صدر حديثاً عن دار الفكر بدمشق كتاب صناعة معلم المستقبل تأليف د. بدر الحسين.يُعد هذا الكتاب مساهمة نوعية في الفكر التربوي، حيث ينطلق من رؤية عميقة تؤمن بأن التعليم هو الركيزة الأساسية لتطوّر المجتمعات، وأن المعلم هو حجر الزاوية في بناء الحضارات ونهضة الأمم. يسلّط المؤلف الضوء على المكانة المرموقة التي يحظى بها المعلم عبر العصور، بوصفه ناقلًا للمعرفة، وغارسًا للقيم، ومُلهِمًا للأجيال، ومُشكِّلًا للاتجاهات الإيجابية في نفوس الطلاب. ومن هذا المنطلق، يركّز الكتاب على ضرورة صناعة "معلم المستقبل" الذي يجمع بين الشغف المعرفي، والكفاءة المهنية، والقدرة على مواكبة التطورات التكنولوجية والتعليمية المتسارعة.
يتناول الكتاب في فصوله السبعة مجموعة من المحاور المتكاملة، تبدأ بعرض موجز لمكانة التربية والتعليم والمعلم في الحضارات الإنسانية القديمة، مثل الحضارة السومرية، والمصرية، والصينية، والعربية الإسلامية، وغيرها، مما يمنح القارئ خلفية تاريخية غنية عن تطور الفكر التربوي. ثم ينتقل إلى بيان أسس إعداد معلم المستقبل، من خلال تسليط الضوء على أخلاقيات المهنة، والتحديات المعاصرة، وأهمية الإعداد الأكاديمي والمهني، والتدريب العملي، والحصول على الرخصة المهنية، مع التأكيد على ضرورة إثراء المعلم بخبرات محلية وعالمية تعزز من كفاءته.
كما يفصّل الكتاب في ركائز مهنة التعليم، مثل الإيمان برسالة التعليم، والقدوة الحسنة، والتمكّن من التخصص، وفهم أنماط التعلم والشخصيات، والإعداد الإبداعي للدروس، والإدارة الصفية، والاستراتيجيات التعليمية، بالإضافة إلى أهمية التنمية المهنية المستدامة. ويخصص فصلًا كاملًا للحديث عن مهارات معلم المستقبل، مثل التواصل الفعّال، القيادة الذكية، التعليم عن بعد، تبسيط المعرفة، استثمار الذكاء الاصطناعي، واكتشاف المواهب، مع التركيز على مرونة المعلم وانفتاحه على الثقافات المختلفة.
وفي سياق ربط التعليم بالتنمية، يناقش الكتاب دور المعلم في بناء مجتمع المعرفة، وتحقيق أهداف التنمية البشرية والمستدامة، وتعزيز الشراكة مع مؤسسات التنشئة، وتفعيل اقتصاد المعرفة القائم على رأس المال المعرفي. كما يستعرض تجارب تعليمية ناجحة من دول مثل اليابان، فنلندا، سنغافورة، السعودية، وغيرها، ويستخلص منها أفكارًا مبتكرة قابلة للتكييف مع السياقات المحلية.
ويُختتم الكتاب بتعريفات دقيقة لأهم المصطلحات التربوية، وإضاءات مكثفة تمثل خلاصة فكرية للموضوعات المطروحة، مما يسهل على القارئ فهم المحتوى واستيعابه. ويُقرّ المؤلف في نهاية الكتاب بتواضع أن هذا العمل، رغم الجهد المبذول فيه على مدى أربع سنوات، يظل جهدًا بشريًا قابلًا للنقد والتطوير، داعيًا القرّاء إلى التواصل معه لتصحيح أي خطأ أو قصور.
إن هذا الكتاب لا يكتفي بتقديم رؤية نظرية حول التعليم، بل يطرح تصورًا عمليًا لصناعة معلم المستقبل، ويؤكد أن المجتمعات لا تنهض إلا عندما يكون المعلم منتجًا للمعرفة، ومبتكرًا للنظريات التربوية، ومُلهمًا للأجيال، وقادرًا على تهيئة الطلاب لمواجهة تحديات العصر. إنه دعوة صريحة لإعادة النظر في إعداد المعلم، وتطوير أدواته، وتمكينه من قيادة التحول المعرفي في مجتمعه، بما يحقق التنمية المستدامة، ويُسهم في بناء حضارة إنسانية أكثر تطورًا وازدهارًا.