غياب مجلة عربية يترك فراغاً كبيراً لدى قرائها وضمن حركة النشر، ويطرح أسئلة كثيرة حول الأسباب التي تقف وراء ذلك. قد تتعدد الأسباب، وتتراوح بين شح التمويل، وتراجع عدد القراء، وصعوبة التوزيع وعدم الوصول إلى شرائح أوسع من القراء.. وربما يرجع الأمر إلى خلل في التخطيط وسوء إدارة وضعف مهنية في رسم السياسات العامة، وهذا في معايير اليوم، غير ما كان يجري النظر إليه قبل ثلاثة عقود، قبل أن تبدأ الانترنت بتسهيل القراءة وتقلص عدد قراء المطبوعات الورقية تدريجياً.
شهدت أعوام الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي حركة نشر واسعة للمجلات الأسبوعية والشهرية في مصر ولبنان وسوريا والخليج العربي وحتى أوروبا، ويمكن أن نحصي عدداً كبيراً من هذه المطبوعات التي انتشرت عربياً. وعلى سبيل المثال لا الحصر، من بين المجلات التي لقيت شهرة واسعة في مصر: الكاتب، الفكر المعاصر، الطليعة. ومن الاسبوعيات: روز اليوسف، وفي لبنان الآداب، شعر، مواقف، الطريق، ومن الاسبوعيات الأسبوع العربي، الحوادث، الصياد، النهار العربي والدولي، المستقبل، الوطن العربي. وفي سوريا، المعرفة، الموقف الأدبي، الآداب الأجنبية، الحياة السينمائية. وفي قطر: الدوحة، وفي الكويت: العربي، وفي العراق: الأقلام، وفي عمان: نزوى، وفي فلسطين: الكرمل، وشؤون فلسطينية. وهناك اسبوعيات وشهريات كثيرة صدرت في بلدان عربية أخرى مثل ليبيا، الإمارات، اليمن، المغرب، والجزائر.
بدأ التراجع الكبير في حركة الطباعة بداية تسعينيات القرن الماضي، ولم يصل إلى كافة البلدان العربية في الوقت نفسه، بل حافظ بعضها على بضع مجلات، كما كان عليه الحال في مصر التي استمرت تصدر مجلات مهمة، مثل "فصول" التي رأس تحريرها الكاتب جابر عصفور، و"القاهرة" التي رأس تحريرها الناقد غالي شكري، و"إبداع" التي رأس تحريرها الشاعر احمد عبد المعطي حجازي. وفي بيروت استمرت الآداب، ولم تتوقف ورقياً حتى العام 2013، ومنذ ذلك الوقت بدأت مسيرة تراجعها حين تحولت إلى موقع الكتروني، وآخر الأعداد الالكترونية منها كرس لغياب رئيس تحريرها سماح إدريس قبل مدة.
لكل مجلة مكانها الخاص في الحياة الثقافية والسياسية، والذي يتأثر سلباً بسبب التوقف عن الصدور، أو التحول إلى موقع الكتروني. ورغم أن بعض المجلات أخذ صبغة ثقافية أو سياسية معينة، ترمز إلى تيار فكري أو حركة ثقافية من زمن مضى، فإن شعبيتها بقيت قائمة، ومثال ذلك مجلة الآداب، وذلك لأسباب متعددة، يبقى أهمها أن الثقافة في جوهرها لا تتأثر بمعايير الموضة، وهذا يعني أن مجلة الآداب قامت على أرض متينة ثقافياً، كما هو الأمر مع مجلة الهلال التي أسسها جرجي زيدان في نهاية القرن التاسع عشر، وما زالت تصدر حتى اليوم.
إصدار مجلة ناجحة عمل صعب، ويتطلب توافر أكثر من عامل مساعد. الأمر لا يتوقف دائماً على توفير التمويل اللازم، بل يعتمد على الهدف الذي تضعه لنفسها. وعلى قدر ما تحقق المجلة من نجاح، يكون حجم الفراغ الذي تتركه عند إيقافها. وما من مجلة ناجحة تجد صعوبات في الاستمرار، وغالباً ما يكون مرد ذلك إلى الفشل في إدارتها، وهنا يجدر التنويه بأهمية المايسترو الذي يقود فريق العمل، فالكثير من المشاريع واجهت صعوبة بالاستمرار في بالزخم نفسه، بسبب غياب الشخص الذي تولى المسؤولية الأساسية، كما يشكل توزيع وانتشار المجلة أحد عوامل النجاح الأساسية. ومن المؤكد أن كلفة إصدار المجلة عالية، ولا يمكن تحقيق ربح مادي من ورائها في أي حال من الأحوال، بل هناك خسارة مالية. وتؤكد التجارب أن المجلات العربية صدرت واستمرت بفضل موازنات حكومية، وكان البعض يرمي الى رسالة ثقافية تتجاوز الحدود، كما هو حال المجلات المصرية التي صدرت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مثل الطليعة والكاتب.
ثمة من يعتبر أن المجلات موضة انتهى زمنها، وفي أحسن الأحوال منابر تعبير لم تعد مناسبة، وحلت محلها وسائل أخرى. وهذا خطأ كبير بدليل أن البلدان المتطورة على مستوى الثقافة والاعلام، ما زالت تصدر فيها مجلات فصلية وشهرية واسبوعية، ثقافية وفكرية وسياسية، ولم تنتفِ الحاجة إلى هذا النمط من المطبوعات بسبب الانترنت. وفي بلدان مثل فرنسا، هناك اسبوعيات كانت تصدر قبل الانترنت، واستمرت في الصدور، منها اسبوعيات لوبوان، الاكسبرس، وماريان، والأمر ذاته بالنسبة إلى شهريات مثل "لير" و"ماغازين ليتيرير"، وكذلك هو الحال خارج فرنسا، مثل "لندن ريفيو اوف بوكس" و"نيويورك ريفيو اوف بوكس".
يُعدّ النقص فادحاً في العالم العربي. فليس هناك مجلة أسبوعية واحدة اليوم مثل "اليوم السابع" التي صدرت من باريس العام 1983، وتوقفت في 1991، بل انقرضت كوكبة كبيرة من الاسبوعيات دفعة واحدة، ولا يختلف الوضع بالنسبة للمجلات الشهرية. ولا تفسير لهذا الخلل سوى الركون إلى القناعات الجاهزة، حول التأثير السلبي الذي أحدثه الأنترنت في المطبوعات الورقية، وسرعة تدفق المعلومات.
ثمة أجيال عربية، شكلت المجلات الأسبوعية والشهرية والفصلية مصدر معلوماتها وثقافتها. وهناك من ينسب الفضل في تكوين وعيه السياسي أو الثقافي إلى هذه المجلة أو تلك. وما من قارئ عربي، إلا ويعترف بتأثير مجلة أو مجلات، في تثقيفه وخياراته الثقافية. وبلا جدال، شكل بعض المجلات علامات مرجعية في الحداثة، مثل الهلال والآداب وشعر. وساهمت مطبوعات عربية في ربط أجزاء العالم العربي بعضها ببعض، في حين كانت الخلافات والانقسامات والاستقطابات السياسية، حادة، وتحول دون حصول تفاعل بين البلدان العربية. وأدى تعدد المطبوعات إلى إثراء الحياة الثقافية، وتوفير منابر للحوار السياسي، وتطوير المؤسسات الاعلامية والثقافية.