تخطي إلى المحتوى
سيرة الأشياء… كيف شكّل الشاي العالم الحديث سيرة الأشياء… كيف شكّل الشاي العالم الحديث > سيرة الأشياء… كيف شكّل الشاي العالم الحديث

سيرة الأشياء… كيف شكّل الشاي العالم الحديث

كان الأنثروبولوجي الهندي أرجون أبادوراي، قد حث العلماء والمؤرخين، على كتابة السير الذاتية العالمية للأشياء والسلع، ويومها عرّف أبادوراي السلعة بأنها «أي شي مخصص للتبادل». فبدلاً من النظر الى السلع كدليل للقياس الكمي، بات يمكننا تفحص الأشياء كحاملات للمعنى، ومواقع للنزاع، وعدسات جديدة لقراءة وتفكيك العلاقات الإمبريالية، وما بعدها. وقد شكلت هذه الدعوة، نقطة انطلاق لعدد كبير من المؤرخين ممن أخذوا يبحثون في كيفية تحويل الأشياء إلى سلع، ما جلب منظورا تاريخيا جديداً للقضايا المعاصرة، بما في ذلك العواقب البيئية والعمالية والصحية لنظام الغذاء العالمي. وكمثال على هذه الجهود، نشير هنا الى كتابات المؤرخة أريكا ربابورت أستاذة في جامعة كاليفورنيا ـ سانتا باربرا الأمريكية. فبعد سنوات قضتها في تتبع تاريخ التسوق وثقافة الاستهلاك عند النساء البريطانيات، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، انتقلت لدراسة تاريخ السلع من خلال كتابها «التعطش للإمبراطورية: كيف شكّل الشاي العالم الحديث» الذي حاولت، كما هو ظاهر من عنوانه، تتبع تاريخ الشاي وظهوره في بريطانيا منذ القرن السابع عشر وحتى يومنا هذا، وما تبعه هذا الظهور من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة.

في صورة غلاف الكتاب، التي تعود لعام 1941، نعثر على عدد من الجنود، واقفين في إحدى ساحات مدينة وكيننغ الصغيرة، التي تبعد قرابة ثلاثين ميلا عن لندن، لحضور حفل شاي. كان هؤلاء المحاربون قد زجوا في الحرب العالمية الثانية، لمواجهة ألمانيا النازية وحلفائها، والذين حولوا أحياء بأكملها في لندن إلى أنقاض، بينما كانت بريطانيا وقتها إمبراطورية متعددة الجنسيات، وقادرة على حشد وتزويد آلة عسكرية ضخمة. وقد أقيم حفل الشاي يومها أمام مسجد شاه جهان في البلدة، في المقابل كان متطوعو جمعية الشبان المسيحيين قد قادوا مئات سيارات الشاي لخدمة الجنود والمحتاجين، إذ بدا أن هناك قناعة بأن الشاي يهدئ ويرفع الروح المعنوية.
يذكر أحد الضباط أنه خلال الحرب العالمية الثانية، كان الرجال يشربون الشاي طوال اليوم ليريحهم ويمنحهم الشجاعة. مع ذلك تعتقد المؤلفة أن هناك بعداً آخر في هذه الرواية، وهذا البعد مرتبط بالدعاية التجارية، التي نشرتها صناعة الشاي الاستعمارية في كل مكان تقريبا. فخلال الحرب العالمية الثانية، عرضت أفلام عن الشاي والدفاع الوطني، وألقيت محاضرات في نوادي لندن ومدينة بورسعيد ومدارس الشرطة في القاهرة، وأماكن أخرى عديدة، عن الطريقة المناسبة لإعداد إبريق جيد من الشاي.
ولكن كيف تولع البريطانيون بالشاي؟
لم تكن شوارع وأسواق بريطانيا مفتوحة بسهولة، أمام مزارعي الشاي الهنود، وقد تطلب ذلك منهم وجود دعاية وحملات إعلانية عالمية ضخمة، ووجود داعم تمثل في الحكومة البريطانية. وهكذا ولد العديد من التقنيات والأيديولوجيات التي نربطها بتاريخ المجتمع الاستهلاكي الحديث، كما أدت الدعاية إلى ولادة سلوكيات وطقوس استهلاكية جديدة مرتبطة هذه المرة بعالم الشاي.
تعتقد المؤلفة أنه قبل عقود من تقديم الكوكا كولا للملايين، جمع مزارعو الشاي في الهند بين الدعاية والسياسة، والأفكار المستمدة من الثقافات الاستهلاكية والتجارية الموجودة مسبقا، لإنشاء مجتمع شاربي الشاي في أماكن متنوعة من العالم. وعلى الرغم من مواجهتهم لمقاومة واسعة، إلا أنهم تمكنوا من تغيير ممارسات البيع، وتصميم عادات شرب جديدة. وقد اعتمدوا على العديد من التقنيات الجديدة التي ألهمت العولمة في القرن التاسع عشر، مثل السكك الحديدية، والباخرة والتلغراف، والمقاهي والمجلات والراديو.
كانت جمعية الشاي الهندي، واحدة من المؤسسات التي انخرطت في نهاية القرن التاسع عشر، في التسويق للشاي في أوروبا وأمريكا الشمالية. واللافت هنا أن مزارعي الشاي لم يبقوا في مزارعهم، بل حاولوا الطواف حول العالم (لندن، دبلن شيكاغو وكيب تاون) بحثا عن تسويق منتجاتهم. ما تعتقده المؤلفة أيضاً أن المزارعين كثيرا ما استوردوا خطاب، وأساليب الغزو الاستعماري، في مجالات أبحاث السوق والإعلان، وعملوا على التأثير في سياسات الاستهلاك في كل مكان سافروا، أو أقاموا فيه، كما أنهم دفعوا الكثير من الكتاب للتأليف حول الشاي، لصناعة سردية وتواريخ جديدة، وتمييز شايهم عن الشاي الصيني والهولندي، أو لتشويه سمعة بدائل أخرى مثل القهوة.

 

الشاي يغزو أوروبا

في فصول من الكتاب، نرى أن الأوروبيين، استوردا الشاي وتعاملوا معه في البداية، بوصفه جزءاً من معتقدات وممارسات صينية، وقد تبنوا الفكرة التي تقول إن شرب الشاي يؤدي إلى تحسين صحة الجسم، والرضا النفسي والإنتاجية. مع ذلك تعتقد المؤلفة، أن هذا الاهتمام الأوروبي بالشاي، جاء في سياق اهتمام وولع النخبة الأوروبية بالسلع ذات الطراز الشرقي، وهو ما ترك بصماته على الفنون الزخرفية وتصميم المنازل والحدائق والملابس وثقافات الطهي في معظم أنحاء أوروبا. ولتبيان هذا الانتقال، تبحث المؤلفة في دفاتر المسافرين، وبيانات السفن، وسجلات الضرائب والوصايا، والوثائق الحكومية والمحاكم، والفن والأدب. وخلال هذه الجولة، نكتشف أن شركة الهند الشرقية الهولندية، قد قامت بجلب أول شاي من اليابان والصين عام 1610، وفي الثلاثينيات من القرن نفسه، بدأت الشركة في شراء الشاي من جاكرتا، لكنها لم تكن سوى جزء صغير من تجارة أكثر ربحية في الحرير والذهب والخزف. ومع مرور الأيام، تحولت جاكرتا إلى مركز لتجارة الهولنديين للشاي، ومن هناك أخذ يشق طريقه نحو أوروبا، إلا أنه في هذه الفترة بقي استهلاكه محصورا على الارستقراطيين والملوك وأغنى المستهلكين. ففي فرنسا، كرّس لويس الرابع عشر (1638ـ1715) طقوس رفاهية استهلاك الشاي، من خلال تخميره في إبريق ذهبي. كما نظر له أحد الأطباء الباريسيين بوصفه يمثل «حداثة غير مألوفة في هذا العصر». في المقابل، نظرت بعض النخب الأوروبية، مثل الألمانية، للشاي باعتباره أقرب ما يكون للتبن والروث. لكن عموما يبدو أن الأوروبيين أخذوا يبدون إعجابا أكبر بهذا المشروب. واللافت هنا أنه على عكس الفرنسيين والهولنديين والبرتغاليين، كانت الأمة الإنكليزية التي مزقتها الحرب، والمنقسمة سياسيا، والضعيفة نسبيا، بطيئة في تبني المشروب. فحتى ستينيات القرن السادس عشر، خاصة بعد الثورة المجيدة 1688ـ1689، أخذت ثقافة الشاي تترسخ في الجزر البريطانية وأجزاء من أمريكا الشمالية. وفي غضون عقود قليلة، أصبح الشاي يشكل جزءا مهما مما أطلق عليه أحد المؤرخين «مادة الأطلسي». وأصبح المثقفون الإنكليز ينشرون كتبا تتحدث عن أهمية الأخذ بالعادة الشرقية لشرب الشاي، لما تقدمه من خصائص الشفاء والاعتدال للإنكليز.
استخدم الشاي لاحقاً خلال عقد التحالفات السياسية في بريطانيا، وبات السياسيون يتهادونه في ما بينهم، من باب كسب حسن النية، وأصبح شعراء القصر يتحدثون عن الشاي باعتباره من أفضل أنواع الأعشاب. وهناك من يبرر هذه الاهتمام، لكون السلطة السياسية البريطانية حاولت الاستفادة من الشاي لترويض العادات الفاسدة والصاخبة للحاشية البريطانية، ولتعدل من أساليبهم في استهلاك البيرة والخمر.
وقد أخذ الشاي يساهم في ظهور مجال وفضاءات، وثقافة عامة جديدة، تتمثل في نقل الصور والأفكار والأشخاص عبر المساحات الجغرافية والاجتماعية، إذ تفاعلت الثقافات الوطنية والتجارية والجماهيرية والشعبية بطرق جديدة وغير متوقعة، وضمت هذه الثقافة العامة تبادل الأفكار داخل الشركات التجارية، والأسواق ومقاهي الشاي، والصحف، والإعلان، ما حول الشاي لواحد من أهم ساحات نقل الأفكار في أوروبا، والعالم خلال القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين.

المصدر: 
القدس العربي