عيد الجلاء الأول، يوم تحرير سورية من الانتداب الفرنسي في 17 نيسان 1946. اعتبر هذا اليوم عيداً وطنياً في سورية، تُعطل فيه المدارس والدوائر الحكومية كافّة، ويتلقى رئيس الجمهورية برقيات التهنئة من الملوك والرؤساء العرب والأجانب. كانت سورية قبلها تحتفل بعيد الاستقلال عن الدولة العثمانية في 8 آذار 1920، ولكنّه ألغي مع فرض الانتداب واستبدل بعيد الجلاء ابتداء من العام 1946.
عيد الجلاء الأول
بدأ العيد الوطني في الساعة الثامنة من صباح يوم الأربعاء في 17 نيسان 1946 بإطلاق واحد وعشرين طلقة مدفع من قلعة دمشق، معلنة جلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي السورية. كان الانسحاب الفرنسي قد بدأ منذ حزيران 1945 وانتهى في 6 نيسان 1946، ولكن العيد أُجّل بطلب من رئيس الجمهورية شكري القوتلي لتعارضه مع أعياد عيد الفصح وثُبّت رسمياً بتاريخ 17 نيسان.
ترافق إطلاق المدافع مع تكبير الجوامع وقرع أجراس الكنائس، وخرج الناس إلى الشوارع والساحات العامة لمشاهدة الاستعراض العسكري في شارع بيروت، الذي سمّي من يومها بشارع الرئيس شكري القوتلي. خرج الرئيس القوتلي من القصر الجمهوري في منطقة المهاجرين في سيارة سوداء مكشوفة، واقفاً إلى يمينه رئيس الحكومة سعد الله الجابري، وتوجوا معاً إلى مكان الاستعراض حيث نصبت منصة كبيرة لاستقبال الضيوف. خفضت الدولة السورية قيمة التنقلات العامة بدمشق بقيمة %50 يومها وامتلت فنادق العاصمة بشكل كامل حيث قُدّر عدد القادمين من بقية المحافظات السورية والبلدان العربية بما لا يقل عن خمسة وسبعين ألف زائر.
الضيوف العرب والسوريين
حضرت من الدول العربية وفود رسمية وشعبية لمشاركة سورية احتفالها الوطني، وفي مقدمتها
· وفد المملكة المصرية: عبد اللطيف طلعت باشا، ممثلاً عن الملك فاروق.
· وفد المملكة العربية السعودية: ولي العهد الأمير سعود بن عبد العزيز وشقيقه وزير خارجية الأمير فيصل بن عبد العزيز، ممثلين عن أبيهم الملك عبد العزيز آل سعود.
· وفد المملكة العراقية الهاشمية: رئيس الحكومة ووزير الخارجية توفيق السويدي
· وفد الجمهورية اللبنانية: رئيس الحكومة سامي الصلح، وزير الخارجية حميد فرنجية، رئيس الحكومة السابق رياض الصلح، رئيس الحكومة الأسبق عبد الحميد كرامي
· وفد دولة فلسطين: أكرم زعيتر وعوني عبد الهادي
· وفد جامعة الدول العربية الممثلة بأمينها العام عبد الرحمن عزام باشا
جلس الضيوف العرب في الصف الأول، إلى جانب رئيس الجمهورية السورية الأسبق هاشم الأتاسي ومعه وزير الخارجية جميل مردم بك ورؤساء الحكومات السابقون لطفي الحفار ونصوحي البخاري وحسني البرازي وحسن الحكيم، وغاب عن العرض رؤساء الدولة السورية السابقون صبحي بركات، المقيم يومها في أنطاكيا، والداماد أحمد نامي المقيم في بيروت. كما غاب عن العرض سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى بسبب خلافه سياسي مع الرئيس القوتلي وأقام عرض منفصل في جبل الدروز.
العرض العسكري
استُقبل الرئيس القوتلي على المنصة من قبل رئيس مجلس النواب فارس الخوري وبدأ العرض العسكري بقطعات من الجيش السوري الوليد، ومعهم سبعة جنود يحملون سبعة أعلام الدول العربية المشاركة بالعيد (سورية – مصر – الأردن – السعودية – ال
جاءت بعدها فرقة من الدرك، تلتها فرق من الكشّاف السوري يحملون صورة كبير للشهيد يوسف العظمة، بطل معركة ميسلون الذي استشهد في مقاومة الفرنسيين يوم 24 تموز 1920. وحمل شباب الكشّاف لوحة كبيرة كُتب عليها “يا ظلام السجن خيّم” من شعر الصحفي السوري نجيب الريّس. ردد الجماهير بصوت واحد: “إننا نهوى الظلام ليس بعد الظُلم إلا فجرُ مجدٍ يتسامى.” ثم تقدمت بنات المدارس من السرادق بلباسهم الأبيض، يحملون أكياساً فيها حفنة تراب من كل المدن السورية، قدموها للرئيس القوتلي، وبعدهم كان عرضاً خاصاً لمجاهدي الثورة السورية الكبرى، يحملون بنادقهم القديمة التي رفعت في وجه فرنسا سنة 1925.
خطاب الرئيس القوتلي
خطب القوتلي بالجماهير بعدها من على شرفة السراي الكبير في ساحة المرجة قائلاً:
بني وطني…
أهنئ اليوم هذه الأمة، شباباً وشيباً، هلالاً وصليباً. أهنئ ذلك الفلاح، دعاه داعي الوطن فلباه، هجر مزرعته وتنكب بندقيته، وراح يذود عن أمته ويثأر لكرامته. أهنئ العامل الكادح، يجعل من نفسه لوطنه الفداء، وهو فيما يصيبه لمن السعداء. أهنئ ذلك الطالب، تتأجج روحه حماسة، ويغلي مرجله إباء.
أهنئ الأستاذ يبث العزة القومية، والشاعر يهز الروح الوطنية، والكاتب ينافح عن الحق ويشدد العزائم. أهنئ ذلك التاجر طالما غادر متجره احتجاجاً على ظلم صارخ، ودفعاً لعدوان نازل. أهنئ رجل الأحياء تثيره النخوة ويستجيب للحمية. وأبارك للسيدة تؤدي واجبها جهداً وثباتاً وصبراً.
وفي المساء، أقيمت مأدبة عشاء للضيوف العرب في القصر الجمهورية، وخرجت مسيرة مشاعل في شارع النصر، نظمها الزعيم الوطني فخري البارودي.
عيد الجلاء في سنوات لاحقة
بقي الاستعراض العسكري جزءاً من الاحتفال السنوي بعيد الجلاء وفي احتفالات العيد العاشر سنة 1956 شاركت وحدات من الجيش المصري بالعرض، بطلب من الرئيس جمال عبد الناصر. ألغي الاحتفال في سنوات الوحدة السورية المصرية (1958-1961) واعتمد تاريخ 23 تموز عيداً وطنياً للجمهورية العربية المتحدة، وهي ذكرى ثورة يوليو التي قادها عبد الناصر ورفاقه الضباط الأحرار على الملك فاروق سنة 1952. عاد الاحتفال بعيد الجلاء في زمن الانفصال وفي السنة الأولى من حكم حزب البعث، ليتم إلغاء الاستعراض العسكري في 17 نيسان 1964 والاكتفاء بتعطيل دوائر الحكومة، وذلك بسبب القلاقل الأمنية الدائرة يومها بين رئيس الدولة أمين الحافظ وجماعة الإخوان المسلمين.