وأثناء إقامة كأس العالم في قطر عام 2022، انفجرت الكتابات في الصحف العربية حول تاريخ كرة القدم وذاكرتنا المحلية مع اللعبة. بيد أن هذا الاهتمام سرعان ما تراجع. لكن يبدو أن الأحداث في المنطقة باتت تجبرنا جميعا على عدم التعامل مع ظاهرة كرة القدم العربية بوصفها ظاهرة هامشية أو مرتبطة بالمناسبات، وإنما أصبحت أكثر ارتباطا بالحياة اليومية في المدن، إذ باتت ملاعب كرة القدم العربية، أو أماكن التشجيع في المقاهي، أو في أي أماكن أخرى، الفسح الأخيرة لمئات الآلاف، إن لم نقل الملايين، من الناس العاديين للتعبير عن وجودهم ورغبتهم بالفرح والترفيه، وأيضا للتعبير عن هوياتهم وانحيازاتهم. ولعل هذا ما رأيناه في هتافات مشجعي ناديي الاتحاد السعودي والأهلي المصري، التي عكست في بعض عباراتها حالة التوترات والتغيرات الإقليمية، وصعود قوى الخليج مثلا في مقابل تراجع دور المشرق العربي عموما. وهذا ما شهدناه في هتافات مشجعي الأهلي «واحد اتنين.. الكبسة راحت فين» في إشارة رمزية تعكس صعود الدور السعودي في المنطقة، الذي لم يعد يقتصر فحسب على الواقع السياسي، بل أخذ يشمل نواحي أخرى ثقافية وإعلامية ورياضية. وفي ظل هذا الشعور نرى العقل الشعبي، أو اليومي يندفع للتعبير عن هذه الحالة والتوتر من خلال ربط السعودية بأكلة الكبسة، ما دفع بمشجعي نادي الاتحاد لاحقا بعد خسارة الأهلي مع فريق برازيلي إلى ترديد شعار «واحد. اتنين.. فين الطعمية فين» في إشارة لربط صورة مصر في السنوات الأخيرة بالأوضاع الاقتصادية الصعبة (الفول). وهنا يظهر الطعام برفقة كرة القدم هذه المرة، بوصفهما الأدوات الجديدة للتعبير عن الهويات والتغيرات في المنطقة.
ويبدو أنّ هذا التوتر الناعم، إن صح التعبير، لم يقتصر فحسب على العالم العربي، بل نراه يعبر عن نفسه في مدن أخرى في الشرق الأوسط. كما ظهر من خلال انسحاب فريق الاتحاد السعودي من إحدى المباريات في طهران، بسبب وجود مجسّم لقاسم سليماني. وبرز كذلك في مباراة الفريقين التركيين في الرياض، الذي عكس حالة الصراع المحلي التركي بين السلطة والمعارضة من ناحية، وأيضا حالة من الحساسية الهوياتية بين الأتراك والعرب عموما.
وأمام هذه التطورات، أصبحت ملاعب كرة القدم بمثابة مختبر جيد وحيوي لفهم واقع المدينة العربية، وأيضا واقع المنطقة عموما. وهذا يعني ضرورة إيلاء ملاعب كرة القدم اهتماما أوسع بوصفها مساحات غنية لدراسة الشرق الأوسط. ولعل هذه الأهمية هي ما عكسه عنوان كتاب الصحافي الأمريكي في «نيويورك تايمز» جيمس مونتفيو «عندما يأتي يوم الجمعة» الذي لا يقصد فيه إقامة الصلاة في الجوامع، وإنما لأن هذا اليوم بات مصبوغا في العالم العربي لسنوات طويلة بإقامة مباريات كرة القدم.
يوميات صغيرة
الدعوة للاهتمام بدراسة الملاعب وكرة القدم، قد تحمل أكثر من مستوى، إذ لا يقتصر الاهتمام بالضرورة على دراسة هتافات المشجعين، أو مجموعات الألتراس، وإنما يشمل زوايا صغيرة أيضا. أشياء مثل كتابة سيرة حياة أحد المشجعين وعلاقته بكرة القدم والذهاب للملعب، وانعكاس تشجيعه لفريق محلي معين، على صداقاته، ورؤيته لتاريخ المدينة التي يعيش فيها. وقد شكّل هذا المدخل فكرة كتاب «لولا فسحة الملعب» أدهم عبد الله، منشورات أوكسجين. إذ يقرر معد الكتاب ألا يشغل باله فقط بمتابعة وتدوين هتافات المشجعين، وإنما أيضا البحث عن واحد من أولئك المشجعين ليروي لنا قصته مع ناد متيم به. ومن خلال هذه الخطة، استطاع المعد (أدهم عبد الله) تعريفنا بذاكرة وحيوات وأمكنة وهوامش جديدة في المدن العربية.
العالم فسطاطين: أهلاوي أو زملكاوي
يتوقف المؤلف في أولى محطاته عند مشجع لنادي الأهلي المصري أحمد شريف. ومن خلال سيرة هذا المشجع نكتشف أن علاقته بالنادي لم تأت صدفة، بل جاءت بناء على علاقات القرابة، وأن العلاقة بنادٍ معين غالبا ما تأتي من خلال التأثر بالبيئة والذاكرة والماضي الذي نعيشه. كما نكتشف من خلاله كيف أعاد تشجيعه لهذا الفريق ترتيب علاقاته بالناس المحيطين، أو بطقوس بعض الأيام. ففي «يوم المباراة هو يوم لنفسي فقط. لا أستقبل المكالمات، لا أقابل أحدا، ولا أتكلم مع أحد.. ذلك أن أي شخص ألتقيه أو أتكلم معه قبل المباراة وتنتهي بخسارة الأهلي ـ لا سمح الله ـ يعني قطيعة بيني وبين هذا الشخص». وهذا الانقسام الهوياتي داخل المدينة، نراه أيضا في قصة أحد مشجعي الزمالك، الذي يرى «أن كل مصري بشكل عام أو قاهري بشكل خاص، يولد على حب كرة القدم، فأبواه إما أن يزملكانه أو يأهلوانه». وهذا ما يظهر مدى تحول كرة ملاعب القدم إلى أماكن للتعبير عن الحساسيات الحضرية. لكن هذا لا يعني أن الملاعب قد تحولت إلى ساحات سياسية مباشرة، إذ يبدو المشجعون أكثر إدراكا لخطورة هذا الأمر، ولذلك نراهم يؤكدون على أن علاقتهم بكرة القدم وقبل كل شي هي علاقة حب للعبة وإدمان لسحر الكرة.
فرسان مكة
ويبدو أن البحث عن هوامش جديدة، هو الذي حكم محرر الكتاب عند الحديث عن سيرة أحد مشجعي الأندية الكروية السعودية، فبدلا مما هو جار اليوم من تركيز على نواد مثل النصر أو الهلال أو الاتحاد، نراه يقرر تتبع حياة نادي الوحدة المكاوي، والذي يقبع هذه الأيام في المراتب الأخيرة للدوري السعودي الممتاز. ويعود تأسيس النادي إلى عام 1916، ويفخر أبناء مكة بتشجيع فريق مدينتهم، كما يذكر أحد المشجعين «أن حب نادي الوحدة يأتي بالوراثة من الجد للاب للابن». نعرف من سيرة المشجع، أن المكاويين كانوا من أوائل من استخدموا مكبرات الصوت والطبول والعود في الملاعب، كما أن ما ميز الفريق هو أغاني مشجعيه الحجازية.
وبالانتقال إلى مدينة اللاذقية السورية، نعثر على يوميات مشجعين من فريقي/ الإخوة الأعداء (تشرين وحطين). ويبدو أن أسماء النوادي السورية ارتبط بالتحولات السياسية التي عرفتها البلاد في المئة سنة الأخيرة. فعلى صعيد نادي تشرين، سمي النادي بداية باسم نادي الجلاء، ارتباطا بفكرة خروج الفرنسيين من سوريا عام 1946. وبعد قدوم حزب البعث، حمل النادي اعتبارا من 1977 اسما جديدا (تشرين) على اعتبار تزامن تشرين مع حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. ويبدو أنّ هذا التغير على صعيد أسماء النوادي وارتباطه بالحدث السياسي شمل كل النوادي السورية تقريبا. وتشهد على ذلك، أسماؤها قبل وبعد قدوم البعث مثل: الاتحاد (الأهلي سابقا) الحرية (النادي العربي سابقا) الفتوة (نادي غازي سابقا). كما يبدو من خلال كلام المشجع أن نوادي كرة القدم كانت بمثابة فرصة للتعرف على جغرافية سوريا قبل 2011. فخلال عقود طويلة، ظلت هناك صورة مركزية تحصر البلاد بعدد من المدن الرئيسية مثل دمشق وحلب وحمص، في حين استطاعت مباريات كرة القدم، أو برامج مثل ملاعبنا الخضراء الشهير، من تعريف المشجعين بمدن أخرى مثل القامشلي أو دير الزور أو درعا. نرى الشيء ذاته في حياة مشجع نادي حطين، الذي ولد في حي الصليبة التقليدي في المدينة. ويعتقد هذا المشجع أنه في اللاذقية، إما أن تكون حطينيا (أزرق وأبيض) أو تشرينيا (أصفر وأحمر). ومن القصص الطريفة التي يرويها عن يومياته مع كرة القدم، أنه منذ صغره كان يذهب مع جده إلى صلاة الجمعة، وكانوا يختارون شيخا معروفا بخطبه السريعة، لأن الجمعة هو يوم الدوري السوري، ولا يريدون التأخر عن الملعب.