تخطي إلى المحتوى
عنصرية استباحة «الجسد الدّخيل» عنصرية استباحة «الجسد الدّخيل» > عنصرية استباحة «الجسد الدّخيل»

عنصرية استباحة «الجسد الدّخيل»

كثرة الجرائم العنصرية تدفعنا إلى تأمل الظاهرة بكثير من الانشغال. المشكلة أصبحت كبيرة ورائحة عفنها تزكم الأنوف اليوم. لقد استبيح «الجسد الغريب أو الدخيل» أو الذي افترض أنه غريب، لدرجة أصبح تدميره أمراً مشروعاً أمام جبن النخب الثقافية الأوروبية التي أصبحت تسير وفق معطيات أحادية وفي نفس المسلك العنصري، بعد أن احتل «الإعلاميون المختصون» مواقع المثقف المحلل والمتبصر. من يتأمل خطابات بعض القنوات التلفزيونية الأوروبية، والفرنسية تحديداً، يتساءل إلى أين تسير هذه الخطابات الخطيرة المبنية على الكراهية، وما هي مآلاتها؟ الجريمة الأخيرة الموصوفة والممارسة عن سبق إصرار وترصد تعيدنا إلى الخطابات العنصرية المعلنة التي أصبحت «لا حدث»، مع أن القانون الفرنسي يعاقب عليها بصرامة، نظرياً على الأقل. إهانة البرلمانية ذات الأصول الإفريقية، على قناة تلفزيونية فرنسية من طرف إيريك زمور وأشباهه، لا يمكن إلا أن يقود إلى جرائم تعتمد الخطاب ضمنياً وتتجاوزه في اتجاه المرور إلى الفعل، الذي لا يمكن وصفه إلا بالجريمة الإرهابية. فالخطاب العنصري هو العتبة الأولى للجريمة العنصرية. كلما اتسعت في غياب كلي للآليات التي تحد من اتساعها، تفتح جرحاً جديداً في جسد المجتمع، بل وتدفع به إلى الهاوية. وإذا كانت هناك من نقطة إيجابية في ذلك، فهي تكشف عن عمق المرض المترسب في المجتمع. يذكر ذلك بمعاداة السامية التي ظهرت في القرن التاسع عشر. الجبن الثقافي العام هو الذي قاد، في الحرب العالمية الثانية، إلى الانهيار الكلي للقيم، والخطير. قد تبدو هذه الصورة بعيدة اليوم، لكن كل ما هو بعيد قد يقترب أو يندثر حسب التعامل معه. نحن في المناخات الخطابية نفسها، ولا شيء يمنع من عودة «استباحة الجسد الغريب أو الأجنبي». المغتال اليوم كردياً، في المركز الثقافي الكردي، نتمنى ألا ينتهي القضاء إلى اتهام المجرم وليم (69 سنة) بالجنون، من خلال تصريح الطبيب المختص الذي فحصه؟ المعاينة الأولى اعتبرت الجاني غير قابل للحجز القضائي، فتم اقتياده من هناك إلى مصحة نفسية باعتبار كرهه للأجانب حالة باتولوجية مرضية وانتحارية. فقد قال أثناء مساءلته: قبل انتحاري كانت لدي رغبة دائمة لقتل المغتربين الأجانب». فقد أخذ معه يوم الجمعة مسدسه الأوتوماتيكي كولت 45، وذهب إلى منطقة «سان-دوني» لكنه تراجع عن جريمته، قبل أن يتوجه إلى شارع «أنغان» في الدائرة العاشرة، نحو مركز ثقافي كردي، مصمماً على إفراغ كل الخراطيش التي أخذها معه، والانتحار بعدها، لكن الناس هجموا عليه في صالون حلاقة، وأوقفوه قبل انتحاره. تبرئته طبياً انجرت عنها حركات احتجاجية عنيفة، وعلى رأسها «المجلس الديمقراطي للأكراد في فرنسا» الذي اعتبر الجريمة إرهابية ولا مبرر لها إلا العنصرية وكراهية «الآخر».
في ظل هذه الأوضاع الخطيرة والأحقاد العمياء التي تتطور بشكل متسارع، والمدمرة للنسيج الوطني، نتساءل: إلى أين تتجه فرنسا وأوروبا؟ أين صوت النخب الديمقراطية؟ تحتاج هذه النخب الأوروبية اليوم إلى إعادة النظر في مشاريع القرنين التاسع عشر والعشرين، التي أنجبت المثقف الملتزم بقضايا عصره والمنخرط فيها بقوة؛ لأن المهمة صعبة، وما يقع في المحيط ثقيل جداً ويحتاج إلى قوة تتشكل من أفراد فاعلين يستطيعون ليس فقط التفكير في القادم المعقد جداً في ظل الأزمات العاصفة، ولكن أيضاً نقد ممارسات الماضي. العنصرية، مرض العصر، ليست أمراً سهلاً بل ابتذلت حتى أصبحت أو تكاد تتحول إلى أمر عادي. ينشئ المتطرفون ضغينتهم على ما سمّوه بالعنصرية ضد الرجل الأبيض التي يمارسها «الجسد الدخيل»، وهو كلام يستعمل فقط لإراحة ضمير يهتز كل يوم قليلاً، مثبتاً هزاله وضعفه الكبيرين. العنصرية أصبحت مثل المارد الذي خرج من قمقمه بحرية كبيرة. ولما نعود إلى التاريخ، نرى مثل هذه الأمراض تنتعش في ظل الأزمات الكبرى عندما تفشل النخب العاجزة في إيجاد حلولها الحقيقية، فتميل نحو الهرب أو تلصق التهمة بالآخر. نحتاج اليوم بقوة إلى «إميل زولا» جديد يصطف بجانب الحق، كما فعل مع العسكري «دريفوس» في نهايات القرن التاسع عشر، ضد آلة أيديولوجية جهنمية ومصطفة وراء اللاحقّ. رسالة زولا العظيمة: إني أتهم J’accuse ما تزال إلى اليوم تطن في الآذان، على الرغم من مرور أكثر من قرن عليها. من المؤكد أن ما تقوله الخطابات العنصرية يجد اليوم من يتلقاه في ساحة كل يوم تقضم شيئاً من نور أوروبا وتنوعها الثقافي لحساب أحادية مقيتة تنظر إلى المسلم أو العربي أو «الدخيل» ككائن غير أرضي، ينتمي إلى حضارة دنيا، قادم من مجرة أخرى لا شغل لها إلا تدمير الحضارة الغربية؟ ومن المؤكد أيضاً أن جُمَلاً عنصرية هاربة من هنا وهناك، في ظل أزمة اقتصادية وقيَمية خانقة يعيشها الأوروبيون بكل أطيافهم وأديانهم بصعوبة وقسوة، يمكنها أن تتحول إلى حقد يتنامى بهدوء وسكينة ليصبح في النهاية عنفاً يصعب التحكم فيه بسهولة. فعقلية التقسيمات الحضارية بهذا الشكل لا يمكنها إلا أن ترجع الكثير من الأوروبيين إلى زمن يتم فيه الحكم على الناس وفق علامات أوجههم، وثقافتهم، ولغاتهم ودياناتهم، وليس وفق ما يمكن أن يمنحوه للمجتمع الفرنسي أو الأوروبي من غنى وتطور وإضافة. المؤكد أيضاً أن الأوروبيين الذين اكتووا بنار النازية واللاسامية، والعنصرية المقيتة، سيحاربون بقوة مثل هذه الأفكار التي تغلّب المصلحة السياسوية الضيقة على حساب الوحدة واللحمة التي تكونت عبر القرون. إن العنصرية مثل الوباء في ظل الأزمات الكبرى، تنتشر كالنار في الهشيم؛ لتصبح في الدول الأوروبية التي كانت إلى وقت قريب مسالمة -هولندا والدانمرك والسويد وسويسرا والنرويج وغيرها- مرضاً مستعصياً ينميه المحافظون الوطنيون، ومكاناً لانتشار الوباء ضد الأجنبي المخالف عرقياً ودينياً، وربما كان العربي والمسلم هو الضحية المثلى في ظل الأزمات والأفعال الإرهابية التي كان ضحيتها هو قبل غيره، مثلما كان اليهودي في القرنين التاسع عشر والعشرين ضحية زمانه، فألصقت به كل تهم الدنيا، وقيس شعب ودين بكامله من خلال ممارسات الأقلية الباهتة. يجب أن تدفع جريمة العنصرية بنا، كتاباً ومثقفين وناساً عاديين، إلى التأمل والتفكير؛ لأن المستقبل ينبئ بفظاعات أكبر. يجب أن توقظ فينا الحالة حواسنا المقتولة بالإعلام المضلل وتدفع بمنظّري النقاء العرقي الجدد إلى إعادة النظر في أطروحاتهم، وأنهم يعودون بالبشرية إلى الخلف، أي إلى أوبئتها القديمة؟ السبل والمخارج كثيرة، ولكني على يقين من أنّ أوروبا اليوم في حاجة، لتفادي كارثة أخرى تلوح في الأفق شبيهة بالهولوكست، إلى رديف «للمجلة البيضاء «La revue Blanche التي كان يكتب فيها كثير من المثقفين والفنانين والتشكيليين والموسيقيين والسياسيين، والكتاب الذين لعبوا دوراً عالمياً حاسماً في تمييل القضية نحو احترام الإنسان وجدارته بالعيش حراً في المجتمع المتعدد الذي ينتمي إليه. فقد كانت فضاء للنقاش الحر إذ ضمت في صفوفها كل المتعطشين إلى الحرية والعدالة من فوضويين Les Anarchistes واشتراكيين ومناصري حقوق الإنسان، الذين رفضوا في زمانهم جرائم الإبادة في أرمينيا، وأدانوا البربرية الأوروبية في حروبها الاستعمارية، كما نشروا نصوصاً هجائية Pamphlets مثل تولستوي ونيتشه وشتنير Steiner وغيرهم، ضد عصرهم القاسي.
إنّ الإنسانية تحتاج اليوم إلى أوروبا أخرى غير تلك المتصفة بالأنانية، الضيقة الرؤية ومحدودية الأفق، التي بدأت تترسخ للأسف؛ إنسانية تدفع بالمواطنة التي هي رهان حقيقي في الانتماء الفردي للجماعة، إلى إيجاد مكانها الطبيعي بوصفها آلة حقيقة لرتق الاختلافات والجراحات أمام شراكة حقيقية لبناء وطن يجد كل واحد فيه تعبيراته الحرة.

المصدر: 
القدس العربي