اعتدنا نهاية كل عام، أن نلقي نظرة أخيرة طويلة، على العام الذي انقضى، وأخرى قصيرة متأملة، في محاولة قراءة معطيات لا تتوفر للعام الذي أتى، لكن قد تكون ثمة بوادر لحوادث سوف تحدث، وغموض في المستقبل سينجلي.
ولو نظرنا إلى عام 2021، سنجد كثيرا من الشرور، وقليلا من الأمور التي يمكن اعتبارها خيرة، ونستطيع الزهو بها، فالعام الماضي باختصار شديد كان امتدادا مروعا للذي قبله، في مسألة تغير العالم نحو الأسوأ كما أعتقد. فقد سيطر كوفيد 19، أو لنقل مد سيطرته على العام كله، ونتجت متحورات عديدة منه هنا وهناك مثل دلتا الهندي، قاومت المكافحة، وصنعت تلك الدهشات المستاءة التي كنا نندهش بها، تجاه فيروس لا يرى، لكن استطاع، وبإصرار عنيف أن يحدث كل تلك الخسارات.
سنتعرف على اقتصادات كثيرة، انهارت، ومناشط ثقافية وسياحية، وندوات هنا وهناك، تجمدت، وإن كانت بعض الدول قاومت ذلك العنف الفيروسي، وأقامت نشاطاتها، حسب الجداول الموضوعة، وكانت ثمة مكاسب، أقلها المكاسب المعنوية، حين نحضر معارض للكتب، وندوات ثقافية، وأيضا لا يمكن نسيان مهرجان كأس العرب في الدوحة، الذي كان حدثا استثنائيا عالي الصوت، كلنا ابتهجنا به، وتابعنا تلك المباريات الممتعة، وحتى انتهى قرب نهاية العام بعد أن خلق فرحا كبيرا.
أعتقد في 2020 كانت مباغتة الفيروس عظيمة، وكان الأمر معتما بشدة، ولا تبدو ثمة مخارج واضحة، لكن في 2021، اكتشفت اللقاحات المختلفة، واستطاعت أن تقدم حلولا جيدة، وأصبح بإمكان الذين تلقوا الجرعات الأولى والمعززة للقاحات، أن ينطلقوا في مهامهم المؤجلة، لكن أيضا بحذر، فلا يزال الأمر يحتوي على شيء من الخطورة، وكما قلت ظل الفيروس مسيطرا ما يزال بأخباره وأخبار مكافحته، يهدأ ويغضب، وتلك شيمة الفيروسات التي رصدت منذ الأزل، أو شيم كل الميكروبات التي تقاتل الإنسان ويقاتلها، أن تنام تارة، وتستيقظ بعنف تارة أخرى. وهنا لا بد أن نتحدث عن الأدوية التي تم تجريبها، والتي نجح بعضها وأخفق البعض الآخر، عن العنايات المكثفة، والكمامات، وازدهار الأجهزة المساعدة على التنفس، وأشياء كثيرة، ما زالت تعمل، وتآلف معها الإنسان كأنها وجدت مع وجوده. لدرجة أن يبدو الوجه غريبا حين ينزع أحدنا غطاءه، وقد يكتشف أحدنا فجأة أن التجاعيد زادت عنده، وأن ثمة نمشا نبت خلسة في وجهه، أو خدوشا ما، لا يعرف مصدرها، وهكذا.
وعندنا في افريقيا أمراض كثيرة جدا، تنعم بهذا الاستيطان، ولا تشكل هوسا عند أحد، أو كابوسا يجب الاختباء منه، على الرغم من أنها قد تعطل التنمية في تلك القارة التي لم تترك لها الأطماع السلطوية، والانقلابات العسكرية المتواصلة، أي أمل في تنمية، إنها قارة فقط، قارة فيها سكان وكنوز، لا يستطيع السكان الاقتراب منها.
هذا العام الذي بدأناه، كما قلت فيه بعض المبشرات، في موضوع كوفيد 19، فالمتحور الأخير الذي سمي أوميكرون، على الرغم من سرعة انتشاره، وأنه يجر ملايين الناس بسرعة إلى عرينه، ويضفرهم بحبله، إلا أنه ضعيف في إحداث الخلل، ومعظم المصابين به، يحسون بأعراض طفيفة، أو لا يحسون بأي أعراض على الإطلاق، وهذا مبشر بقرب نهاية الكابوس كما أعتقد، ويعتقد معي كثيرون حول العالم، فالكوابيس تبدأ كبيرة جدا، ثم تضمحل شيئا فشيئا إلى أن تندثر، والأمراض الوبائية في مقدورها أن تتحول بالتدريج ومقاومة الأجساد المستمرة، إلى أمراض مستوطنة، تستقر في مكان ما، قريبة من سكانه، تعرفهم ويعرفونها ويمكن أن يستخفون بها حتى.
وعندنا في افريقيا أمراض كثيرة جدا، تنعم بهذا الاستيطان، ولا تشكل هوسا عند أحد، أو كابوسا يجب الاختباء منه، على الرغم من أنها قد تعطل التنمية في تلك القارة التي لم تترك لها الأطماع السلطوية، والانقلابات العسكرية المتواصلة، أي أمل في تنمية، إنها قارة فقط، قارة فيها سكان وكنوز، لا يستطيع السكان الاقتراب منها. الملاريا نموذجا، الملاريا التي يمكن مكافحتها بمكافحة البعوض، لكن يبدو أن البعوض صديق للحياة هناك لا يود أحد مكافحته.
أيضا السل الرئوي الذي لم يعد هاجسا عند أحد، وقد تطور علاجه، وتطورت مكافحته، وكان في يوم ما، مرضا طويل القامة، وباطشا، ويمكن أن يهلك بلا رحمة، وكنت في بداية تسعينيات القرن الماضي، أعمل مفتشا طبيا في منطقة طوكر شرق السودان، كان السل الرئوي هناك حقيقة أراها يوميا، وأحاول مع المحاولين أن أقدم شيئا، لكن الإمكانيات كانت ضعيفة، والإعانات التي تتقيؤها المنظمات الأوروبية، لا تكفي لرفع الضرر عن أحد، أيضا كانت توجد أمراض سوء التغذية، أمراض مطابقة للصور الملونة في الكتب، وكان شيء لا يصدق، أن أمراضا علاجها الغذاء، ولا يوجد غذاء صحيح.
على الصعيد الثقافي، قلت أقيمت كثير من الفعاليات العام الماضي، لكن ما أدهشني استمرار نشر الكتب، على الرغم من كل الصعوبات التي واجهت صناعة النشر، وكنت توقعت عكس ذلك، الناس في عزلتهم القسرية، استمروا في الكتابة، بعضهم كتب أعمالا كثيرة، كأن الوجود داخل الكتابة، خيط يمسك به جانبا من الحياة العامة التي يفتقدها، ونشأت دور نشر جديدة، تحملت أعباء نشر هذا التراكم الكثير، أيضا لم تتوقف ترجمة الأدب العربي إلى لغات أخرى، كما كنت أتوقع، بل نشطت الترجمة، وانتقل كثير من الأعمال الأدبية لكتاب عرب إلى لغات أخرى، كان هذا أمرا جيدا بالفعل، أن لا يقف كوفيد 19 رغم جبروته، عائقا أمام هذا التواصل الحي.
في النهاية، تبدو بعض الخسارات مهمة، ولا بد من التوقف عندها، فقد خسرنا نحن في جانب الكتابة عددا من أصدقائنا الكتاب، الذين إما اغتالهم الفيروس الضاري، أو رحلوا هكذا، لأن لا بد من الرحيل يوما، وفي نهاية العام رحل جابر عصفور، الأستاذ الحقيقي لأجيال من الأدباء والنقاد، إنها خسارة بالفعل، لها طعم شديد المرارة.
عموما نتطلع للعام الذي جاءنا، لعله عام خير، لا أحد يدري.