تجتذب الكتب التي تتناول عالم المكتبات اهتمام القراء من مختلف الأنواع والأعمار، وتتنوع هذه الكتب في مدى عمقها عند مقاربة حالة ذهنية حساسة مثل القراءة، أو العلاقة مع الكتب عموماً.يُعتبر بورخيس وألبرتو مانغويل من أكثر الكتّاب تتيماً بفكرة المكتبة وإخلاصاً لها، كتب بورخس "مكتبة بابل"، وحكى عن أمنية خيالية بوجود مكتبة كونية شاملة تضم كل كتب العالم، هذه الأمنية المستحيلة لم ينسبها بورخيس إلى نفسه، بل تتبع ارتحالاتها عبر الجنس البشري وصولاً إلى أرسطو.
أما مانغويل الذي حظي برفقة بورخيس كقارئ له لأربعة أعوام، فقد مسه أيضاً هوس المكتبات؛ فوضع عدة مؤلفات حول القراءة والعلاقة مع الكتب منها "تاريخ القراءة" و"يوميات القراءة" و"الفضول"، ويبدو مؤلفه "المكتبة في الليل" - دار المدى - من أكثر نصوصه تركيزاً على فكرة المكتبة من جانب دورها المؤثر في تطور الحضارة الإنسانية، وهذا يتضح من عناوين الفصول التي بدأت جميعها بكلمة "مكتبة" على غرار: "المكتبة أسطورة"، "المكتبة مكاناً"، "المكتبة هوية"، "المكتبة ورشة عمل"، "المكتبة وطناً"... يقول "قضيت نصف قرن بجمع الكتب، وبكرم لا حد له قدمت لي كتبي كل أنواع الإشراقات... حب المكتبات مثل أكثر المحبات، يجب أن يكتسب بالتعلم".
من الكتب التي تناولت عالم المكتبات أيضاً رواية "مكتبة ساحة الأعشاب"- المركز الثقافي العربي- للكاتب الفرنسي إيريك دو كيرميل، وكتاب "أشياء غريبة يقولها الزبائن في متاجر الكتب"- دار كلمات- للكاتبة الإنجليزية جين كامبل، التي أصدرت الجزء الأول منه ويتناول العبارات الغريبة والطريفة، بل المثيرة للعجب التي واجهتها المؤلفة خلال عملها كأمينة مكتبة. ولما لاقى الجزء الأول نجاحاً كبيراً تشجعت صاحبته وكتبت الجزء الثاني، تقول في مقدمة الجزء الثاني: "أحياناً أحس أن عملي كبائعة كتب هو أفضل عمل في العالم... فلتحي متاجر الكتب، باعة الكتب، والعاملون فيها".
وكما يتضح من العنوان الموفق الذي اختارته الكاتبة، فإن العبارات الغريبة التي ترفرف في سماء المكتبة من قبل أحد الرواد قد تكون: "هل لديكم أي كتب من تأليف جين إير؟"، أو أن يدور مثل هذا الحوار: "هل لديكم أي نسخة من كتاب 1986، تقصد: (1984) رواية جورج أورويل"، "لا إنها 1986، لا يمكن أن أكون مخطئاً في تذكر التاريخ لأنه العام الذي ولدت فيه".
أو أن تتلقى البائعة سؤالاً: "هل لديك ذلك الكتاب، لقد نسيت اسمه إنه يحكي عن أشخاص بأقدام ضخمة ومليئة بالشعر".
العلاقة مع المكتبة
لا تبدو العلاقة مع المكتبة مثالية بشكل دائم، إذ ثمة خيالات مفترضة أو فانتازية أو مرتبطة بالطفولة عند بعض زوار المكتبات تؤدي إلى وجود تصورات وهمية داخلهم لواقع التواصل مع المكتبة. هذا يمكن استنتاجه ليس فقط من نوعية الأسئلة الغريبة المطروحة على "الكتبية"، بل من سلوكيات بعض الأشخاص داخل جدران المكتبة مما يكشف تصوراتهم عنها، كأن تأتي أم ومعها ثلاثة أطفال، وتقول للبائعة ببساطة: "هل تسمحين لأطفالي بتسلق أرفف الكتب". أو أن يهمس زبون بشكل جاد بعد شراء كتاب "ثلاث عشرة طريقة للتخلص من جثة ميت" في الحقيقة هناك أربع عشرة طريقة لفعلها.
أو أن يحدث حوار كالتالي:
زبون: هل لديكم كتب تتحدث عن الأبراج؟
بائعة الكتب: نعم.
الزبون: شكراً إنني بحاجة لقراءة برجي بشكل عاجل، لدي شعور قوي أن ثمة أمراً سيئاً سيحصل لي اليوم.
ولعل الجملة التي تتصدر الغلاف "هل لديكم كتب موقعة من شكسبير؟". تكفي لكشف طرافة بعض الزائرين، وعيشهم داخل فقاعة تجعلهم منفصلين تماماً عن القراءة وحقيقة عالم الكتب.
لعل كثيراً من الحوارات والمواقف داخل الكتاب بجزأيه تكشف إلى جانب فانتازية العلاقة مع الكتب، عن رغبة البشر في التحوير، وعدم التوقف عند نقطة التلقي فقط، بل المشاركة في طرح افتراضاتهم الشخصية عن الأعمال الأدبية، الدخول إلى لنص وتعديله وفق رؤيتهم ورغبتهم الباطنية، أو الإحساس بالنقمة أو الغيظ من الكاتب لاختياره نهاية ما تخالف توقعاتهم، وهو بذلك يعلن أنه حاضر وموجود ويرغب في المشاركة والتأويل.
في مقابل هذا يبدو عالم المكتبة في رواية "مكتبة ساحة الأعشاب" مختلفاً تماماً، إنها رواية مكتوبة للحديث عن التأثيرات النفسية للكلمات، وأيضاً للحفر عميقاً وراء ما تفعله بنا القراءة، التصالح مع أب غائب تخلى عن ابنه في وقت ما، البحث عن الروايات المناسبة لشابة في الثامنة عشرة من عمرها تقوم والدتها بدور الرقيب عليها، اللقاء مع رجل رحالة يحل بالمكتبة من أجل العثور على كتيبات السفر إلى البلدان التي ينوي زيارتها.
يتقاطع مصير هؤلاء وغيرهم مع صاحبة المكتبة "ناتالي" وهي أستاذة جامعية خمسينية تركت باريس برفقة زوجها مفضلة الانتقال إلى جنوب فرنسا، تحديداً إلى قرية في منطقة أوزيس، كي تحقق حلمها في فتح متجر كتب. لا يبدو العالم رتيباً تماماً في بلدة صغيرة شبه منعزلة يهتم سكانها بصناعة النبيذ والمربيات، بل إن صخب النص والحركة في داخله تكمن في الحديث عن كتب مهمة وأعمال روائية مؤثرة، عن السينما، وعن البلدان التي عاشت فيها البطلة، مثل المغرب الذي تحكي عنه بمحبة وهي تصف أنواع الطعام التي أغرمت بها، وأسلوب العيش العربي. تحضر في الرواية شخصيات عدة لرواد المكتبة منهم البنت المغربية ليلى التي لا تتقن القراءة ولا الكتابة، لكن نتالي تساعدها على تعلم القراءة من خلال قراءة رواية، هناك أيضاً جاك، فيليب، باستيان ولكل منهم حكاية مع الكتب. يمكن اعتبار رواية "مكتبة ساحة العشب" من الروايات اللطيفة، السهلة التناول ويمكن قراءتها في إجازات نهاية الأسبوع، لكنها تقدم تنوعات مهمة وغزيرة لعدد من المؤلفات ترد في ختام الكتاب.
حياة القراء والعزلة
تملك الكتب تأثيراً سحرياً وأخاذاً على أحبابها، الشغف بها يجعل من أشخاص كثر قادرين على أن يمضوا يومهم في المكتبة مكتفين بها عن ملذات العالم كله، هذا النوع من الاكتفاء كان محور رواية "الكتب التي التهمت والدي- حكاية فيفالدو بوجنين العجيبة الغريبة" - دار مكسيملياني- للكاتب البرتغالي أفونسو كروش. هذه الرواية المقسمة إلى سبعة وعشرين فصلاً تبدو معظم عناوين فصولها حاملة كلمتي "كتب" أو "مكتبة"، أو عناوين أخرى تدل على أثر العلاقة مع القراءة، ثم الفصل قبل الأخير عنوانه "الناس يصبحون كتباً"، يفترض البطل أن الكتب، وتحديداً الروايات العظيمة، قد سحبت أباه إلى عالمها، فالكتب هي الشغل الشاغل لأبيه يريد كتباً بل ومزيداً من الكتب. يعشق الأب الأدب أكثر من أي شيء آخر، ويأخذ معه الكتب إلى وظيفته الحكومية الرتيبة كي يقرأ خلسة، وفي لحظة ما كان الأب يقرأ في كتاب "جزيرة الدكتور مورو" لهربرت جورج ويلز، حينها يغيب عن الحياة لأن الأدب تلبسه، يقول: "هذا يمكن أن يقع حين نركز على ما نقرأ، في مثل تلك الحالة يمكن أن نلج إلى داخل الكتاب كما حصل لوالدي، إنها عملية في غاية السهولة مثل إطلالنا عبر شرفة". البطل السارد يعثر على كنز والده من الكتب ويعمل على اقتفاء أثره في الرواية عينها التي يعتبر أنها تلبسته وأخذته إلى العالم الآخر. وفي السبعين من عمره يصل إلى خلاصة مفادها، أن الإنسان مشكّل من الحكايات وليس من الجينات والعظام، بل من الحكايات. يقول "إن المكتبة متاهة، وهذه ليست أول مرة أتوه في واحدة من المكتبات، أنا وأبي نشترك في هذا الأمر".
لكن في النتيجة وعند الحديث عن القراءة، هذا الفعل الإنساني النبيل قد ينبغي ألا ننسى القارئ في عزلته الهادرة بصخب العالم وضجيجه، عزلة عليه أن يسورها بسعي حثيث للانفصال عن الواقع عند الإمساك بكتابه، لأن كل اهتزازة من هاتفه، وكل رنة وتدوينة وتغريدة سوف تأخذ من لذة وقت القراءة الحميم وتلقي به في أتون العالم المضطرب.