منذ إطلاق برنامج استرجاع الأرشيف الوطني للحقبة الاستعمارية، يواصل المغرب مساعيه لجمع الوثائق الرقمية والأصلية لهذه المرحلة المهمة من تاريخ البلاد.
ووجهت مؤسسة أرشيف المغرب خلال العام الماضي مراسلة رسمية لنظيرتها الفرنسية، تطالب فيها باستعادة الوثائق الأصلية لأرشيف المقاوم المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي بطل معركة أنوال، غير أن هذه المطالب قوبلت بالرفض من الجانب الفرنسي.
إصرار ورفض
بمناسبة الذكرى المئة لمعركة أنوال -التي انهزم فيها الجيش الإسباني هزيمة ثقيلة أمام المقاومة في الريف المغربي في الشمال عام 1921- كانت مؤسسة أرشيف المغرب تأمل إحياء هذه الذكرى باسترجاع أرشيف قائد تلك المعركة المقاوم محمد بن عبد الكريم الخطابي، والذي تحتفظ به فرنسا، غير أن الجواب الفرنسي كان مخيبا للآمال.
وكشف مدير مؤسسة أرشيف المغرب جامع بيضا للجزيرة نت أن إدارة الأرشيف الفرنسي اقترحت إعادة تلك الوثائق بالصيغة الرقمية، وهو ما لم يوافق تطلعات المغرب.يقول جامع بيضا "تحتفظ فرنسا بأرشيفات أنتجتها الإدارة الاستعمارية في المغرب خلال فترة الحماية، وعند إعلان استقلال المغرب أخذ الفرنسيون معهم تلك الوثائق".
وتعد هذه الوثائق إنتاجا خاصا للإدارة الاستعمارية، غير أن وضع أرشيف محمد عبد الكريم الخطابي مختلف، حسب ما قال جامع بيضا.وأوضح "عندما انهزم الخطابي سنة 1926 بعد هجوم فرنسي إسباني مشترك، فضل الاستسلام للجيش الفرنسي، هذا الأخير قرر نفيه إلى جزيرة لاريونيون، وخلال النفي استولى على جميع الوثائق التي تخص هذا المقاوم ونقلها إلى فرنسا".وبالنسبة لمؤسسة الأرشيف المغربي، فهذه الوثائق ليست ملكا للإدارة الاستعمارية، بل سلبتها من الخطابي واستولت عليها، لذلك تصر على استرجاع الوثائق الأصلية.غير أن إدارة الأرشيف الفرنسي تحتج بالقانون الذي تقول إنه لا يسمح لها بتفويت الأرشيف الأصلي مهما كان مصدره، ويحتاج تسليمه إلى مبادرة سياسية من أعلى هرم في الدولة.
ويضم أرشيف محمد عبد الكريم الخطابي الذي يطالب به المغرب، مئات المراسلات الإدارية المتعلقة بتنظيم الجيش والعلاقات الخارجية مع الجمعيات والصحافيين ورجال أعمال أجانب، وهي وثائق مهمة تتعلق بفترة الحاسمة في تاريخ المقاومة المغربية.
ويعتقد الباحث والكاتب إدريس الكنبوري أن رفض فرنسا تسليم هذه الوثائق يرجع إلى تخوفها من أن تغير تلك الوثائق وجهات النظر السائدة المتعلقة بتاريخ تلك المرحلة.ويضيف للجزيرة نت "ما يتم ترويجه أن الخطابي أسس جمهورية في الريف، يستخدم لتبرير التحالف الفرنسي الإسباني ضد المقاومة الريفية؛ وهناك رواية فرنسية إسبانية لهذه المرحلة؛ لذلك فإن الأرشيف قد يسقط تلك الرواية".
أرشيف الحقبة الاستعمارية
أعلنت الحكومة المغربية في المذكرة التقديمية لمشروع الموازنة 2023 عن مواصلة برنامج استرجاع الأرشيف الوطني للحقبة الاستعمارية (1912- 1956) من الخارج.وحسب المصدر نفسه، فقد مكن هذا البرنامج منذ إطلاقه عام 2008 إلى غاية أواخر يونيو/حزيران 2022 من استرجاع 3 ملايين و900 ألف وثيقة من مجموع 20 مليون وثيقة.وتهتم مؤسسات رسمية في المغرب باسترجاع وجمع الأرشيف المغربي، من أهمها مؤسسة أرشيف المغرب التي تأسست بظهير ملكي عام 2007.ومن بين المهام المنوطة بها، جمع مصادر الأرشيف المتعلقة بالمغرب والموجودة في الخارج، ومعالجتها وحفظها وتيسير الاطلاع عليها.
وحسب مؤسسة أرشيف المغرب، فإنها وقعت، بتنسيق مع وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، العديد من الاتفاقيات مع المؤسسات القائمة على تدبير الأرشيف بعدد من الدول الأجنبية، وتكللت بجمع الملايين من النسخ الرقمية لوثائق وصور وخرائط تتعلق بفترات مضت من تاريخ المغرب.
وتتوزع هذه الأرصدة بين أرشيفات عمومية وأخرى خاصة، ومن بين هذه الأرشيفات نسخ رقمية لوثائق أرشيف المفوضية الفرنسية بمدينة طنجة في الفترة الممتدة ما بين 1892-1904، ونسخ رقمية لسجلات تهم التلغراف الخاص بمؤسسة البريد بمدينة الرباط في الفترة الاستعمارية الممتدة من 1913 إلى غاية 1918.
إلى جانب ذلك، هناك نسخ رقمية ووثائق أصلية وصور كانت في ملكية شخصيات تقلدت مسؤوليات في الإدارة الاستعمارية في مرحلة الحماية.ويؤكد جامع بيضا أهمية جمع الوثائق والمراسلات والصور المتعلقة بالمرحلة الاستعمارية، معتبرا أن نقل أرشيف البلاد إلى مكان آخر هو بمثابة بتر جزء من الهوية.
ويوضح بيضا "عندما ينقل أرشيف دولة ما في ظروف مثل الحرب والاستعمار إلى مكان آخر، فإنها تسعى جاهدة لاسترجاعه لأنه جزء من هويتها، ويتضمن الكثير عن الجانب التاريخي والإنثربولوجي والاقتصادي والسوسيولوجي (الاجتماعي) وحتى الهندسي للبلد".
وقال مدير مؤسسة أرشيف المغرب إنه راسل وزارة الخارجية المغربية بخصوص الأرشيفات الموجودة عند بعض الأطراف الأجنبية، واقترح عليها أن تطرح هذه القضية في لقاءات رفيعة المستوى مع تلك الأطراف عندما ترى وزارة الخارجية الوقت مناسبا.
الأرشيف هو الذاكرة
بالنسبة للباحث الكنبوري، فإن الأرشيف يتعلق بالذاكرة، واسترجاعه يعني استرجاع الذاكرة التاريخية الشعوب.ولفت إلى أن أول شيء قام به الغرب منذ الحروب الصليبية هو سرقة الكتب والمخطوطات العربية والإسلامية ونقلها إلى مكتباته؛ لأنه يعرف أن السيطرة على الأرشيف يعني السيطرة على التاريخ؛ ولذلك نرى اليوم أن هذه المخطوطات متفرقة بين كبريات المكتبات والخزائن الأوروبية.ويوضح أن أهمية أرشيف المرحلة الاستعمارية تكمن في كونها تكشف الكثير من الحقائق التي بإمكانها أن تساعد على إعادة كتابة التاريخ الوطني؛ لأن "الكتابة التاريخية ترتبط بالوثيقة، والوثيقة هي الأرشيف" وفق تعبيره.ويشير الكاتب إلى أن أرشيف المرحلة الاستعمارية لمنطقة المغرب العربي قد يعيد النظر في التاريخ الحديث الذي روجته فرنسا؛ خصوصا ما يتعلق بالعلاقات المغربية الجزائرية وتاريخ المغرب في تلك الحقبة.