الدكتور عبدالحكيم أجهر كاتب وباحث سوري، حاز درجة الماجستير عن إمام الحرمين الجويني، من معهد الدراسات الإسلامية بـجامعة مكغيل في مونتريال كندا عام 1995م، وحصل على درجة الدكتوراه من الجامعة نفسها عن الإلهيات عند ابن تيمية عام2000م. درَّس العديد من الدورات في مجال العلوم الإنسانية والدراسات، والفكر الإسلامي، واللاهوت، وتاريخ العلوم، وتاريخ الحضارة الإسلامية. يعمل حاليًّا أستاذًا مشاركًا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية في مدينة أبوظبي، وله العديد من المقالات والأبحاث باللغة العربية والإنجليزية. ومن مؤلفاته: «سؤال العالم؛ الشيخان ابن عربي وابن تيمية، من فكرة الوحدة إلى فكر الاختلاف»، المركز الثقافي العربي (2010م، الدار البيضاء/ بيروت) و«أبو البركات البغدادي؛ بناء العالم على مسائل الدين ودرس في الهوية»، المركز الثقافي العربي (2010م)، و«الله؛ الآخرية في الحضور»، المركز الثقافي للكتاب (2018م، الدار البيضاء/ بيروت).
في هذا الحوار، الذي خص به مجلة الفيصل، يحدثنا عن ملامح منجزه المعرفي، والخطوط العريضة لمحتويات بعض كتاباته في حقل الفكر والفلسفة الإسلاميين، وكذا الإجابة عن الهموم الثقافية الراهنة.
من علم الكلام إلى التصوف
● المتتبع لإنتاجك العلمي يلحظ أن القراء، خصوصًا المهتمين بالفكر والفلسفة الإسلاميين، تعرفوا إليك من خلال عملك «التشكلات المبكرة للفكر الإسلامي: دراسة في الأسس الأنطولوجية لعلم الكلام الإسلامي» (2005م)، ثم انتهى بك البحث في التصوف من خلال آخر أعمالك. نريد أن نعرف ما سر هذه النقلة من علم الكلام إلى التصوف؟
■ يمكنني القول: إن الحقول الإسلامية النظرية الأساسية، علم الكلام والفلسفة والتصوف هي الحقول التي يمكن عدّها البوابات الكبرى التي يمكن من خلالها الولوج إلى طبيعة الفكر الإسلامي. طبعًا هي ليست الأبواب الوحيدة، فهناك الفقه والتفسيرات القرآنية، وهي مثار اهتمام شديد عند المسلمين وعند الدارسين، ولكن الحقول المذكورة آنفًا كانت تحاول دائمًا، منذ بداياتها، بناء تصور عن العالم يكون الله هو المحور المركزي فيه. وأنا يهمني جدًّا أن أنظر إلى الإسلام من هذه النقطة بالذات، فنحن ندرس الإسلام بطريقة مجزأة، تفتقد إلى تلك الرؤية العميقة التي تحدد طبيعة عقل المسلم وخصوصية تصوره للعالم. علم الكلام والتصوف والفلسفة هي الخطابات الأكثر شمولية التي تستطيع أن تضع على طاولة البحث تلك العلاقة الخاصة بين المسلم وبين العالم ككل. وكما هو معروف فإن علم الكلام هو الحقل النظري الأبكر في الإسلام، فقد بدأ هذا النشاط النظري قبل الفقه وقبل التفسير الكبير للقرآن الذي وضعه الطبري وقبل الاهتمام بالحديث النبوي وتحويله إلى حقل بذاته.
الأمر الذي يعني أن الحاجة كانت مبكرة في التاريخ الإسلامي لصياغة هذا الموقف النظري من العالم، وكأن المسلم يريد أن يتلمس موقفه من محيطه كله بوصفه تسلم للتو الرسالة السماوية ويطمح إلى صياغات عقلية أكثر تفصيلية من مجرد الإشارات القرآنية التي تحتمل تأويلات متعددة. ومن هنا بدأت البحث في علم الكلام في كتاب التشكلات، وأيضًا وصلت في آخر كتاب صدر لي إلى التصوف. ويمكنك أن تتخيل معي مدى مركزية بعض المسائل المشتركة بين الخطابين التي كانت تكشف لي في كل لحظة هذا الطموح الكوني عند المسلم وعمق الاشتراك في المبادئ الرئيسة التي تحرك المنتمين إلى الخطابين.
أعمل الآن على الفلسفة بوصفها الخطاب الثالث الذي غالبًا ما تكرر الدراسات أنه مجرد خطاب دخيل على الفكر الإسلامي حصل بفعل الترجمة ولم يضف شيئًا مهمًّا إلى الثقافة الإسلامية. وأعتقد، في عملي الآن على ذلك، أنه من الضروري العودة إلى بدايات التفكير الفلسفي من أجل تحديد الموقع الحقيقي للفلسفة الإسلامية؛ لذلك يأخذ معي هذا الجانب وقتًا أطول في إعادة تفسيره وتأويله.
منجز أبي البركات البغدادي
● من خلال اهتمامك بالفلسفة والفكر الإسلاميين وتدريسك لهما مدة غير يسيرة من الزمن، أفردت مؤلفًا خاصًّا ومثيرًا للاهتمام حول الفيلسوف أبي البركات البغدادي «أبو البركات البغدادي وبناء العالم على مسائل الدين ودرس في الهوية». لماذا اخترت هذه الشخصية بالذات؟ وما النتائج التي ستضيفها دراستك له داخل تاريخ الفلسفة الإسلامية والعالمية كذلك؟
■ الحقيقة أن البغدادي الذي عاصر الغزالي في شبابه، وعلى الأغلب استمع إلى دروسه وكتب كتابه المعتبر بعد وفاة ناقد الفلسفة الكبير في الإسلام، كان يحمل همًّا واحدًا وهو إعادة صياغة القضايا الفلسفية الأساسية في الإسلام دون الاعتماد على مرجعية ناجزة. وفي هذه النقطة يختلف البغدادي عن ابن رشد الذي قام بالمحاولة نفسها، ولكن بالاعتماد على أرسطو. البغدادي وجد أن قضايا علم الكلام التي حصلت على انتشار واسع، والتي ينتمي الغزالي نفسه إلى إحدى مدارسها، هي قضايا قابلة لأن تصبح فلسفة تملك من القوة ما يجعلها تتجنب انتقادات الغزالي لميتافيريقا ابن سينا. وهذا ما قام به في كتابه المعتبر، فهو اشترك مع الغزالي في نقد ابن سينا في مسائل عديدة، وكان متفقًا معه. ولكن بدلًا من الدخول في مجادلة مع الغزالي قام ببناء تصور فلسفي يتخطى كل انتقادات الغزالي، حتى في نظرية المعرفة. وكان هذا الأمر يتطلب إعادة بناء تصورات مركزية ومختلفة عن نظرية الفيض السينوية والفارابية، فتحدث بطريقة جديدة عن أولوية الوجود على الماهية، وأعاد الاعتبار لصفة الإرادة الإلهية لتكون بديلًا فلسفيًّا عن نظرية الفيض في عملية إيجاد العالم، ورفض فكرة العقل الفعال التي تعتبر مركزية جدًّا عند الفارابي وابن سينا، وقدم تصورات جديدة تمامًا عن الزمن والفراغ وطبيعة الكون هل هو مغلق أم مفتوح، وعن دور الشعور الإنساني في تقرير بعض المسائل الفلسفية التي يصعب البرهان عليها، وأشياء أخرى كثيرة، وكان في كل هذا البناء الجديد يستلهم علم الكلام ويعيد صياغته ليصبح بناءً نظريًّا فلسفيًّا تامًّا. وعلى الرغم من اضطرابه في بعض المسائل لكننا نستطيع أن نقول: إن البغدادي قدم تصورًا فلسفيًّا للعالم هو الأقرب لما كان شائعًا من العقل الإسلامي في تلك الحقبة.
الأسئلة الفلسفية الكبرى
● قدمت أطروحة تتسم بالجدة، تنطلق من سؤال مركزي وهو سؤال الله، وتحدثتم عن المسالك المختلفة في مقاربته؛ إذ عرضت منهج علماء الكلام، الذي أسميتموه بخطاب القوة، لماذا جعلت من سؤال الله مركز مشروعك الفلسفي؟
■ شكرًا على انتباهك لهذا الكتاب الذي لم ينتبه له كثيرون رغم أهميته الكبيرة حسب اعتقادي. إذا عدنا للمشروع المذكور آنفًا حول دور الخطابات النظرية الأساسية في الإسلام في بناء رؤية للعالم نلحظ أن المسألة الكبرى التي شغلت العاملين في هذه الخطابات هي الله؛ لأن أي تصور كوني، وأي تصور يرتبط بنا نحن الأفراد المحكومين بشروطنا البشرية هي تصورات متصلة بعمق بطريقة فهمنا لله. فالله منزه ومشبه في الوقت عينه، وهذان المفهومان، التنزيه والتشبيه هما المقابل الديني لمفهومي اللاتعين والتعين، فالله هو من جهة غير متعين في تنزيهه التام، وهو متعين تمامًا في تشبيهه بالصفات الإنسانية، من جهة ثانية. وعندما ننقل هذه الثنائية إلى المستوى الفلسفي نجد أن الخطابات الثلاثة المذكورة، الكلام والتصوف والفلسفة، كانت تقدم، كل منها، تصورًا لله يناسب طريقة بنائها للعالم. ومن خصائص علم الكلام أنه اعتمد في فهمه لله على الصفات الثلاثة المركزية، وهي العلم والإرادة والقدرة، أي على قوة أو قدرة الله في فعله بالعالم. ونحن لا نستطيع في دراستنا لعلم الكلام أن نتجاهل دور الفاعلية الإلهية في العالم سواء في نظرية الجواهر والأعراض أو في نظرية الاستطاعة والفعل الأخلاقي الإنساني.
ولكن حتى هذه الصفات ودور الفاعلية الإلهية في العالم كانت تختلف إلى هذه الدرجة أو تلك بين مدرسة وأخرى، وكان هذا الاختلاف أيضًا يرتبط بالنظرية العامة التي تبنيها كل مدرسة عن العالم. فالله الذي تعترف كل التيارات النظرية في الإسلام على وحدانيته، تختلف في كل شيء آخر حول طبيعة هذه الوحدانية، فالله يُستحضر نظريًّا عند هذا التيار وتلك المدرسة بطريقة تختلف عن استحضار مدرسة أخرى وحقل نظري آخر؛ لذلك لا يمكن فهم رؤية المسلمين للعالم دون البحث في طريقة فهم الله، وهو أمر لا تصعب ملاحظته على الدارس للتراث الإسلامي، فالله عند الأشاعرة ليس مطابقًا تمامًا لما هو عند المعتزلة، وكلاهما يختلفان عن الحنابلة، وكل هؤلاء يختلف تصورهم عن الله عند المتصوفة والفلاسفة. من هنا يمكن القول إن الله هو الموضوع المركزي في أي بناء للعالم داخل الإسلام، وذلك من خلال طريقة استحضار وعي مدرسة ما لله في العالم.
● ألمحت في إحدى كتاباتك أنك ستتناول منهج الخطاب ومسلكه الفلسفي في أجوبته عن سؤال الله، هل نتوقع إصدارًا جديدًا في القادم من الأيام حول الموضوع؟ وهل يمكن أن تحيطنا ببعض من تفاصيله؟
■ نعم، كما ذكرت آنفًا، إذا ابتعدنا من النظرة التقليدية للخطاب الفلسفي الإسلامي سنجد أنه خطاب فيه كثير من التفاصيل التي يصعب تناولها بسهولة. يجب الاعتراف بخصوصية الفلسفة الإسلامية رغم أنها بدأت من الترجمات التي وصلت إلى المسلمين، إلا أنها استطاعت أن تجتهد في النصوص المترجمة لتعيد بناءها بطريقة محددة. ما هو شائع اليوم في دراسة الفلسفة الإسلامية أنها فلسفة مصنفة حسب الفيلسوف اليوناني الذي أثر فيها، فهي تارة فلسفة أفلوطينية أو أرسطية أو كليهما. وقليلًا ما تدرس الفلسفة الإسلامية وفق تلك الانعطافات والاجتهادات الخاصة بها التي أرادت جعلها فلسفة تنطق لغويًّا باللغة العربية وتنطق على مستوى المضمون برؤية العالم التي شاعت في الحضارة الإسلامية.
أيضًا هنا نجد أن الله في مبحث الإلهيات وهو من أهم المباحث إذا لم يكن أهمها على الإطلاق، قد أخذ شكلًا محددًا من الحضور الفلسفي في العالم عند الفلاسفة. شكلًا يتناسب مع فكرتي التعين واللاتعين، التنزيه والتشبيه، فالله بقدر ما هو متعال وغير قابل للتعريف الدقيق حسب كل فلاسفة الإسلام، هو أيضًا متعين بصفات محددة، بوصفه عقل وعاقل ومعقول، إرادة ومريد ومراد، عالم ومعلوم وعلم…، هذه نظرية سيكون لها تأثير كبير في تحديد خصوصية الله في الإسلام وابتعاد لهذه الدرجة أو تلك عن الله الأرسطي أو الأفلوطيني. الموضوع كبير؛ لذلك سأخصص له كتبًا عدة ربما، وعلى الأرجح سيصدر الكتاب الأول قريبًا، عن بدايات التفكير الفلسفي وولادة الأسئلة الفلسفية الكبرى.
الاستشراق والخلفية الأيديولوجية للباحثين
● ما تقييمك للمنجز الغربي (الاستشراق) في دراسة علم الكلام والفلسفة والتصوف؟
■ الدراسات الغربية لهذه الحقول الثلاثة دراسات تفصيلية ومدققة، وفيها كثير من الكشوفات التي تفيدنا نحن المسلمين في دراستنا لهذه الحقول نفسها، ولكن من جهة أخرى، فإن الموجه الكبير لدراسة هذه الحقول هو الخلفية الثقافية التي تحكم المستشرقين في دراسة هذه الجوانب النظرية. فالمستشرق يجد صعوبة في دراسة أي مسألة من المسائل النظرية في الإسلام وهو متحرر من خلفيته الثقافية. ربما يكون هذا الأمر طبيعيًّا، وأنا هنا أتحدث عن طبائع الأمور وليس عن أي نظرية مؤامرة. الاستشراق بذل جهدًا ندين له به نحن المسلمين في تعريفنا إلى تراثنا، لكنّ المستشرقين لم يستطيعوا أن يفهموا هذه الحقول بمعزل عن التطور التاريخي للفكر الأوربي نفسه، فقضايا علم الكلام تتشابه مع اللاهوت المسيحي، والتصوف مع تطور الفكر الصوفي الأوربي، والفلسفة هي ترجمة للفلسفة اليونانية. فهم محكومون بتاريخهم الخاص، الذي يرى تاريخ البشر كله محاكاة للتاريخ الأوربي، وهذا، على الرغم سلامة نوايا كثير من المستشرقين، يضيّع عليهم فهم هذه الحقول بخصوصياتها الثقافية التي نحتاجها اليوم، ليس فقط بالنسبة لثقافتنا، ولكن بالنسبة لثقافات البشر كلهم.
● ما آفاق دراسة علم الكلام والفلسفة والتصوف في الجامعات العربية؟ نصائحك للباحثين الشباب في هذه المجالات.
■ المناهج الدراسية لهذه الحقول في الجامعات العربية وفي الجامعات الغربية لا تنفصل عن التصورات الثقافية العامة لمجتمع من المجتمعات، فهناك جامعات عربية تدرس هذه الحقول بحذر شديد، وهي تلمح ضمنًا أو صراحةً إلى عدم مشروعيتها في التفكير في الإسلام. وهناك جامعات تدرسها بحماس شديد إذا كان هناك توجه لإحياء بعض الآراء المحددة. وهذا يطرح على الطلاب المهتمين بهذه الحقول أن يضعوا في الحسبان دائمًا وبشكل لا يقبل التردد أن الحقيقة هي المطلب الأول في البحث الأكاديمي، ولعل انطلاق الطالب من موقف أيديولوجي مسبق لدراسة مسألة كلامية أو صوفية أو فلسفية، سيكون إساءة كبيرة للعمل الأكاديمي، سواء كانت هذه النظرة الأيديولوجية محافظة ومتدينة أو حداثية وتقدمية.
الحقيقة هي المطلب الأول؛ لأنه ليس من شأن الدراسة الأكاديمية البرهنة على تجريم أو تبديع (من البدعة) هذا الرأي أو ذاك، وليس من شأنها أيضًا إعلاء موقع رأي معين لأنه يخدم الحداثة أكثر من غيره. إن البحث عن الحقيقة هو وحده من يساعد وضع الأمور في نصابها وعلى إبراز التراث الإسلامي على حقيقته، دون توظيف أيديولوجي من أي نوع كان.