تخطي إلى المحتوى
شبابيك القدس شبابيك القدس > شبابيك القدس

شبابيك القدس

وعلى رغم ما تعانيه القدس من حصار، ومن محاولة لتبديد طابعها العربيّ الإسلاميّ ببعده المسيحيّ الفلسطيني، تظلّ المدينة معنيّة ما وسعها ذلك، بالمحافظة على مشهدها الأصيل الذي يُراد طمسه وتبديده، وتظلّ في الوقت نفسه، معنيّة بأن تكون مدينة التعدّدية والرغبة في الانفتاح، دون أن يقلّل ذلك من اهتمامها بمشهدها الأصيل.

يتبدّى ذلك في العديد من المظاهر التي لا تحتاج إلى دليل، ويتبدّى على نحو ما في شبابيك المدينة. شبابيك متنوّعة ذوات طرز وحجوم وتشكيلات وأشكال متباينة. شبابيك منبثقة من ثقافات عدّة، ومن إبداع معماريّين من عصور شتّى ومن مختلف الجنسيّات.

وأنا أجوب أسواق القدس، أتعرّف فيها إلى الفنّ المعماريّ الإسلاميّ بتأثّره الأكيد بالفن المعماريّ الفارسي، وبتجلّياته الأيوبيّة والمملوكيّة والعثمانيّة. أتعرّف إلى الفنّ المعماري الروماني والبيزنطي، والفن المعماريّ الأوروبي من العصرين الوسيط والحديث. أشاهد الفن المعماري الذي ينطوي على أبعاد دنيويّة معنيّة بالمشهد، وأناقته وإمكان تجسيده للبهجة والفرح. وأشاهد في الوقت نفسه الفن المعماريّ الذي ينطوي على أبعاد دينيّة معنيّة بإدخال المهابة إلى نفوس الناس، وبإشعارهم بأنهم مخلوقات ضعيفة محتاجة إلى خالق يمدّ لهم يد العون، ويرشدهم إلى سواء السبيل.

تتولّى شبابيك المدينة حمل شيء ممّا ذكرناه على الصعيدين الدنيوي والديني. وعلاوة على ذلك، يمكنك أن تقرأ انطباعات أخرى توفّرها لك شبابيك المدينة. ففي بعض البنايات تجد في الحائط الواحد ثلاثة شبابيك متجاورة، لها استطالات ذاهبة إلى أعلى، وهي مفتوحة على الخارج، كما لو أنها تطمح إلى اكتشاف أكبر قدر ممكن من المشهد الخارجي، وهي في الوقت نفسه غير متحفّظة تجاه الحيّز الداخلي، إنها معنيّة بكشفه لو أتيحت لها الفرصة لذلك، وبخلق تواصل بينه وبين المشهد الخارجي في التحام لا انفصام فيه.

قد تكون الشبابيك الثلاثة متساوية في الحجم وفي الشكل وفي الزخارف وغيرها من أشكال الفن. وقد تأخذ شكلاً حميماً آخر، حيث يكون الشبّاك الأوسط أكبر حجماً من الشبّاكين الواقعين عن يمينه ويساره، حيث يضفي التماثل وعدم التماثل في المشهد الواحد إحساساً بالوحدة وبالتنوّع في الوقت نفسه، ما يهب الناظرين من أيّ اتجاه متعة، وما يهب المشهد كله حالة من التعلّق بالدنيا وما فيها من متاع.

وقد تكون الشبابيك مركومة في حالة من التماثل على نحو كثيف، في حائط يشتمل على طوابق عدّة من إحدى البنايات، فتعرف أنّك أمام حشد من شقق السكن أو مكاتب حكوميّة أو أهليّة، أنتجها عقل براغماتي معنيّ في الأساس باعتبارات الظلمة والنور والحرّ والقرّ وتبدّل الفصول، فلا يعود ثمة فرق بين شبّاك وشبّاك. ثمة تشابه واتّساق. وثمة إيحاء بأنّ المشهد واضح القسمات. فالشبابيك هنا ليست للتأمّل فيها ولا للتمعّن في جمالها، وإنما هي مكرّسة لتوفير متطلّبات حيوية يومية، لا بدّ منها لساكني الشقق من المواطنين أو لشاغلي المكاتب من الموظّفين.

قد تجد شبابيك عشوائية بلا نسق ولا نظام، فلا تتوقّف عندها كثيراً، لا تكترث بها ولا تعيرها انتباهاً، وقد تجد شبابيك صغيرة منعزلة، كما لو أنها شبابيك سجن أو زنازين. قد تجد شبّاكاً واحداً في حائط بيت قديم. يشدّ انتباهك لأنه يستحوذ على المشهد وحده، بإطلالته على الشارع المجاور حيث المارّة وأسراب السيّارات، ما يجعل المشهد ممتعاً مثيراً لمزيج من المشاعر، فثمة شبّاك وحيد في حائط، ثمة امتياز من نوع ما، أو ثمة عزلة وانعزال، وثمة تفرّد في محيط من الكثرة الوافرة.

قد تجد صفّاً أفقيّاً من شبابيك متماثلة، لا فضل لشبّاك منها على شبّاك. شبابيك ذوات استطالات منتهية بأقواس محدّبة تذكّر بشكل الهلال، أو بأقواس نصف دائرية. الأقواس قد تذكّر باجتهادات أجدادنا القدماء حينما بنوا أوّل البيوت وأوّل الأبواب وأوّل الشبابيك. كانت أغصان الشجر وسعف النخيل التي انبنت منها أوّل البيوت تميل إلى التقوّس والانحناء. ربما من هناك جاءت الأبواب التي تنتهي في أعاليها بأقواس، وربما من هناك جاءت الشبابيك. فإذا كانت الأبواب هي الحيّز المخصّص لدخول البشر وخروجهم، فالشبابيك هي الحيّز المخصّص لدخول أشعّة الشمس والهواء. والأقواس التي تنتهي بها أعالي الأبواب والشبابيك قد تحمل دلالات دينية، رغم أنّ البناية التي تشتمل على هذه الأبواب وتلك الشبابيك ليست مسجداً ولا كنيسة. القوس إيحاء بالقبّة، والقبّة رمز للسماء، والسماء منبع للديانات.

في المسجد والكنيسة تتلوّن الشبابيك بطابع ديني لا شكّ فيه. الشبابيك مرتفعة ذاهبة نحو أعلى جدران الكنيسة والمسجد، بحيث لا تطالها أيدي المتديّنين بالبساطة المتوخّاة. ذلك يوحي بأنها أقرب إلى السماء منها إلى الأرض. وقد يوحي بأنّ الكائن البشري بحاجة إلى قوّة عليا مسيطرة تصل ما بين الأرض والسماء.

في المسجد تنفرد الشبابيك بزجاج بنفسجي أو ملوّن بمختلف الألوان التي تهب الخشوع والمهابة. وترتفع استطالات الشبابيك إلى أعلى وتنتهي بأقواس نصف دائرية تذكّر بالقباب التي تذكّر بالسماء، وتظلّ مغلقة في أغلب الأوقات، من خلف زجاجها يتراءى نور خفيف مختلط بألوان الزجاج، ما يهب المتديّن شعوراً بالغموض الذي يملأ النفس رهبة وخشوعاً، وانجذاباً إلى عوالم غير أرضية فيها سموّ ورفعة ونقاء.

في الكنيسة أيضاً، تنفرد الشبابيك بزجاج ملوّن. وتظهر شبابيك أخرى بزجاج عاديّ غير ملوّن. تبدو متراصفة متجاورة، تحفّ بها عتمة قادمة من حيّز الكنيسة ومن البخّور المتصاعد منها، فتعمل على إحاطة المشهد بشيء من الغموض الشفّاف. في الكنيسة تتعدّد حجوم الشبابيك وتتنوّع تشكيلاتها، وتمعن في التجلّي قريباً من سقف الكنيسة وقبّتها العالية، ما يضطرّ المتديّن إلى رفع رأسه عالياً للنظر إليها، وما يجعله عبر هذه الحركة الاعتياديّة، متّجهاً بنظره إلى السماء التي تركّز على قدسيّتها الأديان.

في المسجد وفي الكنيسة تصرّ الشبابيك على حجب الخارج عن الأنظار، ويجري التركيز على الداخل، حيث الانقطاع للعبادة ونسيان الدنيا ولو مؤقتاً والتفرّغ للسماء.

ومع ذلك، مع كلّ ما في القدس من مقدّسات، فهي لا تخلو من مشهد نشاز، راح يفرض نفسه شيئاً فشيئاً منذ سنوات. ثمة شبابيك محاطة بشبك كثيف من الحمايات الحديدية، وثمة شبك من أسلاك يحيط بالبنايات وبالشبابيك. ثمة سبعون بؤرة استيطانية يسيطر عليها مستوطنون إسرائيليون في قلب المدينة، بينها البيت الذي استولى عليه شارون، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق. هنا يبدو المشهد متناقضاً مع الانسياب الطبيعي للمشهد العامّ في بقيّة أنحاء المدينة.

فالشبابيك المحصّنة على هذا النحو لا توحي بالدعة ولا تعبّر عن حالة طبيعية، والشبك الكثيف والكاميرات والأضواء الكاشفة المسلّطة على الأزقّة والطرقات، وظهور مستوطنين مسلّحين بأسلحة رشّاشة في فضاء البيوت، توحي جميعاً بأنّ ثمة مكاناً مسروقاً تجري السيطرة عليه وحراسته بوسائل القوّة الغاشمة، ما يجعل المشهد منفّراً وفي حاجة إلى تعديل وتصويب.*

المصدر: 
كتاب قالت لنا القدس