تخطي إلى المحتوى
فرنسا/ جيل الهُويات القتيلة و«العدَمية» فرنسا/ جيل الهُويات القتيلة و«العدَمية» > فرنسا/ جيل الهُويات القتيلة و«العدَمية»

فرنسا/ جيل الهُويات القتيلة و«العدَمية»

هل يكفي الحل الأمني وحده، على ضرورته، في وضع جد معقد التقت فيه المعضلات الهوياتية والثقافية والاجتماعية التي لم تجد لها حلاً طبيعياً في مجتمع متعدد ثقافياً حتى لو أعاده بعض الساسة والمثقفين المتطرفين إلى صفائه العرقي الذي لا يختلف في شيء عن الأطروحات «الآرية» التي تجعل شعباً فوق الأمم كلها، ولا تؤمن إلا بصفاء عرقي افترضته منذ البداية دون أن يعني ذلك شيئاً في الواقع الموضوعي؟
حتى الساعة ما تزال أدخنة الحرائق تصعد هنا وهناك من الأماكن والسيارات التي تم حرقها، من باريس حتى مارسيليا. المؤشرات المتوفرة اليوم تسير نحو عودة الهدنة و«الحياة الطبيعية» بعد «الفوضى» المدمرة التي مست المدينة وأغرقت البلاد كلها في حالة من الرعب هي أقرب إلى «الحرب الأهلية».
كل شيء بدأ بحادث عرضي في شكله العام، صباح الثلاثاء. سيارة مرسيديس كلاس A، على متنها ثلاثة صبيان تسير في طريق التراموي، دون التوقف في الإشارات الحمراء. بعد ملاحقة قصيرة، يجبر الشرطيان السائق (نائل، 17 سنة) على التوقف. فينصاع لأوامر رجلي الأمن. يخرج الشرطيان مسدسيهما ويهددان السائق الذي يضغط على الدواسة الأوتوماتيكية وينطلق بسيارته. في تلك اللحظة يطلق الشرطي النار على نائل ويرديه قتيلاً. الصور التي سجلتها مختلف الكاميرات في الطريق أثبتت الاعتداء الموصوف الذي لا يمكن تبريره. ياسين بوزرو، محامي أسرة الضحية، قال «إن الفيديو المصور للحادثة يظهر بشكل واضح الشرطي وهو يطلق النار بشكل عمدي على نائل، ولم يكن في حالة دفاع عن النفس».
اندلعت بعدها أحداث خطيرة خربت كل شيء في طريقها دون أي تمييز، بالخصوص ما يميز مؤسسات الدولة. وهو فعل همجي لا يمكن قبوله ولا تبريره لأن هنا صيغاً أخرى للاحتجاج أكثر جدوى من حالات العنف. ما حدث من تدمير ونهب ومشاهد مؤسفة يبين الوجع العميق في مجتمع ليس «نائل» إلّا فتيله ليس أكثر، ويحتاج الأمر إلى محاولة فهم بمقاربات أكثر جدوى.
ثقل الجريمة التي ارتكبت ضد نائل بدم بارد لا يمكن قبولها، الصور مرعبة مهما كانت حجج المعتدي. كان يمكن تفادي «الفوضى» والتكسير الهمجي، والاكتفاء بـ «المسيرة البيضاء» التي تعيد لنائل بعض حقوقه الرمزية، إلا أنه يجب ألّا ننسى أننا أمام جزء من المجتمع الفرنسي، يرزح اليوم تحت ثقل المخدرات والعزلة والبطالة والضياع الكلي، وتحت وطأة الممارسات العنصرية التي أطلق «سراحها» في السنوات الأخيرة بحيث أصبحت عادية ودون عقوبات، شباب لا يملكون أي «قيادة» حقيقية تستقطب غضبهم وتحوله إلى قوة واعية ورافضة وتجعل من «العدمية» التي أصابت أجيالاً متراكمة، قبل أن تنتقل اليوم إلى الجيل الرقمي الجديد الذي يعيش داخل عالمين متناقضين، عالم الصورة والسعادة الافتراضية الوهمية، وعالم الواقع البائس، داخل أحياء بدأت تتحول إلى غيتوهات مظلمة. هناك طاقة احتجاجية رافضة للوضع المعيش، ولكنها طاقة «عدمية» Nihiliste تتجلى بصورة عنيفة تنقلب ضدها في النهاية أكثر مما تخدمها، وتنتقل من فعل المظلوم إلى الظالم.
أحداث الحرق والنهب تظهر هذه الطاقة غير الموجهة، فتحولت من حالة رافضة للجريمة العنصرية إلى حالات تخريب مجاني، غطّتها لحظة بلحظة قنوات إخبارية معروفة بخياراتها المتطرفة والعنصرية. ولم تفعل ذلك خدمة للإعلام، ولكن لابتذال قضية عادلة ومطلبية وتحويلها إلى ممارسات عدوانية مضادة لفرنسا وللحضارة، وغاب فعل القتل المجاني و«العنصري» تحت زجاج المحلات المتطاير والنّهب المنظّم.
على مدار السنوات الماضية، جعلت الحركات المتطرفة من العنصرية حصان رهاناتها لحماية «فرنسا الحقيقية» من هجوم المغتربين الذين أصبح عددهم مخيفاً، الذي سيحول الأقلية إلى أكثرية، أو ما سماه أرنو كامو بـ «الإحلال الكبير» Le Grand remplacement. لهذه الحركات التي لم تلجم، قانونياً، المسؤولية الكبيرة في الوضع التي تعيشه فرنسا اليوم. هذا الانفصال المجتمعي الذي لم يختره «المغتربون» دفع بجزء مهم منهم إلى الشعور بأنهم ليسوا فرنسيين إلا على الورق.
لا يكفي أن تكون فرنسي المولد ولا من عائلة فرنسية على مدار جيلين أو ثلاثة أجيال مادامت الأصول تقع خارج الدائرة الأوروبية. هذه الأحداث الخطيرة أعادت إلى الواجهة «الخطابات الوطنية» الكاذبة التي يتخفى تحتها «العنصريون الجدد» الذين وجدوا في الأحداث والفوضى فرصتهم للحديث عن «مجتمعين متضادين في الجسد الواحد»؛ الأول فرنسي حقيقي وحضاري، والثاني مجتمع غريب همجي، معاد للحضارة والثقافة الفرنسيتين. وكأن المنتفضين عبارة عن «فيكينغ» غزاة أو «وندال» لا شغل لهم إلا تدمير فرنسا. سخافة وضحالة فكرية تدل على سذاجة اليمين المتطرف وبعض النخب الفرنسية التي تهرب من تاريخها وجزء من مكونها الداخلي.
إن الذين نزلوا إلى الشوارع فرنسيون بامتياز، ولا حل خارج استيعاب هذا الجزء من المعادلة الوطنية، وإلا ستتسع الأزمة في السنوات القليلة القادمة، وتصبح أكثر خطورة. يبدو أن ساسة الإيتابلشمنت الفرنسي لم يستفيدوا قط من أحداث الضواحي في 2005. يعيدون إنتاج التصورات الاختزالية السهلة نفسها.
لماذا لم يطرح هذا التقسيم المجتمعي الفرنسي المزدوج أيام أحداث أصحاب «السترات الصفراء» Les Gilets Jaunes الذين أخرقوا الأخضر واليابس؟ أو إضرابات قانون التقاعد؟ لماذا لم يقل وقتها إن هناك مجتمعين، واحد فرنسي حضاري وآخر همجي؟ الحقيقة المرة هي أن هناك جزءاً من المجتمع الفرنسي غاضب من الممارسات السياسية الخاطئة وغير المسؤولة، غير مهيكل وغير منظم، يعيش داخل «عدمية» انتقامية يمكن استغلالها من الحركات المتطرفة نفسها. حتى ما سمي بـ «الصحوة الدينية» التي مست المغتربين أغرقتهم في دائرة العزلة التي جعلت من المجتمع الذي يعيشون فيه عدواً تجب محاربته (الأفعال الإرهابية). وتم الخلط بين المجتمع الفرنسي وبعض نخبه العنصرية التي ترى في «الأجنبي» (العربي والمسلم) خطراً على ثقافتها وتوازنها.
العنصرية لا قاع لها؛ فهي في كل مرة تحفر قاعاً جديداً للتدمير وخوض الحرب المقدسة ضد جزء غير يسير من المجتمع الفرنسي.
دم نائل لم يبرد بعد حتى سارع جون مسيحا، أحد أنصار المتطرف إيريك زمور، بفتح حساب «كانيوت» على موقع غو فاوند مي، لتجميع المال لـ «مساعدة» عائلة شرطي نانتير، فلوريان «الذي يدفع اليوم ثمن القيام بواجبه الوطني»، وقد تم جمع 800 ألف يورو. درجة عليا من العنصرية حيث لا قيمة للقتيل ما دام عربياً أو مسلماً؟ أية نخبة سياسية وثقافية تدير اليوم جزءاً مهماً من سياسة البلاد؟
ذاكرة مالك أوسكين ما تزال حية منذ 1986. الفرق الوحيد هو أن النخبة الثقافية الفرنسية وقتها كانت في عز قوتها وعطائها، كشفت الحقيقة وأدانتها ونظمت مسيرات احتجاجية كثيرة جعلت من ذاكرة مالك أوسكين لحظة تاريخية ضد العنصرية. اليوم غابت تلك النخبة وحلت محلها قنوات التطرف، حيث الصحافي «المتخصص» و«الموظف» الذي يتلقى أوامره من خط القناة العنصري، هو سيد الساحة. ويحول الحادثة المركزية المتعلقة بالاغتيال العنصري العلني إلى خبر ثانوي في نشرة الأخبار، وتمت التغطية كلياً على مقتل نائل الذي كان الفتيل الذي أشعل البلاد كلها.

المصدر: 
القدس العربي