تخطي إلى المحتوى
عبد الله بينو: القرآن بفرنسية يفهمها الجميع عبد الله بينو: القرآن بفرنسية يفهمها الجميع > عبد الله بينو: القرآن بفرنسية يفهمها الجميع

عبد الله بينو: القرآن بفرنسية يفهمها الجميع

أغلبُ ترجمات القرآنإلى اللسان الفرنسي أنجزها علماءُ غير مسلمين، تداولوا على نقل معانيه، طيلة ثمانية قرون، معتمدين في ذلك على مرجعيّاتهم اللاهوتيّة المسيحيّة. ولكن، في العصر الحديث، دخل غمارَ هذه التجربة فرنسيّون ممّن اعتنقوا الإسلاموتبحّروا في علومه، ومنها اجتهدوا في تعديل الكفّة وإصلاح ما ارتكبه المستشرقون من إسقاطاتٍ عَقَديّة على النصّ القرآني من دون احترامٍ لخصوصيّته ككلام متعالٍ، ترتبط فيه اللغة بالمُقدَّس وتتشابك دلالات مُفرداته وتراكيبه بمواقف الإيمان.

ولعلّ مِن أبرز مَن تصدّى لترجمة القرآن بين هذه الفئة، الباحثُ الفرنسي عبد الله بينو (1954)، الذي كان اسمه دومينيك؛ فقد اعتنق بينو الإسلام منذ حداثة سِنّه بعد أن اكتشف التصوُّف السنّي في أروقة مساجد دمشق، في حلقة الشيخ أبي النور خورشيد، فلازمَه حتّى أتقن العلوم الدينيّة وتَضلّع من أفانين العربيّة، فصار يتكلّم بها مثل أهلها وأفضل، ثمّ شرع في ترجمة القرآن، وهو ما استغرق منه زهاء عشرين سنة، ركّز خلالها على تصحيح أخطاء المُستشرقين الذين شوّهوا عمداً النسيج القيمي للإسلام، مثل ترجمة أندري شوراكي (1917 - 2007)، فضلاً عن كونهم دسّوا فيها العديد من الأفكار المنافية لمبادئ التوحيد.

وكسابقيه من المُترجمين، صدّر بينو عمله هذا بمقدّمة، بسط فيها الأسباب التي دفعتْه إلى نقل معاني القرآن فأجْمَلَها برغبته في تعميم قراءة هذا النصّ المفصلي لدى الطبقات الاجتماعيّة كافّة وعدم قَصْره على ذوي الثقافة اللاهوتيّة أو الأدبيّة العالية، كما شرح فيها طريقة بحثه، مشيراً إلى كتب المفسّرين الذين اتّكأ على تأويلاتهم، مثل الجَلاليْن والألوسي والقُرطبي، وإلى الترجمات السابقة التي تفاعل معها، كترجمة حمزة بوبكر والصادق مازيغ ومحمد غديرة وإدوارد مونتي (عميد مسجد جينف)، وكلُّهم مسلمون يوثَق بعلمهم وعَملهم، مع أنّ ترجماتهم الأقلّ دوراناً بين الناس. كما ضمّن هذه المقدّمة معلوماتٍ وروايات عن أهمّية القرآن في حياة الفرد المعاصر وتلخيصاً لخصائصه الأسلوبيّة والموضوعيّة، كأنْ نجد في الآية الواحدة أحكاماً حول الطلاق وصلاة الظهرِ والخوف وتقسيم الميراث، وهو ما يحيّر حتى أصدق القرّاء نيّةً، وكلُّ ذلك في أسلوب مبسَّط يخاطِب به قلوب المؤمنين قبل المتخصّصين الذين شاهت آفاقُ انتظارهم.

صدرت الترجمة في أوج موجات الإسلاموفوبيا بفرنسا

ولذلك، اجترح بينو ترجمة يسيرة المعجم والتراكيب، على عكس سابقيه - ولا سيّما ريجي بلاشير (1900 - 1973) وجاك بيرك (1910 - 1995) - الذين غلب عليهم الإفراط في التعمية وتعقُّد الأسلوب إلى درجة أنّ المسلم الفرنسي العادي أو المنحدر من أصول أفريقيّة وآسيوية والقاطن في الفضاء الفرنكوفوني، لا يمكنه النفاذ إليها، بل تحتاج بدورها إلى شرحٍ. ولا ننسى أنّ الرّجل ينشط في دار نشر متخصّصة في ترجمة النصوص الدينيّة والتراث الصوفيّ، اسمها "Editions I"، ولذلك فهو يُدرك حاجة القرّاء إلى نصوص يسيرة المأخذ، لا تُنفّر بوعورة تراكيبها وصورها.

ومن جهة ثانية، اجتهد الرجل في شرح الآيات المتشابهة وتوضيح معانيها بالاعتماد على العقيدة السنّيّة، ثم على شوارق التزكية الرّوحية التي تُستفاد من كلام الله، وذلك عبر تعليقات أضافها على النصّ القرآني، أيْ يكتبها بين الآيات في حدّ ذاتها، فكان يورد تعقيباته على بعض المفاهيم الغامضة، ذاكراً ما أثبته المفسّرون حولها، وهو ما من شأنه أن يقطعَ خطيَّة القراءة، ولكنْ يهب القارئ جواباً عن تساؤلاته الضمنيّة، يوسّع ثقافته ويضيء له حالاً ما أشكل من الدلالات.

وفي الآن ذاته، يثبّت بينو، في هوامش أسفل الصفحة، بعض الترجمات الأُخرى الممكنة، وهي إمّا من بنات أفكاره أو ممّا سَبَقها إليه غيرُه، في مسعىً منه إلى إتاحة أكبر عددٍ ممكن من المحتملات الدلاليّة التي يُهديها للقارئ، ولهذا الأخير أن يختار منها ما ينسجم مع ذائقته. 

وعلى سبيل المثال، علّق على آيات الحدود والجهاد ووضعية المرأة بإرجاعها إلى سياقاتها الثقافيّة والتذكير بأسباب نزولها، واقفاً في ذلك كلّه موقف "الوسيط" بين الغرب والقرآن، بين قيم الحداثة وأخلاقيات الجزيرة العربيّة.

ويساعد هذا التمشّي النادر في بيان مَواطن الغموض التي قد تُزعج القارئ الفرنسي ذا الخلفيّة الحديثة. وللتذكير، صدرت هذه الترجمة سنة 2005، أي حين عرفت فرنسا موجات من العنصريّة وازدراء الأديان والإسلاموفوبيا، عقب أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وهو ما عقّد مهمّتَه وجعله يعالج كلّ "صعوبة" عبر اختيارات دقيقة، لكن واضحة، تدافع عن قداسة الإسلام.

وهكذا تندرج هذه الترجمة ضمن تصحيح الأخطاء الاستشراقيّة المقصودة أو اللّاواعية، التي غالباً ما تنقل مصطلحات القرآن ومفاهيمه بما يقابلها في الإرث المسيحي- اليهودي، إمّا استنقاصاً من عقائد المسلمين أو تغييباً لاختيارات كبار المفسّرين وحُلولهم.

على عكس سابقيه، اجترحَ بينو ترجمة يسيرة المعجم والتراكيب

كما اجتهد بينو في نقل المفردات التي يمكن أن تصدم حساسية القارئ الغربيّ، باقتراح مقابلاتٍ سهلة ومتوافقة مع المستوى الثقافي والتعليميّ لفئات العمّال المهاجرين المنحدرين من أصول أفريقيّة وآسيويّة، والذين يتكلّمون جميعاً الفرنسية، بعد أن صارت عندهم واسطةَ النفاذ إلى القرآن، في حالة عدم معرفتهم بالعربيّة، وهذا هو حال أغلبيّة مسلمي فرنسا من العرب (الجيلين الثاني والثالث) ومن الثقافات والقوميّات الأُخرى.

ولذلك، اشتغل بينو على التراكيب فأخلاها من لوْثة التعقيد ومعضلة التقديم والتأخير والفصل والوصل بين الجُمل، إذ كانت بعض التراجم السابقة تزعج بافتعالها التأنّق الأسلوبيّ واصطناعها الأدبيّةَ، بل إنّها تُرهق بما صاغته من صيغ عسيرة الهضم والقراءة والفهم. 

كانت هذه الترجمة الميسورة طريقاً سالكاً للقرآن، تساعد على النفاذ إلى معانيه مع الاحتياط في الحفاظ على مبادئه من التحريف والتلاعب، يحضر فيها أفق الانتظار الفرنسيّ المشكّك في صدقية الإسلام والباحث عن كلّ ثغرة حتى يضخّمها، فحاول باختياراته سدّ تلك الثغرات ليمنع مساوئَ الفهم والتلاعب.

إلّا أنّ ما ينقص هذه الترجمة خلوّها تماماً من الإشارة إلى ما استجدّ في حقول الدراسات القرآنيّة الأوروبيّة الراهنة، وخصوصاً تلك التي تخالف مذهبَه، فقد كتبها بوصفه عالِم دينٍ وداعية. وذِكْرُها ليس بالضرورة بغرض تَفنيدها، وإنّما رفعاً لتهمة الجهل بها واحتياطاً من مغبّة عدم متابعة ما صدر من هذه الأعمال، وبعضها جادٌّ، يُفيد في فهم غموض مقاطع من القرآن، كتلك الاكتشافات التي تتّصل بالمقتَرَض من اللغات المجاورة.

المصدر: 
العربي الجديد