لم يستسلم الطفل الفلسطيني للظروف الحياتية القاسية التي يعيشها داخل مُخيمات النزوح والشتات والتهجير القسري، بل قفز على واقعه المؤلم وتجاوز محنته بكل ثبات كأي رجل ناضج يعي مسؤولياته ويتحملها. ورغم الحصار المضروب حوله من كل الجهات وسياسة التجويع التي يتبعها الكيان الصهيوني، لم تُفارق الابتسامة وجه الطفل ولم تستغرقه الآلام، بل صار يطوع أزمته ليصنع منها إبداعاً سينمائياً خاصاً، يُعبر عنه وعن حُلمه المفقود بين ركام البنايات المُهدمة والليل الحالك الذي يلُف بيئته ومدينته وخيمته ومخدعه الخشن.
إنه ذلك الطفل الاستثنائي الذي كبر سنوات فوق عمره فأصبح ناضجاً مُدركاً لما حوله، فهو لم يكترث بالنار والدخان والضباب، فقط ينظر نظرة بعيدة إلى مستقبل ينتظره بعد زوال الغُمة وانقشاع الظلام الدامس. تلك هي روح الطفل الفلسطيني الذي أبدع وظهرت ملكاته الكامنة بفعل الأزمة، فتجلت نزعاته الفنية خلال مشروع السينمائي الصغير، الذي أطلق قبل عدة أيام تحت رعاية جمعية الإنسان التنموية، واستهدف استخراج الطاقات الإيجابية والإبداعية لدى الأطفال الموهوبين، كي يشتبكوا مع واقعهم المُختلف بطريقة أخرى، ويطرحون على العالم المُتبلد أسئلتهم البريئة بكل بساطه حول مصيرهم في ظل الحرب الظالمة ونوبات الغدر المُتكررة عليهم بلا ذنب منهم ولا جريرة، غير هويتهم الفلسطينية الحرة وعنادهم ضد الهزيمة وتمسكهم بالأرض والوطن، كنباتات وزهور خُلقت لتبقى وتتفتح وتخضر.
أربعة أفلام تسجيلية قصيرة
لقد أسفرت عمليات التدريب والتذوق التي قام بها مُخرجون مُحترفون، لتعليم الأطفال الصغار كيفية صناعة فيلم قصير من وحي الخيال عن إنجاز أربعة أفلام حملت عناوين دالة وقوية جاءت على النحو التالي، «أمل ـ بيتنا ـ التكية ـ نزوح»، وتضمنت تجارب واقعية حقيقية عاشها الصغار وما زالوا يعيشونها داخل مخيمات النزوح والإيواء، ومثلت محاولات إبداعية فريدة من نوعها وغير مسبوقة لمجتمع الأطفال، الذين أفلحوا في تسطير يومياتهم بكل جدارة ومهارة وبشكل عفوي بسيط.
لقد اتجه المُبدعون الصغار إلى تسجيل لحظاتهم الفارقة على مدار اليوم أمام عدسات الكاميرا، حيث كل طفل أو طفلة يحكي عن أزمته الشخصية والعائلية من منظورة الخاص، فهذه فتاة لا يتجاوز عمرها الثانية عشرة سنة تنعى أمها الشهيدة وتحلُم بعودة أبيها المفقود وترفع يدها مُتضرعة إلى الله أن يدلها عليه كي يطمئن قلبها، وتلك طفلة أخرى تُعرب عن وجعها بالرسم والألوان، وتبتكر صوراً وشخصيات لأطفال في مثل سنها، كأنها تبحث عن رفاق وأصدقاء يشاركونها الحديث واللعب والركض. وتقلب الطفلة الصغيرة شريط ذكرياتها المؤلمة وهي ترفع حجراً من بيتها الذي كان، أتت به إلى المُخيم ليبقى معها أثراً عزيزاً غالياً، كأنه حجر كريم من ياقوت أو مُرجان.. هكذا أبدت الطفلة النابهة الذكية رغبة قوية في أن يظل معها حجر البيت إلى أن يشاء الله، وتعود ذات يوم إلى منزلها لتُكمل حكايتها للأجيال القادمة، وأطفال العالم علهم يعون الدرس القاسي ويتعلمون منه.
ويتنوع التناول في فيلم «أمل» بتنوع التجربة الخاصة والشخصية، دون اختلاف كبير أو خروج عن النسق الإنساني، حيث يركز الفيلم على الأب الذي يجتهد في بناء خيمة تأوي أسرته، ويستغرق في ذلك وقتاً طويلاً ويبذل جهداً شاقاً، حيث يُثبت أوتاد الخيمة ويشد حبالها ويفرشها من الداخل ويضع فيها ما تيسر من المتاع. بيد أن ابنته الصغيرة لم تحتفظ بشيء من مُقتنياتها الخاصة وأشيائها الثمينة غير العود، الذي تعزف عليه ألحاناً من مقام الصبا لتشدو مع نغماته بما حفظت من أغنيات، فيردد الأب والأخوة خلفها في انسجام وتحد بالغ، ليرسلوا عبر أصواتهم الغنائية رسالة، لغير المعنيين بالحرب والدمار، يؤكدون من خلالها بأنهم لا يزالون أحياءً مُصرين على البقاء.
وبينما تتداعى أحداث الأفلام كُلها مُجتمعة ما بين الفرح والحزن تتلاطم أمواج البحر خارج المُخيمات في صورة دلالية بديعة مفادها الاستمرار في النضال والمقاومة، تماماً مثلما يفعل البحر حين يضرب الصخور بعنف وقوة فيُسمع صوت الارتطام والتلاطم كإنباء بالوجود والحيوية.
وفي فيلم «التكية» يظهر معنى الإيثار كإشارة لسخاء الشخصية الفلسطينية وتعاونها مع الأشقاء في المحنة والرباط، فالطفلة بطلة الفيلم تذهب إلى جارها في الخيمة المجاورة بإناء مملوء بالحساء، كي يسد رمقه، تفعل ذلك قبل أن تسد هي رمقها، وإزاء هذا التصرف التلقائي من الطفلة الصغيرة ترحب الأم ولا تُمانع، بل تُثني على ابنتها وتُبارك ما فعلت في لمسة إنسانية ليست نادرة الحدوث في المجتمع الفلسطيني القائم على التواد والتراحم. وتتسم الأفلام المصنوعة باجتهاد الأطفال تحت إشراف المخرج سعود مهنا رئيس المُلتقى الفلسطيني، ويوسف خطاب المخرج والمونتير، بالأسلوب التجريبي والتعبير الدلالي بالصورة، دون الحوار في أغلب الأحوال، حيث الصورة غنية بذاتها عن أي تفسير أو إيضاح أو شرح، ومن ثم لا حاجة في هذا المقام للكلام، اللهم إلا بعض العبارات القصيرة العابرة، كتلك التي فرضتها مشاهد بعينها، أو رأى المشرفون ضرورة لوجودها حتى لا تُصنف الأفلام على أنها أفلام صامتة فتفقد جزءا من تأثيرها.
ومع أن التجربة السينمائية للسينمائي الصغير تُعد في مُجملها حالة تجريبية جديدة، إلا أنها كانت كفيلة بتفجير طاقات إبداعية مهمة لدى الطفل الفلسطيني الموهوب، ومثلت بالنسبة له خبرات مُبكرة في مجال كتابة السيناريو والتصوير والتمثيل واختيار الموسيقى المناسبة للمواقف الدرامية واللحظات المؤثرة. ولهذا يُمكن الاطمئنان لمستقبل الطفل الفلسطيني إبداعياً وفنياً إذا ما استمر على هذا التفوق والتذوق والاجتهاد.