تخطي إلى المحتوى
عن مصائر الكتب ومكتبات غزّة المُدمّرة والمكوّمة تحت الركام 2 ـ 2 عن مصائر الكتب ومكتبات غزّة المُدمّرة والمكوّمة تحت الركام 2 ـ 2 > عن مصائر الكتب ومكتبات غزّة المُدمّرة والمكوّمة تحت الركام 2 ـ 2

عن مصائر الكتب ومكتبات غزّة المُدمّرة والمكوّمة تحت الركام 2 ـ 2

المكتبات في مواجهة مجرمي الحرب
موضوع إبادة الكتب في غزّة يحيلنا إلى بعض الكتب التي تناولت هذا الموضوع، ومنها كتاب "إحراق الكتب: تاريخ الهجوم على المعرفة"، من تأليف الباحث والكاتب البريطاني ريتشارد أوفندن، أمين مكتبات جامعة أكسفورد، والأمين السابق لمكتبات مجلس اللوردات، وجامعة إدنبرة، وجامعة لندن، وسواها(5).
الكتاب صدر باللغة الإنكليزية في طبعته الأولى عام 2020م في لندن، وبعد عامين، أصدرت جامعة هارفارد الأميركية طبعة ثانية منه، وفي ثنايا الفصول الخمسة عشر الممتدّة على 360 صفحة، يروي أوفندن، أفظع وقائع حرب الكتب في التاريخ الاستعماري الحديث، لدول وأنظمة تتفاخر بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتكريم الثقافة، واصفًا التدمير المتعمّد للمعرفة الموجودة في المكتبات والمحفوظات من الإسكندرية القديمة إلى سراييفو المعاصرة، ومن الألواح الآشورية المحطّمة في العراق إلى وثائق الهجرة المُدمّرة لجيل وندريش في المملكة المتّحدة. ثم يدرس الدوافع وراء هذه الأعمال ــ السياسية والدينية والثقافية ــ والموضوعات الأوسع التي تشكّل هذا التاريخ. كما ينظر إلى محاولات منع الهجمات على المعرفة والتخفيف منها، ويعرض لجهود أمناء المكتبات والمحفوظات للحفاظ على المعلومات، وهم الذين وضعوا في معظم الأحيان حياتهم على المحك.
يميّز المؤلّف، في السياق، بين الحرق الذي كان يلحق بالمكتبات والأرشيفات بالصدفة، وبين الحرق المتعمّد الذي يُمثّل "الإبادة الثقافية"، ويُمهّد لـ"التطهير العِرقي"، أو التخلّص من الشعب "غير المرغوب فيه". يبرز ذلك بوضوح في الفصل العاشر من الكتاب، وهو الفصل الذي خصّصه لسراييفو خلال الحرب على البوسنة من 1992 إلى 1995م، حيث يربط بين "الإبادة الثقافية"، و"التطهير العِرقي"، أو في التخلّص من شعب "غير مرغوب فيه" في المنطقة.
يسرد أوفندن عددًا من قصص تعرّض المعرفة الإنسانية لهجمات عديدة استهدفت محوها على مرّ العصور، وإحراق الكتب والمخطوطات والمكتبات والأرشيفات والسجلّات والوثائق، منذ الأزمنة القديمة وحتى العصر الراهن، في بلاد ومدن مختلفة بينها الإسكندرية، والأندلس، والجزائر، وبغداد، وواشنطن، ولندن، وبرلين، وسراييفو، وغيرها.
من تلك القصص إحراق مكتبة الإسكندرية، التي يقول المؤلّف إنّه خزّنت بها معرفة العالم كاملة، لتضم 500 ألف مخطوطة، موضحًا كيف قام الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر بإشعال حريق بواسطة أسطول بحري في البحر المتوسط، إلى أن وصلت النيران إلى مكتبة الإسكندرية الكبرى، وتم تدميرها، وسُويت بالأرض تمامًا جراء الحريق عام 48 للميلاد. وحريق المكتبة الإمبراطورية في روما عام 192م، إذ "دَمّرت النيران المخطوطات الأصلية التي حوت نسخة العلماء الشهيرة من أعمال هوميروس، وهو أحد المؤلّفين المؤثّرين في العصر الكلاسيكي (وربما في كل العصور)".
وترد في الكتاب قصّة التدمير المغولي في العراق، خصوصًا أيام غزو تيمورلنك (1239 ــ 1400م)، حيث هدمها وأحرق مكتباتها، ولا سيما مكتبة بيت الحكمة في بغداد عام 656هـ/ 1258م، وهي أكبر مكتبة في العالم، حيث رمى أطنان الكتب والمراجع في النهر حتى اصطبغ باللون الأزرق.
يحدّثنا أوفندن عن قصص عمليات إبادة الكتب في التاريخ الحديث، ومن ذلك محرقة الكتب التي نظّمتها السلطات النازية يوم 10 مايو/ أيار 1933م في ساحة الأوبرا في قلب برلين، حيث تم إحراق أكثر من 20 ألف كتاب أمام عيون الجميع، لمجموعة من أعمال كتّاب ألمان شهيرين. يؤكّد الكاتب أنّ صعود هتلر للسلطة في ذلك اليوم (10 مايو/ أيار 1933م) كان مجرّد تمهيد لما يمكن أن يُعَدّ أكثر عمليات إزالة الكتب من الوجود تهيئة وتجهيزًا عبر التاريخ.
كما يستعرض الكتاب عملية الإحراق المتعمّد للمكتبة الوطنية والجامعية في سراييفو، في مساء يوم 25 أغسطس/ آب 1992م، عن طريق قصف جوي استُخدمت فيه قذائف مصمّمة خصيصًا لإحداث أوسع نطاق ممكن من الحرائق، كما تابع سلاح الجو الصربي قصف المكان لمنع رجال الإطفاء والعاملين في المكتبة من إنقاذ مخطوطات نفيسة، وآلاف الكتب النادرة. يقول أوفندن ــ من دون مواربة ــ "كانت المكتبة هي الهدف الوحيد للهجوم. كان الهدف إحراق هذه المجموعة المؤلّفة من مليون ونصف المليون كتاب ومخطوطة وخريطة وصورة ومواد أخرى"، موضحًا أنّ الهجوم كان بواسطة القنابل والقذائف الحارقة على المكتبة الوطنية والجامعية في البوسنة والهرسك، والتي تأسّست عام 1945م، حيث كانت توجد في مبنى يطلق عليه اسم "فياشنيكا" (أي دار المدينة) على يد المليشيا الصربية أثناء حصار سراييفو. ويبيّن الكاتب أنّ إحراق المكتبة بالكامل استغرق ثلاثة أيام (من 25 وحتى 27 أغسطس/ آب)، مؤكّدًا أنّها كانت جزءًا من عملية إبادة منظّمة بدقة متناهية، هدفها الأقصى محو الآثار المادية للوجود الإسلامي في البلقان، والذي يعود بجذوره إلى قرون عدة.
ويبرز أوفندن في الإشارة إلى عملية الإبادة أنّ أندرس رايدلماير، وهو أمين مكتبة في مكتبة هارفارد للفنون، كان شاهد اتّهام في محاكمة الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش. و"رايدلماير واحد من أمناء المكتبات القليلين الذين واجهوا مجرمي الحرب"، بحسب أوفندن.
 
محارق الكتب على مرّ العصور
 
ثمة كتابٌ ثانٍ يتناول ظاهرة حرق الكتب في القرن العشرين، هو "إبادة الكتب: تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين"، للكاتبة ربيكا نوث، الأستاذة في جامعة هاواي، والمختصّة في علوم المكتبات، والذي تركز فيه على الربط بين ظاهرة حرق الكتب وجريمتي "الإبادة الجماعية"، و"الإبادة العِرقية"، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على روابط المكتبات بالتاريخ والذاكرة الجمعية والهوية والتنمية.
وترى نوث أنّ الهجمات التي تستهدف الممتلكات الثقافية أكبر من مجرّد تخريب لأعيان مدنية، فهي في جوهرها ترمي إلى محو تاريخ البشر وتراثهم، والحط من إنسانيتهم. لذا، فإنّ هذه الممتلكات مشمولة بالحماية بموجب القانون الدولي الإنساني.
يتمحور كتاب ربيكا نوث في جانبه الأكبر حول الإطار النظري لإبادة الكتب، وفيه تسوق لخمس دراسات حالة للبرهنة على أنّ العنف الذي يمارس ضدّ البشر يسبقه أو يلحقه بالضرورة "عنف يمارس ضدّ الكتب"، وهو ما حدث في: ألمانيا النازية، والصين خلال الثورة الثقافية، والتبت، والكويت أثناء الاحتلال العراقي، والبوسنة أثناء الحرب الصربية.
يعرض الكتاب في الختام الصدام بين الأيديولوجيات المتطرّفة والنزعة الإنسية، ونظرة كل فريق إلى وظيفة الكتاب والمكتبات، كما يعرض لتطوّر القانون الدولي، وآليات الحيلولة دون تدمير الممتلكات الثقافية، أو تخريبها أو نهبها.
 
بحسب المؤلّفة، فإنّ مصطلح "إبادة الكتب"(libricide) يشير إلى مكوِّنٍ من مكوّنات الإبادة الإثنية، كما يشير إلى السمة المشتركة بين مصطلحي "إبادة جماعية"، و"إبادة إثنية"، أي الإبادة.
ومصطلح "إبادة الكتب" يميّز استهداف الكتب والمكتبات، تحديدًا، عن الأشكال الأخرى لمحو ثقافة جماعة ما. وفي حين تعني "الإبادة الجماعية" حرمان جماعة بشرية كاملة من حقّها في الوجود، فإنّ "الإبادة الإثنية" تعني تدمير ثقافة ما، من دون إبادة أهلها أنفسهم. وغالبًا ما تحدث الإبادة الجماعية والإثنية بالتتابع، إذ تبدأ الإبادة الجماعية بإبادة إثنية أوّلًا، أو أنّهما تحدثان بالتزامن. ومع أنّ موضوع الإبادة الإثنية لم يحظَ بالاهتمام نفسه الذي حظيت به الإبادة الجماعية، إلّا أنّ النظريات المطبقة على الأخيرة يمكن أن تطبق أيضًا على تدمير ثقافة جماعة ما.
تبرهن نوث في كتابها على أنّ ما يحدث من عمليات لإبادة البشر تسبقه، أو تتبعه، كوارث تدمير الكتب والمكتبات والإرث الحضاري، فـ"إبادة الكتب تشترك فعليًا في المجال النظري ذاته مع الإبادة... والأنظمة السياسية التي ترتكب الإبادات الجماعية هي ذاتها التي تُدمّر أيضًا الثمرة المادية لثقافة الضحايا وكتبهم ومكتباتهم".
يروي الكتاب عشرات الوقائع المأسوية لإحراق وإبادة الكتب والمكتبات خلال القرن العشرين، الذي يوصف بأنّه "الأكثر دموية بين القرون جميعًا؛ إذ كان فيه القتل الجماعي للمدنيين هو سبب معظم الوفيات خلاله"، وهو القرن الذي شهد إبادات جماعية مماثلة للكتب، وكل ما يُمثّل الثقافة والحضارة.
تؤكّد أستاذة علوم المكتبات في الكتاب أنّ حملات "إبادة الكتب" ليست مجرّد جرائم عشوائية يرتكبها برابرة وظلاميون، بل وسيلة من وسائل شنّ الحرب تتّسم بأنّها عمدية ومنهجية، توظّف العنف لحرمان جماعة ما من حقوقها لخدمة أيديولوجية متطرّفة، كما ترى أنّ محارق الكتب في القرن العشرين مرآة للمعارك بين الأيديولوجيات المتطرّفة والنزعة الإنسية الديمقراطية.
نوث، ضمّنت كتابها، كثيرًا من الاعترافات المخزية والمؤسفة من جهة، والنادمة والمعتذرة من جهة أخرى للذين شاركوا في مثل هذه المحارق للكتب، ففي لحظة ندم يتذكر الكاتب الصيني با جين (1905 ــ 2005م) هذه الحالة الهياجية لإحراق الكتب أثناء الثورة الثقافية الصينية تحت حكم ماو تسي تونغ قائلًا: "دَمّرت الكلاسيكيات الأدبية كأنّها فئران تمرّ عبر الشوارع... بيدي دَمّرت كتبًا ومجلات وخطابات ومخطوطات كنت أحتفظ بها لسنوات باعتبارها كنوزًا... تنكرت لذاتي... واعتقدت أنّ المجتمع المثالي هو المجتمع الذي لا مكان فيه للثقافة ولا المعرفة ولا الأعمال الأدبية".
كما تنقل المؤلّفة عن أحد القيّمين على المكتبة الوطنية في العاصمة البوسنية سراييفو، والذي صار وزير العلم في البوسنة بعد ذلك، وصفه لما فعله الصرب بتراثهم الفكري، بإحراق مكتبتهم؛ إذ يروي أنّ "الهجوم استمرّ أقل من نصف ساعة، واستمرّت النيران مشتعلة حتى اليوم التالي، وتناثر الورق المحترق في أرجاء المدينة... وكانت بقايا صفحات هشة تتساقط كأنّها ندف ثلج أسود قذر".
 

هوامش:

(1) صبحي حديدي، "إحراق الكتاب: "بنك أهداف" القرون"، القدس العربي، 23/ 05/ 2021م.
(2) عماد الأحمد، "قراءة هرتزل في بيروت: مركز الأبحاث المنهوب"، مجلة "المجلة"، 25/ 08/ 2024م.
(3) انظر مقالنا "نهب الممتلكات العربية في حرب 1948: كتب وآلات موسيقية وملابس"…، مجلة "رمان الثقافية"، 06/04/2023م.
(4) يسري الغول، "عن المكتبة والمقتلة: شهادة روائي على تدمير المكتبات في قطاع غزّة"، ملف خاصّ "غزّة: إبادة جماعية"، مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، 24/07/2024م.
(5) عمل ريتشارد أوفندن في عدد من الأرشيفات والمكتبات المهمّة، بما في ذلك مكتبة مجلس اللوردات، والمكتبة الوطنية في أسكتلندا (بصفته أمينًا للمكتبة)، وفي جامعة إدنبرة، حيث كان مديرًا لمجموعات تؤرشف تاريخ تدمير المعرفة المسجّلة على مدار ثلاثة آلاف سنة من التاريخ.
 
مراجع:
(1) ريتشارد أوفندن، "إحراق الكتب: تاريخ الهجوم على المعرفة"، ترجمة: زينة بارودي، مراجعة وتحرير: مركز التعريب والبرمجة، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2020م.
(2) ربيكا نوث، "إبادة الكتب: تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين"، ترجمة: عاطف سيد عثمان، سلسلة "عالم المعرفة"، العدد (461)، الكويت ــ يونيو/ حزيران 2018م.
المصدر: 
ضفة ثالثة