يتوقّف هذا التقرير عند صورة العربي في الأعمال السينمائية العالمية، وبالتحديد وقفات حول ما يُشبه التحوّلات بين ماضي الإسلاموفوبيا وحاضر الصوابية السياسية، من خلال جولة في بعض أعمال مؤسسة هوليود.
تتزامن هذه الوقفة مع رحيل المخرج الأمريكي ويليام فريدكين الذي اشتهر بأفلام الرعب من قبيل فيلم "الرابطة الفرنسية" (1971) أو فيلم "طارد الأرواح الشريرة" (1973) [ذي إكزورسيت]، والمفارقة أنّ علاقته الشخصية والمهنية مع المنطقة العربية تعجّ بالتباين، فمن جهة، أحبّ ويليام فريدكين المغرب كما تشهد زياراته المتكررة إليها، لكن الوجه الآخر للعملة يفيد أيضًا أنّ المخرج نفسه هو الذي صنع فيلم "قواعد الارتباط"، أي الفيلم الذي يُعتبر أسوأ فيلم عن العرب في تاريخ السينما العالمية، بتعبير جاك شاهين مؤلف كتاب "الصورة الشريرة للعرب في السينما الأمريكية"... وهذا عينُ ما نرغب بالتوقف عنده في هذا التقرير، أي الاستفسار عن أيّ مستجد إيجابي يهمّ تلك الصورة الهوليودية الاختزالية اتجاه العرب.
عملت "هوليود" طيلة العقود الماضية، على تقديم شخصية العربي المسلم في قالب عنصري نمطي جامد
معلوم أنّ دور هوليود لم يقتصر على صناعة الفرجة والترفيه وحسب، أو منح "التماثيل الذهبية" للمبدعين، بل تجاوزت الصناعة السينمائية في الولايات المتحدة الأمريكية ذلك، لتصبح محرّكًا ثقافيًا وسياسيًا ضخمًا، ما دامت تساهم في تشكيل الوعي الجمعي، وفي توجيه الرأي العام العالمي، وتغيير البنيات المجتمعية والفكرية للأمم عبر ما يُسمى بالهندسة الاجتماعية. وهي تقنية تسعى للتلاعب والتأثير على التوجّهات الأخلاقية للجماهير.
عملت مؤسسة هوليود طيلة العقود الماضية، على تقديم شخصية العربي المسلم في قالب عنصري نمطي جامد، كأنه يعكس إلى حد كبير، التصوّرات والأحكام الثقافية والدينية الجاهزة التي يؤمن بها المواطن الغربي اتجاه الآخر المختلف. ولطالما استعمل السياسيون وتجار الحروب المجانية والمآسي الإنسانية، الأعمال السينمائية كوسيلة للترويج لسياساتهم ضد المنطقة العربية، أو لتبرير تدخّلاتهم العسكرية في المنطقة العربية والمسلمة، أو لتلميع صورتهم لكسب أصوات الناخبين المغيّبين.
إنّ المتابع للإنتاجات الهوليودية التي تتناول قضايا الإرهاب والجاسوسية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي على سبيل المثال، يلاحظ الكمّ الهائل من الأدلجة والحشو الدرامي والتجنّي الثقافي الذي تتعرّض له الشخصيات العربية في هذا النوع من الأعمال السينمائية، حيث تقتصر معالم تلك الشخصية في المخيّلة الهوليودية على ذلك الرجل الأشعث المتعصّب صاحب الجلباب القصير، أو السيدة المنتقبة المهيضة الجناح، وصور نمطية أخرى من هذه الطينة، مع وجود بعض الاستثناءات، بما يقتضي التوقّف عند بعض الأمثلة في هذا السياق:
يُعتبر مسلسل Homeland من أشهر الأعمال التلفزيونية الأمريكية التي سلّطت الضوء بجرأة غير مسبوقة على قضايا التطرّف العنيف وأزمة اللاجئين وسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة اتجاه الشرق الأوسط. حقّق العمل نسب مشاهدة عالية طيلة سنوات عرضه، بحيث قدّم مجموعة من الشخصيات العربية التي تنتمي إلى مختلف دروب الحياة، من سياسيين ورجال دين وزعماء للتنظيمات الإسلامية المتشددة، مرورًا بمواطنين بسطاء أو عملاء لدى أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وكانت شخصيات تجمع بين التصوّرات النمطية المسيئة والقوالب العنصرية الصريحة.
لم يقتصر التنميط على صورة العربي المسلم فقط، بل طال حتى صورة الرجل الغربي الأبيض، حيث وقع المسلسل في فخ "سردية المنقذ الأبيض" [white savior trope]، وهو أسلوب سرد سينمائي يعتمد على تقديم الرجل الأبيض كشخصية بطولية محورية تسعى لإنقاذ العالم والدفاع عن الأقليات العرقية والدينية المضطهدة.
لم يدّخر صنّاع العمل جهدًا في ممارسة التحيّز الثقافي الفجّ ضد المكونات الدينية الشرق أوسطية، بل تجاوز الأمر ذلك إلى حوارات تدعو بشكل صريح إلى إبادة جماعية في حق العرب والمسلمين. أثارت مشاهد من الأجزاء الأخيرة من المسلسل جدلًا واسعًا وردود أفعال مستنكرة لمضمون ما جاء في إحدى الحلقات، عندما صرَّحَ أحد العملاء السريين لوكالة الاستخبارات الأمريكية، في مشهد يجمع بين قادة عسكريين وسياسيين، أنّ السبيل الوحيد لمكافحة الإرهاب وتجفيف مستنقعات الجهاديين في العالم الإسلامي، هو القيام بعملية إبادة جماعية للدول العربية والمسلمة.
اتّضح أنّ جرأة الحوار تجاوزت حدود الشجاعة الأدبية، ليُصبح الأمر هجومًا مجانيًا لا نملك له أيّ تبرير، واتّضح أيضًا أنّ المسلسل كان فرصة مهدرة، عجز فيها أهله عن تقديم طرح درامي محايد للأزمات الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط.
قدّم فيلم "الموريتاني" قصة حياة المعتقل السياسي محمدو ولد صلاحي، والذي قضى ظلمًا أربعة عشر سنة سجنًا في معتقل غوانتنامو سيء الذكر. ساهمت موجة الصوابية السياسية التي اجتاحت العالم الغربي مؤخرًا، في تعديل الكفة الهوليودية اتجاه الأقليات العربية والمسلمة.
واتّضح هذا التعديل بوضوح في زاوية المعالجة السينمائية لمأساة صلاحي، حيث قدَّم الفيلم شخصية البطل الموريتاني في قالب درامي منصف إلى حد ما، فقد تم تصويره باعتباره شخصيةً متزنةً رصينةً تملك كاريزما عالية، بعيدًا عن التصوّر الكاريكاتوري لشخصية الإرهابي التقليدي.
بالرغم من هذه الطفرات السينمائية المنصفة، لم يسلم هذا التحوّل المفصلي الإيجابي في التعامل مع الهوية العربية المسلمة من تحيّز أيديولوجي لصالح الرجل الأبيض، حيث أصرَّ صنّاع الفيلم على تقديم قصة سجين وقع ضحية الإمبريالية والاستبداد والظلم من وجهة نظر المركزية الغربية، أي مركزية تسرق الأضواء من الشخوص الفعلية للقصة، لتمنح شرف البطولة مجددًا للرجل الأبيض الذي يستفيق ضميره فجأة ليُقرّر إنقاذ ضحايا السياسات الاستعمارية الرأسمالية.
النموذج العربي في العمل "مجرّد ديكور" مقارنةً مع الفكرة المركزية التي يروّجها الفيلم
لقد تمّ حشر شخصية محمدو ولد صلاحي في الزاوية، وتقديمه كفاعل غير أساسي يكتفي بتأثيث الفضاء الخلفي لبطولات المنقذ الأبيض الوهمية.
الشاهد هنا أنه حتى مع عمل سينمائي يهمّ صورة العربي، كانت بعض معالمه تفيد أنه يبتعد عن الاختزال وتكريس الصور النمطية البائدة، اتضح أنه لم يخرج عن تمرير نزعة مركزية غربية، في نسختها الأمريكية، كأنّ النموذج العربي الوارد في العمل، مجرّد ديكور أو قصة ثانوية مقارنة مع الفكرة المركزية التي يُروّجها هذا الفيلم، ضمن مجموعة أفلام أخرى.