في بدايات القرن الثامن عشر، كان المستشرق الفرنسي أنطوان غالان قد نشر عدة أجزاء من ألف ليلة وليلة. وهي حكايا قام بجمعها على مدى سنوات طويلة. والطريف في هذا السياق، أنّ غالان سيذكر في يومياته أن هناك شابا حلبيا يدعى (حنا دياب) هو من روى له قصصا عديدة، ومن بينها قصة حكاية «علاء الدين ومصباحه السحري». وعلى الرغم من أنّ يوميات دياب نُشِرت لاحقاً، وأشار فيها إلى هذه الجزئية، إلا أنّ هناك تيارا أوروبيا رفض هذا الربط، وأصرّ على أنّ هذه الحكاية أو غيرها من الحكايا هي وليدة الخيال الأوروبي.
ويبدو أنّ النقاش حول أصالة الليالي العربية وجذورها، دفع عددا من الباحثين المهتمين بهذا الشأن إلى الكشف عن مخطوطات أخرى تدحض السردية الأوروبية. ويشكّل هذا الاهتمام محور كتاب «إحدى عشرة ليلة وليلة»، الصادر عن دار الجمل، إعداد الباحث خالد الشيخ أحمد، والمستشرق يوسف سادان، صاحب عدد من الأطروحات حول الليالي العربية.
حاول الباحثان في هذا الكتاب الكشف عن مخطوطات جديدة، أو «مخطوطات أم» إن صح التعبير لليالي العربية. ومن خلال هذه المخطوطات سنرى أن ما عرف لاحقا بحكاية علاء الدين أو قصص جحا أو غيرها، إنما هي وليدة حكايا كتبت في القرن السابع عشر، ما يعني أن ربط علاء الدين بالمخيال الأوروبي هو ربط غير تاريخي. كما تكشف لنا هذه الحكايا عن نقطة جديدة وهي، أن الليالي العربية التي نشرت في القرن الثامن عشر مع غالان، وطبعت لاحقا في مطبعة بولاق المصرية عام 1835، لم تكن وليدة قصص قديمة بالضرورة تعود لفترة العباسيين، وإنما هي نتاج البيئة السورية ـ المصرية في القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين.
خياط وعفريت
يرى الباحثان من خلال دراستهما لمخطوطات مهملة في المكتبة الوطنية في باريس، ومن بينها مخطوطة بعنوان (حكاية السكندري الخياط مع دنكز)، وتعود للقرن السابع عشر على أقل تقدير، أنّ في عناصرها الكثير من الأشياء التي تحدث لاحقا مع علاء الدين ومصباحه (والتي نشرها غالان في القرن الثامن عشر)، ما يعني أنّ القصة الأم قد ولدت في المشرق العربي. ولعل ما يؤكد هذا الاستنتاج هو قيام الباحثين أيضا باستخدام أجهزة للكشف عن المخطوطات، التي أوضحت أن الورق الذي كتبت عليه المخطوطة أنتج في القرن السابع عشر على أقل تقدير.
في قصة السكندري، نعثر على قصة خياط من الإسكندرية ورث عن والده الكثير من المال. «وبينما هو ذات ليلة نائم، وإذ بهاتف يقول له: هذا المال الذي معك مالك فيه نصيب»، وأنه من نصيب رجل في دمشق. حينها قرر الشاب الخياط وضع ماله في صندوق نحاسي وقام برميه في البحر المالح. بعدها بفترة سافر الشاب إلى دمشق، وهناك تعرف على رجل دمشقي أخبره بقصة عثوره على صندوق من النحاس. حينها أخبر الخياطُ الشابَ بمواصفاته وبما يحتويه. فطار عقل الشامي ودهش لبه ووقف متحيرا، وطلب من الشاب الإسكندري البقاء عنده، لكن الأخير فضل عوضا عن ذلك العودة إلى مدينته. ومع هذا القرار يبدو أنّ الحكاية قد قاربت على النهاية، لكن الحكواتي يقرر اختلاق قصة أو حجة لإعادة الشاب إلى دمشق مرة ثانية. فالشاب الذي زار المدينة للمرة الأولى، لم تتح له فرصة التعرف عليها بعد انشغاله بالرجل الشامي. ولذلك قرر في منتصف الطريق العودة إليها وزيارة الجامع الأموي وباب الجابية. وفي هذه العودة، لمح الشاب فتاة وكأنها البدر. وعندما سأل عنها عرف انها ابنة حاكم دمشق المملوكي سيف الدين تنكز، الذي حكم دمشق في النصف الأول من القرن الرابع عشر. وهنا نلاحظ أنّ الأوصاف وجغرافية المدينة التي يتحدث عنها الحكواتي لا تنطبق على أوصاف دمشق القرن الرابع عشر (زمن تنكز)، بل تعود إلى فترات لاحقة (القرن السادس عشر أو السابع عشر)، وهي خطة كتابية أو شفوية يبدو أن حكواتية مدينة دمشق قد اتبعوها لتجاوز الرقابة العثمانية، التي كانت هي السائدة في ذاك الزمن. في كل الأحوال، قرر الشاب بعد ولعه بالفتاة، البقاء في المدينة، والعمل كخياط لدى أحد شيوخ الكار الخياطين. ولأن مقامه بات طويلا، قادته الأحداث إلى استئجار أحد منازل المدينة. على الرغم من أنّ هذا المنزل كان مشؤوما وما سكنه أحد إلا توفي بعد عدة أيام. مع ذلك مضى الشاب في تنظيف المنزل، وفي هذا المشهد نجده يعثر على مصباح صغير، فقام بتنظيف ووضعه في مكانه. وحينما أدار ظهره وإذا بالأرض تهتز من تحته، ويجد نفسه أمام عفريت ضخم. وفي هذا المشهد ما يذكرنا بقصة علاء الدين ومصباحه. أخذ العفريت يعلم الخياط بأنه أول شخص يسكن الدار ويقرر تنظيف المصباح، بينما اكتفى قاطنوه السابقون بركل المصباح ولذلك كان يقوم بقتلهم. المهم في هذه القصة، أنّ العفريت وفر للخياط كل ما يرغب به، وأهم شيء احضار ابنة تنكز إليه. وبالتالي من خلال هذه القصة المكتوبة في القرن السابع عشر على أقل تقدير، نرى أنها تتوافق في عناصرها كثيرا مع القصة التي نشرت لاحقا عن علاء الدين ومصباحه السحري (في القرن الثامن عشر) على صعيد مسح المصباح، وظهور العفريت، وعرض العفريت نفسه لخدمة الشاب. وهذا ما يدحض فكرة أنّ قصة علاء الدين هي نتاج المخيال الأوروبي، بل هي وليدة القصة الأم، بيد أنها شهدت إعادة خلق وصياغة من جديد مع عناصر جديدة.
سندباد وصيادون
في مكان آخر من الكتاب، نعثر على حكاية بعنوان (حديث جزيرة الزمرد). وهي حكاية أقرب ما تكون لمغامرات بحرية، نرى من خلال الحكاية أنّ حكاية السندباد البحري اشتقت منها وتطورت وانضمت إلى مجموعة ألف ليلة وليلة. وفي حكاية أخرى بعنوان (سيرة الريس وما جرى له مع بنت ملك الإفرنج)، نتعرف على بطل القصة الذي باع جاريته مريم التي وقع في حبها، بعد أن سكر ولم يدر ما يفعل. فعلم بعد ذلك أنها نقلت إلى القسطنطينية، ولذلك حاول بعض الرواة الأوروبيين لاحقا القول إن هذه القصص قد جرت في القرون الأوروبية اللاحقة (القرن السابع أو الثامن عشر)، في حين يبين الباحثان من خلال قراءتهما لمتن الحكاية، أنها وليدة البيئة المصرية كذلك، إذ ليست هناك في الحكاية أسماء للبلدان أو المدن التي زارها (باستثناء اسم القسطنطينية)، وحتى اللباس والعادات التي تتحدث عنها الحكاية من المحتمل أنها اقتبست من حياة مسيحيي مصر. فمثلا يأتي على ذكر تفاصيل عن اللباس مثل (الغيار)، الذي ميز لباس المسيحيين في مصر وبلاد الشام في القرن السابع عشر، ما يعني أن هذه الحكاية قد ولدت في بيئة مشرقية/عربية، وأنّ المشارقة أبدعوا في إنتاج مئات الحكايا والقصص قبل أن يعمل غالان على نشرها، وأحيانا تطوير بعض عناصرها، في قرن لاحق.