ما بين ميدان «بيكاديلي سيركس» الفاخر وسط العاصمة البريطانية لندن، وشارع «تشيرش ستريت»، تتنوع مظاهر الترحاب والابتهاج بشهر رمضان المبارك. ففي الميدان والشارع المتفرع منه وخاصة «وست إند» ترتفع الزينة بين الأبنية والمحال التجارية فتربط يمناه بيسراه، وتتمايل مع سقوط الأمصار حينا، وتلمع تحت أشعة الشمس حينا آخر، وفقا لتقلبات الطقس المعروفة بعدم استقرارها.
وهذه الزينة تنتشر في لندن للعام الثالث على التوالي، وكانت انطلقت بمبادرة من جمعية «عزيز» ويتم تدشينها بحضور عمدة العاصمة صادق خان، وتتوزع على شرائط الزينة التي تضاء ليلا، عبارات بالانكليزية من أهمها: «رمضان سعيد، انشروا النور»، وهناك أشكال مختلفة لها من أهمها مجسمات تحاكي هلال شهر رمضان المبارك. وبدأت مظاهر الزينة تنتقل إلى مقاطعات ومدن أخرى في المملكة المتحدة ومنها برمنغهام التي توصف بأنها مدينة الألف مسجد.
أما في شارع «تشيرش ستريت» غير البعيد عن ميدان بيكاديللي، فلشهر رمضان نبض آخر حيث تعج السوق الشعبية في ذلك الشارع بالمشترين لحاجياتهم ومنها لوازم الأطعمة والمأكولات والخضروات على أنواعها، وبأسعار تناسب الجميع، وتبدأ من جنيه إسترليني واحد (باوند) صعودا نحو أسعار أعلى وفقا لطبيعة كل سلعة.
«تشرش ستريت» يتفرع عن شارع «إجوارد روود» الشهير حيث الغالبية فيه للمحلات والمطاعم والمقاهي العربية، لذلك تجده مزدحما بالمواطنين البريطانيين من أصول عربية أو شرق أوسطية، إلى جانب المنحدرين من أصول أخرى أو هم بريطانيون في الأصل. وخلال الجولة في سوق «تشرش ستريت» التقينا بالمواطن البريطاني من أصول مغربية محمد الشافعي لنسأله عن الجديد في شهر الصيام لهذا العام فقال: «الأجواء في شهر رمضان في بريطانيا تحسنت كثيرا عما كان عليه في الماضي، حيث ازدادت أعداد المساجد التي تستقبل الصائمين والمصلين، وزادت الروابط الاجتماعية بين الناس، وحيثما ذهبت في لندن يمكنك رؤية مظاهر تشير إلى خصوصية هذا الشهر بما فيها المأكولات الرمضانية في المطاعم والمحلات حتى صارت الأمور أكثر سهولة في الحصول على ما يحتاجه الصائم».
ويوضح محمد لـ«القدس العربي» أن رؤيته هذه تستند إلى معايشته لشهر رمضان على مدى أربعين سنة من العيش في بريطانيا، لذلك يمكنه قياس الفارق الواضح بين الماضي والحاضر، ويضيف: «أنا مقيم هنا في جوار سوق تشيرش ستريت الشعبي، وأشاهد يوميا الحيوية والنشاط في هذا السوق لجهة التسوق ورخص الأسعار التي تناسب الفئات الفقيرة، إضافة إلى وجود حالة من التكافل الاجتماعي والمساعدات التي يتم تقديمها للمحتاجين».
وفي شارع «إجوارد روود» المجاور تزدحم الناس في المساء عند وقت الإفطار حيث يتنافس أصحاب المطاعم والمأكولات العربية على إقامة مآدب الإفطار لزبائنهم، مع محافظتهم خلال النهار على زبائنهم من غير المسلمين.
وتكتظ المقاهي بمحبي السهرات حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وخاصة لمحبي النرجيلة، والحلويات العربية والأجنبية، ولمن أراد تناول السحور بعيد منتصف الليل.
أما المساجد والمراكز الإسلامية فتزخر بحركة ناشطة جدا، وخاصة مع توفير الإفطار للصائمين في الكثير من المراكز والمساجد، وتسبقها الصلاة، وتليها مراسم الدعاء، وهذه الاجتماعات المتواصلة على مدار الشهر الفضيل تمثل فرصة للتعارف بين المسلمين المنحدرين من دول عربية وإسلامية على امتداد العالم الإسلامي. كما أن هناك الكثير من النشاطات الفكرية والترفيهية التي تقام في فنادق أو مراكز للتسوق بدعوة من جمعيات خيرية أو مراكز ثقافية، وكل هذه النشاطات تعتبر بمثابة محطات التقاء وتعارف وتكاتف وتكافل اجتماعي حيث يعود معظم فائدتها وريعها للفئات الفقيرة، إذ بات من المعلوم أن الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها المملكة المتحدة ما زالت تلقي بظلالها على الكثير من فئات المجتمع من المواطنين والمقيمين على حد سواء، ولذلك فإن المساعدات التي يتم تقديمها في شهر رمضان من الجمعيات الخيرية، تساهم في تخفيف بعض تلك الأعباء.
وهناك أثر إيجابي آخر لشهر رمضان في المملكة المتحدة يتمثل في إنعاش الاقتصاد نظرا لكثافة حركة البيع والشراء سواء لمستلزمات الإفطار وما يرافقها من مظاهر احتفالية، أو للتحضير لموسم عيد الفطر حيث تنتعش محلات الألبسة والهدايا على أنواعها.
وهكذا فإن بركات شهر رمضان تعم الصائمين وغير الصائمين وتضيف أجواء من التراحم الاجتماعي لا تقل عن المظاهر التي يزخر فيها العالم الإسلامي، وهذا يزيد من روحية التلاقي الحضاري والثقافي في بلد يشكل محطة للتنوع الإنساني في صورته الإيجابية حيث حرية المعتقد وممارسة الطقوس والشعائر الدينية متاحة للجميع، وهذا يساهم أيضا في تعزيز السلم والأمن الاجتماعي من خلال إحساس جميع الشرائح الاجتماعية بالاحترام لهويتها وثقافتها وذلك في رد مباشر على دعاة العنصرية من اليمين المتطرف والشعبويين الذين يحاولون إلقاء مسؤولية التدهور الاقتصادي والاجتماعي على المهاجرين أو من هم من أصول مهاجرة.